فوائد العشرة الأواخر من شهر رمضان المبارك




دخلت أيام العشر من رمضان، وجاءت أعظم أيام المجاهدة؛ حيث ينتظر المتقون جائزة الرب، وجاء الاعتكاف، فاجتمع للمجاهدة فضل الوقت، وفضل العمل معاً, لذلك كانت لهذه الأيام وظائف مخصوصة ينبغي أن تجتمع مع تلك الوظائف التي بدأها المؤمنون من أول رمضان.
إن هذه الأيام العشر وهذه الليالي العشر هي بداية المجاهدة مرة أخرى، بداية العودة مرة أخرى إلى أن يتململ المرء بين يدي ربه، وأن يبذل له، وأن يري ربه منه ما يكون سبب رضا الله عنه، وسبب فتح الله عليه، وسبب جود الله تعالى عليه، وسبب محبة الله له، وسبب إقبال الله عليه، وسبب انتشال الله جل وعلا له مما هو فيه، سبب حفظ الله له، وسبب دفاع الله عنه، وسبب مدد الله جل وعلا له, هذه الأيام هي أيام ذلك، فإذا كانت قد فاتتك كل ما سبق من الأيام، ولم تشعر فيها بما ينبغي مما أشرنا إليه، فإن الله تبارك وتعالى بكرمه وجوده ومنه وفضله ما زال يفتح لهؤلاء المؤمنين، هذه الليالي وتلك الأيام، ليستعيدوا فيها قوتهم ويجددوا فيها نشاطهم ويقبلوا فيها على ربهم وينتظروا فيها جائزة الرب سبحانه وتعالى، فكلما دنت الأيام على الانتهاء، وكلما قرب ظهور النتيجة ازداد اجتهاد المرء وازداد قربه، يود أن تظهر نتيجته تبيض وجهه، يود أن تكون نتيجته حسنة وعاقبته الحسنى في هذه الأيام وألا يخيب ، كما قال صلى الله عليه وسلم : « رَغِمَ أَنْفُ امْرِئٍ أَتَى عَلَيْهِ رَمَضَانُ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ، رَغِمَ أَنْفُ امْرِئٍ أَتَى عَلَيْهِ رَمَضَانُ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ، رَغِمَ أَنْفُ امْرِئٍ أَتَى عَلَيْهِ رَمَضَانُ، أَبْعَدَهُ اللَّهُ، أَدْخَلَهُ اللَّهُ النَّارَ، قُلْ: آمِينَ، قُلْتُ: آمِينَ »([1]).
وهذا الجد وهذا الاجتهاد مما ينبغي أن يكون شعار المتقين الذين يريدون ألا يمر عليهم رمضان إلا وقد أخذوا جائزتهم، ألا يمر عليهم رمضان مرغومو الأنف ينتظرون رمضان الآخر بهذه الوسيلة السيئة من وسائل الشيطان، وإنما تطول مواصلتهم على هذا الحال ؛ ليحققوا جائزة ربهم سبحانه وتعالى، وليفوزوا بمغفرته فإذا ما عيَّدوا كان حقا لهم أن يُعيدوا ساعتها، وإذا أفطر فرح كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم : « لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ؛ إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ، وَإِذَا لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى فَرِحَ بِصَوْمِهِ» ([2]) وجد هذا الصوم الذي كانت عاقبته المغفرة والعتق من النار وجده يشفع له يوم القيامة، كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم يدخل الصائمون من باب الريان حتى لا يدخله غيرهم.
جاءت هذه الأيام ومازال الشعار الذي قد رفعناه – وهو التصميم على تحقيق أسباب المغفرة - مازال قائماً، وأن يبذل المرء فيه ما يُرِى اللهَ تبارك وتعالى منه حسن الأداء وحسن الإقبال، ويرى الله تبارك وتعالى فيه الصدق والعمل والإخلاص، ويُرِى اللهَ تبارك وتعالى كأنه حزين على ترك هذا الإقبال على ربه، وحزين على ترك هذا البذل، أو حزين على ضعف هذه الهمة، وفصم هذه العزيمة، والإرادة في الإقبال على الله تعالى، وأنه يود أن تتوجه هممه كلها، وأعماله كلها، وأقواله كلها في ظاهره وباطنه إلى رضا ربه ومحبته والتعلق به إلى أن يكون مستعدًّا لآخرته، مقبلا على ربه يحسن جهاده، وسيره له ويحاول البذل مما أعطاه الله تعالى من مال وجهد ووقت وصحة وفراغ وجاه وسلطان ؛ ليكون ذلك كله في عمله لله فيزداد منه في الأولى والآخرة: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ } [ إبراهيم: 7], زاهدًا في الدنيا، راكنًا إلى الآخرة قد، تجافى عن دار الغرور، وظهرت عليه تلك المحاب والرضا لله جل وعلا.

—– وظائف العشر الأواخر:—–

لذلك كان ينبغي لهذه الأيام أن تبدأ بالتوبة والاستغفار وإصلاح الباطن، وأن يستمر ذلك فيها، ليهيئ المرء نفسه وقلبه لجائزة الله تبارك وتعالى، وأن يصلح ما فاته من هذه الأيام التي تكاسل فيها، وتباطأ فيها، والتي انشغل فيها عن الله جل وعلا والتي شملت الغفلة فيها أحواله وأفعاله، والتي لم يحصل فيها من قرآنه وذكره ما يملأ قلبه نورا وإيمانا، وما يربطه على هذا القلب ويثبته، ويجد نفسه مقبلا على الآخرة لا تؤثر فيه الشهوات، ولا تؤثر فيه الشبهات، يجد نفسه ثابتًا قويًّا راسخًا في أقدامه في السير إلى الله تبارك وتعالى، لا يجد نفسه مطية للشيطان والهوى، وما زال مترددًا، و منفرط العقد والشمل، لا، وإنما ينبغي أن يرى نفسه على هذا الحال الذي يحبه ربه جل وعلا، لذلك كانت هذه العشر هي الفرصة الأخيرة التي ينبغي أن يتفكر الناس في أن الله تعالى فتحها لهم، ويوشك أن تنتهي كما انتهى رمضان من قبل.

—– الاعتكاف وإحياء الليل واعتزال النساء ——
وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأيام أنه: «كَانَ إِذَا دَخَلَ العَشْرُ أَحْيَا اللَّيْلَ وَجَدَّ وَشَدَّ الْمِئْزَرَ وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ » ([3]) هذه مهماته ووظائفه في العشر صلى الله عليه وسلم، كان إذا دخل العشر جد صلى الله عليه وسلم وشد المئزر وأحيا الليل وأيقظ أهله، كل ذلك كان يحققه صلى الله عليه وسلم بالاعتكاف إلى الله جل وعلا.
بأن يعتكف قلب المرء وقالبه وجسده على ربه سبحانه وتعالى, وأن يمتنع من مخالطة الناس، وألا يقترب من أنفاس الخلق ليخلو بالله جل وعلا، وليتأسَّبه المؤمنون وتكون هذه الخلوة بالله تعالى سببا في إصلاح معاشهم ومعادهم وسببا في تهيئة قلوبهم وجوارحهم لتحقيق أسباب المغفرة، وسببا لتوفير الوقت والجهد والصحة، كل ذلك في هذه الأيام يواصل فيها ليكون سببا في أن يغفر الله له، وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وهو ليس له ذنب أصلًا- صلى الله عليه وسلم - وإنما هو في درجة الشكر: « أَفَلا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا » ([4]) كما قال صلى الله عليه وسلم .
قد كان صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر حتى إذا كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يومًا، وكان على كثرة أشغاله صلى الله عليه وسلم من الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعليم العلم والقيام على مصالح المسلمين، لا يمنعه شيء من ذلك البتة أن يعتكف هذه العشر لله تعالى ؛ لتكون:
أولا سنده ومئونته في بقية عامه، لتكون قوته ومدده،
والثانية، لتكون سببًا في مواصلة الليل بالنهار لتحقيق جائزة الرب،
والثالثة ليلتمس فيها ليلة القدر، « مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ » ([5])
فكانت هذه الأشغال والوظائف التي ينبغي أن تسيطر على أعمال الناس في هذه العشر، النبي لم يكن محتاجًا صلى الله عليه وسلم إلى ذلك كله ، فقلبه موصول بربه، وذكره لا يفتر، وعمله لا يكل، ولا يمل من المحبة والإقبال والسعي للرب جل وعلا، هو أعلى الناس في الدنيا والآخرة لهذه الدرجة صلى الله عليه وسلم ، لا درجة أعلى من درجته في ذلك، وهي الوسيلة التي لا تنبغي إلا لعبد واحد هو النبي صلى الله عليه وسلم ، لذلك كان المؤمنون لا بد أن يسيروا على هذا الحال الذي كان عليه في درجته، إذا أرادوا أن يحققوا هذه الأسباب من التماس ليلة القدر، من الإقبال على الله تعالى، من الاستعداد لتحقيق جائزة الرب والفوز بها، وألا تكون أشغال الدنيا ومعوقاتها سببا في أن تمنعك عن ذلك لأنك أيها المسكين لست أعلى درجة منه صلى الله عليه وسلم .
فإذا ما جاءك الشيطان ليقول لك: لا تستطيع الاعتكاف هذا العام، إن شاء الله العام القادم سوف تعتكف مائة يوم، وسوف تعتكف العام كله، وسوف تخرج في سبيل الله بقية عمرك، كل هذا من تسويل الشيطان ليضيع عليك هذه الأيام التي ينبغي أن تواصل فيها ليلك بنهارك, لذلك قالت السيدة عائشة وأنس رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم: « إِذَا دَخَلَ العَشْرُ قَامَ اللَّيْلَ » ([6]) كان يقوم ليله صلى الله عليه وسلم لا يفتر فيه، ينتظر أن يصادف ليلة القدر في أي وقت من ليالي العشر الآكد فيها في الوتر.
وقد كان كثير من الأئمة كالإمام أحمد وغيره رضي الله عنهم يمتنعون عن الكلام في الاعتكاف مع أحد، حتى ولو بالعلم والدراسة ليعتكف على ربه، وأن ينظر في هذه الشحنة التي ينبغي أن يحصلها، وفي أسباب المغفرة التي يجب أن يجاهد نفسه عليها.
وكان يوقظ أهله في هذه الأيام يوقظ أهله في تلك العشر، كل من أطاق الصلاة أقامه للصلاة ليشهد هذا الخير، وليشهد تلك الرحمة، وليشهد تلك النفحات من نفحات الله جل وعلا، وليكون كل أحد يأخذ نصيبه من رحمة الله تعالى، وأن تصيبه بركات الرب جل وعلا، وأن يتنزل عليه ما يتنزل من جود الله تعالى وكرمه وإحسانه في تلك الليالي، وجدّ وشد المئزر، شد المئزر: كناية عن اعتزال النساء في هذه العشر،
و “جدّ”َ: يعني اجتهد فيها ما لا يجتهد في غيرها , يعني إن كان يصيب نومًا في العشرين الأولى من رمضان في هذه الأيام ما كان يصيب نومًا ولا غمطا،طوى فراشه صلى الله عليه وسلم واعتزل النساء وقام لله تعالى.ولذلك لما كان النبي صلى الله عليه وسلم ينتظر هذه الليالي من ليالي القدر، ويقبل عل شأنه، ويرتب أحواله، وينظر فيما عند الله، ويأتنس بالله تعالى، ويأخذ قسطه من تفريغ القلب والبال لله جل وعلا، وتفريغ الوقت والجهد والصحة للعبادة والنظر في سيره إلى الله تعالى، وإقباله عليه،
وذُكر عن السلف أنهم كانوا يتزينون في هذه الليالي، يعني بعد أنهم يقومون ليلهم ويوقظون أهلهم ويجدون، ويشدون المئزر، ويتفرغون وقوفا وقياما ليلهم ونهارهم لله تعالى، ينتظرون هذه الجائزة، يرفعون أيديهم إلى الله تعالى ألا يخيبهم، وأن يعطيهم، وأن يحسن إليهم، مع ذلك كله كانوا يتزينون لهذه الليالي التي يرجى فيها ليلة القدر يتزينون في ظاهرهم , والزينة الباطنة هي الأهم، كان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من يكون له حلة جديدة، كان تميمرضي الله عنه له حلة جديدة يلبسها ليلة القدر، ثم يطويها إلى العام القادم، يتهيأ فيها لملاقاة الله تعالى والدخول على الرب جل وعلا، ويتزين به لينظر هذه الجائزة من الله جل وعلا.
وهذه الزينة الظاهرة مما ينبغي أن يحرص عليه الناس من أن يغـتسلوا في ليالي الوتر التي تتأكد فيها ليلة القدر، وأن يتزينوا فيها، وأن يزينوا مساجدهم، ينتظرون بهذه الزينة الظاهرة دخولهم على ربهم سبحانه، مع علمهم أنه لا تنفع هذه الزينة الظاهرة إلا بأن تتم بالزينة الباطنة، يعني بإصلاح القلب والتوبة إلى الله تعالى، والخروج من المظالم والآثام والمعاصي، والعزم على ألا يعود لذنب أبدا، ويستغفر الله تعالى على ما كان، ويصلح بينه وبين ربه، وبينه وبين الناس، يرجو بهذه الزينة الباطنة أن يدخل على الله، إذ ما قيمة أن يكون شكله في الخارج مزينا هذه الزينة وباطنه على هذا السوء من هذه الأخلاق السيئة، والتكاسل عن الله تعالى وطول الأمد، ومن الحقد والحسد والغل، ومن القطيعة والبغضاء والشحناء، ومن الغفلة عن الله جل وعلا وعدم الاستعداد للقائه، فأنى يحصل جائزة الرب: « مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ» ([7]) لم يكن الله تعالى ليمنعه طعامه وشرابه المباح ليثيبه عليه، ثم يلابس هو الحرام.
والأمر التالي أن النبي صلى الله عليه وسلم في درجته العالية كان يواصل هذه الأيام، فقد ورد الحديث بقوله: «إنك تواصل»، والحديث يبين أنه صلى الله عليه وسلم كان يواصل أيامه الأخيرة بالذات يعني كان يواصل ليله بنهاره لا يُفْطِر صلى الله عليه وسلم ، توفيرًا للوقت والجهد، وتفريغا للقلب والبال والهم، لِأَن يقبل على ربه سبحانه وتعالى، وما كان يأتيه من ربه من الفتوحات الإلهية والسعادات الربانية التي تنزل عليه بمعرفة ربه ومحبته والإقبال عليه والطمأنينة لذكره، كانت هذه غذاءه كما ذكر من ذكر في ذلك، لذلك كان يقول: «لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ , أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي» ([8]) والمراد : أنه لا يطعمه طعامًا وشرابًا , وإلا لم يكن مواصلاً ولا صائمًا صلى الله عليه وسلم، وإنما كان ما يهل عليه من فتوحات الرب سبحانه وتعالى ومن ذكره ومن الإنس به والإقبال عليه، وتلك النفحات العظيمة نفحات الله جل وعلا.
لذلك كان يواصل، وواصل أصحابه رضي الله عنهم، كما كان هو يواصل صلى الله عليه وسلم ليقتدوا به في ذلك، وليتفرغوا لعبادة الله تعالى، ويشغلوا همهم وبالهم بالإقبال على ربهم ينتظرون جائزته، ويلتمسون تلك الليلة ليلة القدر صادفوها، نهاهم عن الوصال صلى الله عليه وسلم وقال: «مَنْ كَانَ مُوَاصِلًا فَلْيُوَاصِلْ إِلَى السَّحَرِ » ([9]) وجعلوا فيها أكلة واحدة في السحر إفطارًا وسحورًا، ويفرغون الوقت كله لله تعالى .. للأنس به .. لاستغفاره… للبحث في أعمالهم وأقوالهم …. لتحسين معاملاتهم مع ربهم … لمحاسبتهم لأنفسهم …. إلى غير ذلك مما يكون سببًا للتأهل للفوز بجائزة الرب، ويكون كذلك سببًا لتحصيل ليلة القدر.
انظر إلى تصميمهم على المواصلة حتى واصل بهم صلى الله عليه وسلم يومًا ويومًا حتى ظهر الهلال, فدل ذلك على أنه كان يواصل عندما تدخل هذه الأيام الأخيرة قرب تعرض المرء للرحمة والعتق من النار، يواصل ليله ونهاره لا يأكل ولا يشرب ، يفرغ وقته وجهده للصلاة والعبادة والقيام, ليكون أدعى إلى أن يراه الله تبارك وتعالى على هذه الحالة، حتى إذا خرج إلى صلاة العيد أفطر على هذه التمرات التي رأيناها من سنته صلى الله عليه وسلم.
فهذا كان اعتكافهم وهوعلى خلاف ما نحن فيه من رؤية هؤلاء المعتكفين الذين كل همهم الاستئناس بالناس والكلام وتضيع الوقت والتأخر عن الصلاة، ويأكل ويشرب شيئًا، كذا وكذا، حتى تفوته الركعات الطويلة ، ثم ينام بعد ذلك كأنه قد جاهد وقتل نفسه وفعل ما لم يفعله الأولون والآخرون!
فلم تأت هذه العشر ليقول صلى الله عليه وسلم: نريد أن ننام قليلا، نريد أن نستريح قليلا ! إنما كانت راحته وسعادته في أن يكون قائما لربه، كما ذكر تعالى:{وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً }[ الفرقان: 64]، وكما قال هو صلى الله عليه وسلم : «وَجُعِلَتْ قُرَّة عَيْنِي فِي الصَّلاةِ » ([10]) لا يكون قرير العين ولا يكون سعيدا، ولا يكون أبدا مسرورا إلا في هذه الصلاة التي يتكاسل عنها الناس، والتي يودون أن يتخففوا منها بألا يقوموا فيها!
والحالة التالية التي كانوا عليها: أنهم كانوا في نهاية أعمالهم يزداد اجتهادهم ويزداد سعيهم ويواصلون ليلهم ونهارهم, لقرب ظهور النتيجة، حتى يكون ذلك سببًا لتحصيل جائزة الله حتى يكون سببًا لأن يختم لهم بالخاتمة الحسنة في هذه الأعمال, ها قد أوشكت النتيجة أن تظهر، ومن الذي يقال له نعم هذا من الناجحين إن شاء الله تعالى أو هذا من أصحاب الدرجات العالية، أو أنه قد انتهى رمضان ولم يستشعر شيئًا من ذلك وأن النتيجة إنما هي الخيبة التي ينتظرها، فلا ينتظر درجة عالية، ولا ينتظر قبولاً فضلاً أن ينتظر الجائزة الكبرى من الله تعالى؛ لذلك كان يسيطر عليهم في نهاية الأيام عند قرب ظهور النتيجة الاجتهاد الزائد , على عكس المؤمنين اليوم , ما أن تقترب نهاية أعمال الطاعات حتى يصيبهم الكسل والفتور والإحباط ويميلون إلى الرجوع إلى سيرتهم الأولى.
والنقطة الثانية هي أنه إذا كانت خاتمة الأعمال لهم هو الاجتهاد وليس الملل والفتور والتردد وليس انفراط الحال؛ فإنه يوشك أن يكون بعد رمضان أحسن حالاً وأقرب إلى الله تعالى وأثبت على طريقه سبحانه وتعالى، أما أن تصل في نهاية العمل إلى الفتور وإلى الملل وإلى قلة الأعمال وأن تعود نفسك إلى ما كانت عليه من الكسل ومن التواني والدعة يوشك أن يزداد عليك ذلك بعد رمضان؛ فما أن ينتهي رمضان حتى تعود مرة أخرى إلى ترك القيام والصيام والذكر وقراءة القرآن , وهي الحالة السيئة التي تصيب المؤمنين بعد نهاية رمضان كأنهم لم يقوموا ولم يصوموا كأنهم لم يقبلوا على ربهم كأنهم لم يقرأوا قرآنه؛ فهذه الحالة تستوجب إذن من المؤمنين اليوم أن يواصلوا يومهم ونهارهم وليلهم على الاجتهاد الزائد صلاة وذكرًا وقرآنًا.
والنقطة التالية التى ينبغي أن تكون في محل نظر المؤمنين من هذه اللحظة أنهم ما كانوا يهتمون بشدة البذل في العمل والاجتهاد فيه قدر ما كانوا يهتمون بقبول هذه الأعمال، يعنى أنهم في أعمالهم كانوا يبذلون وقتهم وجهدهم ومالهم وأنفسهم، ثم يأتون في نهاية العمل يترقبون هل تقبل منهم أو لا، فالمرء اليوم بعد أن يبذل وقته في صيامه وقيامه وماله ونفسه وأن يجتهد الاجتهاد الزائد في كل الطاعات،
يقف منتظرًا هل قُبل بعد ذلك أو لا؟
فهذا بعد اجتهادهم الشديد -ليس بعد تفريطهم وتقصيرهم ونومهم وكسلهم- وإنما كان المعهود من أحوالهم المسارعة , كما بيَّن الله تعالى حالتهم أنهم يسارعون إلى الله تعالى في بذل المال والنفس وإذا لم يجدوا ما يبذلونه لله تعالى بكوا وفاضت أعينهم من الدمع حزنًا ألا يجدوا ما ينفقون، ثم وصف الله تعالى حالتهم في نهاية أعمالهم ؛ أول ما يسيطر عليهم ويقلقهم ويقض مضجعهم هل قبلت أعمالهم أو لا لذلك رأينا الله تعالى يذكر هذه الآية :{وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ }[ المؤمنون: 60] وتقول السيدة عائشة : يصومون ويصلون ويتصدقون وكذا وكذا من الأعمال الصالحة يعني ثم يخافون ألا يتقبل منهم ([11]) وهو تفسير قول الله تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ }[ المائدة: 27], وقد فتح رمضان لتقوى الله تعالى, فمن الذي حصل هذه التقوى ليأتي في نهاية العمل ليقول قد تقبلت أعماله وانتظر جائزة الله تعالى؟
لذلك كان ابن عمر يقول: لو علمت أن الله تعالى تقبل مني مثقال ذرة من عمل أو درهمًا واحدًا صدقة ما كان غائب أحب إلي من الموت ([12]) فإن الله يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } [ المائدة: 27] فإن قيل لم يبق له في الدنيا شيء، هو كان يعمل على سبيل المغفرة، وعلى سبيل العتق من النار، وعلى سبيل رحمة الله تعالى على سبيل أن يتقبل الله تعالى عمله ذلك، أن يتوب عليه فيخلصه من النار {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ } [ آل عمران: 185] وها قد فاز فما البقاء في الدنيا؟
هو يعمل كل ذلك في الدنيا لهذه اللحظة {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } [ المائدة: 27]…
فلذلك كانوا أشد اهتمامًا بقبول العمل بعد شدة العمل والاجتهاد فيه , وهذا الحال ينبغي أن يعتري المؤمنين اليوم أن ينظروا ماذا قدموا ليكون هذا العمل لائقا بالمغفرة ثم ينظرون في هذا العمل اللائق بالمغفرة هل قبل أو لا؟ كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم : «خَابَ وَخَسِرَ مَنْ أَتَى عَلَيْهِ رَمَضَانُ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ» ([13]) لم يقبل عمله، ورُدَّ هذا العمل ولم يكن سبب المغفرة.