عضو مميز
- معدل تقييم المستوى
- 24
اثر الموسيقي علي النفس
أثر الموسيقي علي النفس
عازف تشيلو من " سراييفو"
" بول سوليفان"
كنت مدعواً كعازف بيانو إلى مشاركة عازف التشيلو " يوجين فريزين" في مهرجان التشيلو العالمي بمدينة " مانشستر" ، إنجلترا، فكل عامين يجتمع مجموعة من أعظم عازفي التشيلو حول العالم وآخرون مهتمون بهذه الآلة الموسيقية _ صانعي الآلات الوترية وهواة الجمع والمؤرخين _ لمدة أسبوع في روش عمل وفصول للموهوبين والندوات والحفلات الموسيقية. وفي كل ليلة، يجتمع ستمائة مشارك أو نحو ذلك في حفل موسيقى.
اشتملت الليلة الافتتاحية للحفل الموسيقي بجامعة " رويال نورثرن كولج أوف ميوزك" على عزف التشيلو المنفرد وغير مصحوب بعزف على الآلات الأخرى، وعلى خشبة المسرح في أثناء الحفل الموسيقي الكبير كان هناك كرسي منفرد، دون بيانو أو دون حامل النوتة الموسيقية أو منصة قائد الفرقة الموسيقية. فكان هذا الحفل معتمداً على موسيقى التشيلو الخالصة والمكثفة، وكان الجو العام مشحوناً بالتوقع والتركيز.
وكان عازف التشيلو الشهير " يو يوما" أحد العازفين في تلك الليلة من شهر " أبريل" عام 1994، وكانت هناك قصة مؤثرة وراء المقطوعة الموسيقية التي كان سيعزفها.
ففي 27 " مايو" عام 1992، في " سراييفو" ، كان هناك واحد من الخبازين القلائل الذين تبقى لديهم مخزون من الدقيق يكفي لعمل الخبز وتوزيعه على الشعب الجائع والمدمر بفعل ويلات الحرب، وفي الساعة الرابعة عصراً كان هناك طابور طويل في الشارع، وعلى حين غرة سقطت قذيفة هون مباشرةً على منتصف الطابور، وأسفرت عن مقتل اثنين وعشرين شخصاً؛ فتناثرت الأشلاء والدماء والعظام والحطام.
وليس ببعيد عن مسرح هذا الحدث، كان يعيش عازف موسيقى يبلغ من العمر خمسة وثلاثين عاما يدعى " فيدران سميلوفيك" . وقبل اشتعال فتيل الحرب، كان " فيدران سميلوفيك" يعمل كعازف تشيلو في أوبرا " سراييفو" ، وظيفة مميزة كان يتوق بصبر للرجوع إليها. ولكنه حينما رأى الأشلاء المتطايرة من تلك المذبحة خارج نافذته، فاض به الكيل ولم يعد يقوى على تحمل المزيد. فقد عزمه وهو متألم على أن يقوم بأفضل ما يستطيع: عزف الموسيقى بكل أنواعها: موسيقى شعبية وشبابية.
وخلال الاثنين والعشرين يوماً التالية وفي الساعة الرابعة عصراً، ارتدى " سميلوفيك" كامل ملابسه الرسمية التي يرتديها في الحفلات الموسيقية ممسكاً بالتشيلو الخاص به وترك شقته متوجهاً إلى وسط المعركة الثائرة من حوله، ثم وضع كرسياً بلاستيكيّاً بجانب الحفرة التي خلفتها القذيفة، وبدأ في عزف إحدى المقطوعات الخاصة بـــ " توماس البينيو" وكانت مقطوعة كلاسيكية حزينة للغاية. عزف المقطوعة للشارع المهجور وللعربات المهمشة والمباني المحترقة وللناس المذعورين المختبئين في الأقبية وسط قذف القنابل وسيل الرصاصات. ووسط انفجار المباني من حوله، وقف بشجاعة غير متصورة تمثل كرامة الإنسان من أجل من فُقدوا في الحرب ومن أجل الحضارة الإنسانية ومن أجل الأمان والسلام، وعلى الرغم من استمرار تساقط القذائف من حوله، فإنه لم يُصَبْ بأذى.
وبعد أن تناقلت الصحف قصة ذلك الرجل الرائع، تأثر " ديفيد وايلد" ، الملحن الإنجليزي لدرجة أنه قرر أن يعزف الألحان الموسيقية؛ فألف مقطوعة موسيقية بعزف التشيلو المنفرد بعنوان " عازف تشيلو من" سراييفو" " والتي قام فيها بتجسيد مشاعره من غضب وحب وأخوة عازفاً إياها مع " فيدران سميلوفيك" .
وكانت مقطوعة " عازف تشيلو من " سراييفو" " هي ما عزفها " يو _ يوما" في هذه الأمسية.
صعد " يوما" على خشبة المسرح وانحنى لتحية الجمهور وجلس على الكرسي بسرعة. وبدأت الموسيقى تتسلل إلى القاعة الصامتة لتلقي بظلالها على الكون الفارغ والمشئوم والمتربص. وببطء بدأت وتيرة اللحن تتصاعد إلى صرخات هائلة تتملكنا جميعاً قبل أن تهدأ وكأنها حشرجة الموت الجوفاء، وفي النهاية عاد الصمة مرة أخرى.
وحينما انتهى من العزف، ظل " يوما" منحنياً على آلة التشيلو الخاصة به، وقوس العزف يستند إلى الأوتار. لم يتحرك أحد في القاعة أو لم يصدر صوتاً لمدة طويلة. وبدا الأمر وكأننا نشهد المذبحة المروعة بأنفسنا.
وفي النهاية، نظر " يوما" إلى الجمهور بحثاً عن شيء ما، ثم مد يديه وأومأ إلى شخص ما ليصعد على خشبة المشرح. ثم سرت صدمة كهربائية لا يمكن وصفها حينما أدركنا من هذا الشخص: غنه " فيدران سميلوفيك" _ " عازف تشيلو من " سراييفو" " !
وقف " سميلوفيك" تاركاً مقعده ثم سار بين المقاعد وحينها ترك " ما" خشبة المسرح ليستقبله. واحتضنا بعضهما بقوة. هكذا، تأثر جميع من كانوا في القاعة وسرت نوبة من الاهتياج والعاطفة _ تصفيق وصياح وهتاف.
وفي منتصف كل ذلك وقف هذان الرجلان يحتضنان بعضهما البعض ويبكيان بدون خجل. لقد بكى كل من " يو _ يو ما" أمير الموسيقى الكلاسيكية الرائع والمهذب، الذي لا يعاب في خلق او خليقة، و" فيدران سميلوفيك" الذي كان يرتدي سترة جلدية ملطخة ورثَّة، وكان شعره الطويل الغجري وشاربه الضخم يجعلانه يبدو أكبر من سنه، ويغطيان وجهه الذي ملته الدموع وظهرت به التجاعيد من كثرة الألم.
تأثر جميعنا بأعمق وأنبل المشاعر الإنسانية عند مقابلة هذا الرجل الذي لوح بآلته الموسيقية التشيلو في وجه القنابل والموت والدمار متحدياً إياهم.
وبعد أسبوع عدت إلى ولاية " مين" ، وجلست في إحدى الأمسيات أعزف على البيانو للمقيمين بدور محلية لرعاية مسنين، ولم أستطع منه نفسي من عقد مقارنة بين هذا الحفل الموسيقى والروعة التي شهدتها في المهرجان، ثم صعقت عندما وجدت تشابهات عميقة بينهما. بموسيقاه يتمكن عازف التشيلو من تحدي الموت واليأس ويحتفل بالحب والحياة. وها نحن نفعل ما هو أشبه بذلك؛ فإننا أشبه بكورس من الأصوات القوية التي تغني ويصاحبها عزف لبيانو عتيق. لم يكن هناك أي قنابل او رصاص، ولكن كان هناك ألم حقيقي _ الرؤية المعتمة والوحد المؤلمة وجميع المخاوف التي تتراكم في نفوسنا على مدار سنوات الحياة _ وذكريات عالقة بالذهن تمثل لنا السلوى، وعلى الرغم من كل هذا، ها نحن نغني ونصفق.
وفي هذه الأثناء أدركت أن الموسيقى هي نعمة وعطية نشترك فيها بالتساوي، سواء أكنا نؤلفها أم نستمع إليها ببساطة؛ فهي نعمة يمكنها أن تهدئنا وتلهمنا وتوحدنا وخصوصاً عندما نحتاج إليها بشدة_ ونستبعد تماماً احتياجنا لها.
يمتلئ عالم اليوم بساحات المعارك _ بمعناها الحرفي في بعض الحيان أو معارك على الصعيد الاجتماعي أو العاطفي أو الروحي في أحيان الأخرى؛ فبالتأكيد جميعنا يعرف أناساً يشعرون، مع اختلاف الأسباب، بدرجات مختلفة من اليأس والقنوط. ربما تكون أرزاقهم مهددة أو ربما يساورهم قلق حيال أفراد الأسرة أو ربما تكون حالتهم الصحية في تراجع؛ فحينما رأى " فيدران سميلوفيك" من هم في حاجة، ترك الأمان والسكينة المتمثلة في منزله و" عقد عزمه على القيام بأفضل ما لديه" ، تمثل ذلك في عزف الألحان الموسيقية.
المفضلات