لكل فرد شخصيته المتميزة، ولكنه في الوقت نفسه مشترك مع الآخرين في الكثير من مظاهر تلك الشخصية، إن في الشخصية نوعاً من الثبات يبدو في أساليبها واتجاهاتها وشعورها باستمرار هويتها، ولكن فيها كذلك نوعاً من التغير وإلا لما كان من الممكن فهم النمو والتربية، ومن هنا يكون أمر إحاطة الشخصية بتعريف شامل أمراً صعباً، قد يتجه التعريف نحو تمييزها عن غيرها، وقد يتجه نحو ائتلاف الصفات التي تكوّنها وتنطوي عليها, قد يذهب إلى ما يبدو في سماتها أو إجراءاتها، ومن هنا نصادف عدداً غير قليل من أشكال تعريف الشخصية، ويجب في التعريف الصالح أن ينتبه إلى وحدتها وتفردها من جهة، وإلى كثرة عناصرها وإمكان القياس فيها من جهة أخرى.


ذهبت بعض الأبحاث في طبيعة الشخصية إلى القول بوجود أنماط منها واتجه “فرويد” نحو الأعماق ليرى الشخصية في مكوناتها الثلاثة “الهو والأنا والأنا العليا”، وجاءت نظرية السمات تلح على السمة من حيث هي ائتلاف بين عدد من الصفات المترابطة، وعلى الشخصية من حيث هي ائتلاف بين مجموعة من السمات يمكن بحثها موضوعياً ويمكن حصرها، أما نظرية التعلم فتتجه في دراسة الشخصية نحو عملية التكوين التدريجي الذي يشغل فيه التعلّم وظيفة رئيسية، إلا أن فهم طبيعة الشخصية يقتضي الإحاطة بتلك العوامل الكثيرة التي تتدخل في تكوين الشخصية المتميزة بنوع من الثبات ونوع من التغير ونوع من الوحدة، وليست الحياة داخل الأسرة، وحالة أجهزة الجسد والشروط الاجتماعية المحيطية، وقدرات الشخص العامة، سوى الروائز الأساسية بين العوامل المتفاعلة في تكوين الشخصية.


ولقد أصبحت الشخصية موضوعاً للقياس بناءً على الاتجاه العلمي في دراستها وملاحظتها وقد نتج عن ذلك وجود عدد من الركائز المختلفة التي تستعمل في الكشف عن حالة استوائها وفي تشخيص ما يمكن أن يكون لديها من انحراف وفي حالات اضطرابها، والعمل في بناء المزيد من هذه الروائز لا يزال مستمراً.
ولذلك نجد بأن علماء النفس يدرسون سلوك الإنسان ويتبعون في الغالب اتجاهين بارزين يظهر الأول تحليلياً يفصل الحياة النفسية إلى عناصر فاعلة وفكرية وانفعالية، ويدرس كل جانب على حدة ويظهر الثاني تركيباً ينظر إلى الحياة النفسية كوحدة متكاملة تؤلف ما يدعى الشخصية.


من خلال ما تكلمنا نخلص إلى القول بأن الشخصية تعريفاً حسب قول “أولبورت” هي تنظيم دينامي داخل الفرد لتلك الاستعدادات الجسدية والنفسية التي تحدد للفرد طريقته الخاصة في التكيف مع بيئته.


أما “إيزنك” فعرفها بقوله: إنها المجموع الكلي لأنماط السلوك الفعلية الكامنة لدى الفرد التي تتحدد بالوراثة والبيئة وتتطور من خلال التفاعل الوظيفي لأربعة قطاعات رئيسية تنتظم فيها تلك الأنماط السلوكية: القطاع المعرفي “الذكاء” القطاع النزوعي “الخلق” القطاع الوجداني “المزاج” القطاع البدني “التكوين”.
ومن خلال هذين التعريفين نستنتج العناصر الأساسية في مفهوم الشخصية:
1- الشخصية كينونة وسلوك: فهي تكوين جسدي عصبي نفسي تصدر عنه أشكال السلوك العقلية والخلقية والمزاجية ضمن نظام تترابط فيه الجوانب المختلفة لهذا التكوين.


2- الشخصية وحده تنطوي على عدد من العناصر، فتحليل الشخصية يكشف عن وجود الجوانب العقلية بقدراتها المتعددة وفاعلياتها المتنوعة من إدراك وتذكر وتخيل وإبداع وغيرها من الجوانب الانفعالية والعاطفية والدامغة، وما يلحق بذلك من ميول واتجاهات وكذلك من عادات وأساليب فردية في التصرف، ولكن جميع هذه العناصر حين تجتمع في شخصية فرد ما لا تبقى مستقلة عن بعضها بل تندمج مؤلفة تنظيماً واحداً يختلف عن مجرد اجتماع تلك العناصر.


3- الشخصية نموذج فريد إذ بالرغم من وجود الجوانب السابقة الذكر في كل شخصية مما ينشئ بعض التشابه في شخصيات الناس، فإن صفات تلك الجوانب تختلف من فرد إلى آخر مما ينشئ اختلافاً بين السمات السلوكية لكل فرد كماً ونوعاً، ويجعل كل شخصية ذات طابع خاص تتميز به عن شخصيات الآخرين.


4- الشخصية كل متفاعل فعناصرها تتفاعل مع بعضها ومع العوامل المحيطة أيضاً وتحصل بذلك تأثيرات متبادلة تؤدي إلى التعديل في الجوانب المتفاعلة وبذلك تبقى متلائمة مع ذاتها ومع المحيط هذا في الجانب السوي وعندما يحصل انحراف تبدأ الشخصية بالتطرف سلباً أو إيجاباً وهذا ما سوف نتكلم عنه في بحثنا هذا “وخاصة عن الشخصية التدميرية”.


ولكن نجد أن جوانب الشخصية تتضمن نواحي وظيفية هي التفكير والانفعال والإحساس والحدس حسب تصنيف “يونغ” وهي لا تكون بدرجة واحدة عند جميع الناس بل تغلب إحداها على الفرد فتطبع سلوكه بطابعها ويصبح الناس موزعين على النحو التالي:


1- الإنسان المنطلق: وهو عقلاني يغلب عليه التفكير، يهتم بالوقائع والحقائق العالمية والتصنيفات المنطقية أو يغلب عليه الانفعال، فيحاول إقامة صلات حارة مع الآخرين وينزع للتلاؤم مع العالم.


2- غير عقلاني يغلب عليه الإحساس فيتجه نحو المظاهر الاجتماعية ونحو طلبات الآخرين أو يغلب عليه الحدس، فيستجيب للنظير والمغامرة، ويحكم على الآخرين بسرعة.


3- المنطوي العقلاني: يغلب عليه التفكير يتجه نحو الذات، والأمور الخاصة، يكثر التأمل نظرياً، بعيد عن الواقع غير عملي، يغلب عليه الانفعال فينزع للتناسق الداخلي ويشتغل بأحلامه الخاصة ومشاعرة.


4- المنطوي غير العقلاني: يغلب عليه الإحساس فيتجه نحو الخبرات الحسية ويغلب عليه الحدس، يتجه نحو التأمل الذاتي، يكون “سويعاتي” ويؤخذ بالطقوس الدينية.


ما الذي يكون الشخصية ويؤثر فيها؟


بالرغم من تعدد الدراسات والأبحاث فما تزال هناك نقاط عديدة في هذا الموضوع لم تنجل ولم تتحدد تماماً لذلك يبقى الجوانب: هناك تداخل وراثي في تكوين الشخصية تكون فيما بينها وحدة متشابكة من المؤثرات وهي:


1- الأسرة: حجمها، تركيبها، انسجامها، معاملة الأبوين للأبناء.
2- المدرسة: المدرس، الإدارة، النظام بمكوناته المختلفة، الأصدقاء.
3- المجتمع: ثقافته، حضارته، المستوى الاجتماعي والاقتصادي.


وأي انحراف في هذه المؤثرات سوف ينعكس على شخصية الفرد سلباً أو إيجاباً مع اختلاف تقبل الفرد لهذا الانحراف إذ تجد بأن الكثير من الناس الأسوياء يعانون من حياة الفقر والحاجة ويذوقون الأمرين لتأمين لقمة العيش، ولكن لا ينعكس هذا على سلوكهم اليومي مع أسرتهم وعلاقاتهم مع الآخرين في عملهم ومجتمعهم، وهكذا …


والآن سوف نطلق كلمة “تدمير” على كل عمل ضار يقوم به الإنسان سواء على نفسه أو على الآخرين وسوف أتناول ببحثي هذا هذه الفئة من الناس لماذا تفعل ذلك وما هي جوانب شخصيتها وما هي العوامل المؤثرة في هذه الشخصية؟
ولكن يجب التفريق بين القسوة والعدوان المتكيفة بيولوجياً مع الفرد بأنها فعل فطري أي أن الإنسان يدمر ما حوله ليستطيع البقاء أو الحيوان يدمر الحيوان الذي يواجهه ليستطيع البقاء أو النبات يأكل أو يتسلق على نبات آخر ليستطيع العيش وهذا كله سلوك فطري للبقاء، أما ما أقصده فهو السلوك التدميري أو القساوة التي مفادها العدوان فهو سلوك مرفوض، ولكن أنا ضد فكرة أن الإنسان يدمر ما حوله ليستطيع البقاء لماذا لا يبني مع محيطه ليستطيع البقاء؟


وعلينا أن نميز بين نوعين من العدوان مختلفين كل الاختلاف، الأول يشترك فيه الإنسان مع كل الحيوانات وهو دافع إلى الهجوم أو إلى الفرار، عندما تتهدد مصالحه الحيوية، وهذا الدافع مبرمج وفقاً للنشوء النوعي، وهذا هو العدوان الدفاعي “غير الخبيث” وهو في خدمة بقاء الفرد والنوع، ومتكيف بيولوجياً، ويزول عندما يزول التهديد عن الوجود، والنط الآخر “العدوان الخبيث” أي القسوة والتدميرية خاص بالنوع البشري وغائب إجمالاً عن الحيوانات وهو ليس مبرمجاً وفقاً للنشوء البشري ولا متكيفاً بيولوجياً، وليس له مآرب وإشباعه شهواني، ومهما يكن فالإنسان يختلف عن الحيوان بأنه قاتل والإنسان هو الوحيد من فصيلة الرئيسات الذي يقتل ويعذب أعضاء نوعه من دون أي سبب، سواء أكان بيولوجياً أم اقتصادياً والذي يشعر بالرضا في فعله ذلك ،وإن هذا العدوان “الخبيث” غير المتكيف بيولوجياً هو الذي يشكل المشكلة الحقيقية والخطر الحقيقي على وجود الإنسان بوصفه نوعاً، ويفتح الأساس النظري إمكانية البحث في الأشكال المختلفة للعدوان الخبيث الراسخ في الطبع، ولاسيما “السادية” وهي عاطفة السيطرة غير المحدودة على كائن آخر قادر على الإحساس و”النكروفيليا” عاطفة تدمير الحياة والانجذاب إلى كل ما هو ميت ومضمحل، وميكانيكي صرف، وهذا سوف يذكرنا بشخصيات تاريخية “ذات طبع سادي مدمر” في الماضي القريب: كستالين، هملر، هتلر..
والحقيقة هي أن كل العواطف البشرية “الخيرة” والشريرة” على السواء لا يمكن أن تفهم إلا أنها محاولة شخص لجعل معنى لحياته وتجاوزه المبتذل، مجرد الوجود المحافظ على الحياة، ولا يكون تغير الشخصية ممكناً إلا إذا كان في مقدور المرء أن “يهدي نفسه” إلى طريقة جديدة في جعل معنى للحياة بتحريك عواطفه الرافدة للحياة، ولكن شتان بين من يبني ومن يدمر، لأن السلوك التدميري يدمر الحياة والجسم والروح للمدمر والمدمَر، إنهما انقلاب الحياة على نفسها وضد ذاتها بيد الإنسان التدميري وهذا بحد ذاته انحراف وفهمه لا يعني التغاضي عنه، ولكن إذا لم نفهمها لا يكون لدينا سبيل إلى تبين كيف نقلل منهما وما هي العوامل التي تزيدهما.


ولهذا الفهم أهمية خاصة حيث تتناقص الحساسية إزاء التدميرية، القسوة بسرعة، وتتزايد النكرو فيليا، الانجذاب إلى ما هو ميت، ومضمحل، وعديم الحياة، وآلي صرف في كل مجتمعنا الصناعي المرتبط بعلم التحكم.


والسلوك السوي للإنسان يحب الخير لنفسه وللآخرين، لمجتمعه وللمجتمعات الإنسانية الأخرى، يحب الكون لأنه جزء هام ورئيسي فيه، أما السلوك التدميري فهو يتلذذ بتدمير نفسه والآخرين ومجتمعه ومجتمعات الآخرين، يتلذذ بتعذيبهم ويفرح لأحزانهم حتى ولو كانوا غير معروفين بالنسبة له، فكم من حروب شُنت ومات فيها الملايين، ولم يكن لهؤلاء ذنب فيها.


من هو الشخص العدواني التدميري؟
جرت دراسات كثيرة على فئات مختلفة من الأفراد وفي أماكن مختلفة من الأعمال والأسر.
ولم تستطع هذه الدراسات أن تحدد بالضبط لماذا هذا الشخص مختلف عن الآخر بسلوكه، ولكن أعطتنا هذه الدراسات بعض السمات والمؤثرات التي كانت على الشكل التالي:
- الإحباط والشعور باليأس والفشل يؤدي إلى سلوك عصابي استفزازي يؤدي إلى التدمير والعدوان، والعامل المهم في حدوث الإحباط هو “طبع الشخص” فالشخص الشديد الجشع مثلاً، سوف يستجيب بالغضب عندما لا ينال ما يريد، ويشعر النرجسي بالإحباط عندما لا ينال ما يتوقعه من الثناء والتقدير، وكذلك “شدة استجابته للإحباط”.
- الشعور بالدونية المملوء بالعقد النفسية، وخاصة ما يتعلق بالعنصر الاقتصادي فهو ضعيف الإنجاز إمكاناته محدودة، فهو دائم التذمر والغضب والانفعال، يكسر كل ما حوله ويدمره. ابتداء من نفسه والآخرين.