فلسَفتنا
دراسة موضوعية في معترك الصراع الفكري القائم بين مختلف التيارات الفلسفية وخاصة الفلسفة الإسلامية والمادية الديالكتيكية
محمد باقر الصدر
غزا العالم الإسلامي, منذ سقطت الدولة الإسلامية صريعة بأيدي المستعمرين, سيل جارف من الثقافات الغربية, القائمة على أسسهم الحضارية, ومفاهيمهم عن الكون, والحياة والمجتمع. فكانت تمد الاستعمار إمداداً فكرياً متواصلاً, في معركته التي خاضها للإجهاز على كيان الأمة,
وسر أصالتها, المتمثل في الإسلام.
وفدت بعد ذلك إلى أراضي الإسلام السلبية, أمواج أخرى من تيارات الفكر الغربي, ومفاهيمه الحضارية, لتنافس المفاهيم التي سبقتها إلى الميدان, وقام الصراع بين تلك المفاهيم الواردة, على حساب الأمة, وكيانها الفكري والسياسي الخاص.
وكان لا بد للإسلام أن يقول كلمته, في معترك هذا الصراع المرير, وكان لا بد أن تكون الكلمة قوية عميقة, صريحة واضحة, كاملة شاملة, للكون, والحياة, والإنسان, والمجتمع, والدولة والنظام, ليتاح للأمة أن تعلن كلمة (الله) في المعترك, وتنادي بها, وتدعو العالم إليها, كما فعلت في فجر تاريخها العظيم.
وليس هذا الكتاب, إلا جزء من تلك الكلمة, عولجت فيه مشكلة الكون, كما يجب أن تعالج في ضوء الإسلام, وتتلوه الأجزاء الأخرى, التي يستكمل فيها الإسلام علاجه الرائع, لمختلف مشاكل الكون والحياة.
فلسفتنا هو: مجموعة مفاهيمنا الأساسية عن العالم, وطريقة التفكير فيه. ولهذا كان الكتاب ـ باستثناء التمهيد ـ ينقسم إلى بحثين: أحدهما نظرية المعرفة, والآخر المفهوم الفلسفي للعالم.
ومسؤولية البحث الأول في الكتاب تتلخص فيما يلي:
أولاً: الاستدلال على المنطق العقلي, القائل, بصحة الطريقة العقلية في التفكير وان العقل, بما يملك من معارف ضرورية فوق التجربة, هو المقياس الأول في التفكير البشري, ولا يمكن أن توجد فكرة فلسفية. أو علمية دون إخضاعها لهذا المقياس العام, وحتى التجربة التي يزعم التجريبيون أنها المقياس الأول, ليست في الحقيقة إلا أداة لتطبيق المقياس العقلي, ولا غنى للنظرية التجريبية عن المنطق العقلي.
وثانيا: درس قيمة المعرفة البشرية بالتدليل على أن المعرفة, إنما يمكن التسليم لها بقيمة على أساس المنطق العقلي لا المنطق الديالكتيكي الذي يعجز عن إيجاد قيمة صحيحة للمعرفة.
وهدفنا الأساسي من هذا البحث, هو تحديد منهج الكتاب في المسالة الثانية, لأن وضع مفهوم عام للعالم, يتوقف قبل كل شيء على تحديد الطريقة الرئيسية في التفكير, والمقياس العام للمعرفة الصحيحة, ومدى قيمتها. ولهذا كانت المسألة الأولى في الحقيقة بحثا تمهيدياً للمسألة الثانية. والمسألة الثانية هي المسألة الأساسية في الكتاب التي نلفت القارئ إلى الاهتمام بها بصورة خاصة.
والبحث في المسألة الثانية, يتسلسل في حلقات خمس. ففي الحلقة الأولى نعرض المفاهيم الفلسفية المتصارعة في الميدان, وحدودها. ونقدم بعض الإيضاحات عنها.
وفي الحلقة الثانية نتناول الديالكتيك, بصفته اشهر منطق ترتكز عليه المادية الحديثة اليوم, فندرسه دراسة موضوعية مفصلة بكل خطوطه العريضة, التي رسمها هيجل وكارل وماركس, الفيلسوفان الديالكتيكان.
وفي الحلقة الثالثة ندرس مبدأ العلية وقوانينها التي تسيطر على العالم, وما تقدمه لنا من تفسير فلسفي شامل له, ونعالج عدة شكوك فلسفية, نشأت في ضوء التطورات العلمية الحديثة. وننتقل بعد ذلك إلى الحلقة الرابعة المادة أو الله, وهو البحث في المرحلة النهائية من مراحل الصراع بين المادية والإلهية, لنصوغ مفهومنا الإلهي للعالم, في ضوء القوانين الفلسفية, وفي ضوء مختلف العلوم الطبيعية والإنسانية.
وأما الحلقة الأخيرة, فندرس فيها مشكلة من أهم المشاكل الفلسفية, وهي الإدراك, الذي يمثل ميداناً مهما من ميادين الصراع بين المادية والميتافيزيقية. وقد عولج البحث على أساس فلسفي, وفي ضوء مختلف العلوم ذات الصلة بالموضوع, من طبيعة وفسيولوجية وسيكولوجية.
هذا هو الكتاب في مخطط إجمالي عام, تجده الآن بين يديك, نتيجة جهود متظافرة طيلة عشرة اشهر, أدت إلى إخراجه كما ترى وكل أملي أن يكون قد أدى شيئاً من الرسالة المقدسة بأمان وإخلاص. وارجوا من القارئ العزيز, أن يدرس بحوث الكتاب دراسة موضوعية, بكل إمعان وتدبر, تاركاً الحكم له أو عليه, إلى ما يملك من المقاييس الفلسفية والعلمية الدقيقة, لا إلى الرغبة والعاطفة. ولا أحب له أن يطالع الكتاب, كما يطالع كتاباً روائياً, أو لوناً من ألوان الترف العقلي والأدبي.
المفضلات