عضو مميز
- معدل تقييم المستوى
- 24
المكر النافع
المكر النافع
أصر على الجلوس بجانب النافذة، وواضح أن علاقته بوالدته رائعة، فقد كانت تتحدث إليه وكأنه شاب كبير مع أن عمره لا يزيد عن خمس سنوات، أغلقت الطائرة أبوابها فيما كان المضيفون يمرون على الركاب للتأكد من ربطهم للأحزمة، وحين وصلت إليه المضيفة طلبت منه أن يربط حزامه، وفجأة ظهرت على وجهه علامات الرفض، فسمعتُ أمه تحاول إقناعه بربط الحزام فيما هو يحاول إقناعها بالعكس وحجته أنه يريد مشاهدة الطائرة وهي تقلع،
وفجأة سمعته يطلب من أمه غطاء، لبت طلبه وأحضرت له بطانية وهي تتمتم: تريد بطانية والجو ليس باردا…غطى بها جسمه وجلس، وتساءلت لمِ َطلب الغطاء وسط النقاش؟ وانتابني شك أنه هرب من ربط الحزام بتغطية نفسه بالبطانيه، وبعد إقلاع الطائرة سمعت أمه تقول له: يبدو أنك نسيت ربط الحزام؟ نظر إليها بعينين ماكرتين وابتسامة ماكرة أيضا وكأن لسان حاله يقول: لم أنس ولكني تناسيت واحتلت على طلبك.. إن قدرة الإنسان على إيجاد الحلول لمشكلاته آلية ميز الله بها أفضل مخلوقاته عن غيره من الكائنات،
وتذكرت قول أبي حنيفة: «إن الناس يجدون من الفتاوى بقدر ما يستجد لهم من مشكلات»، وتساءلت هل من الحكمة أن ننمي لدى أولادنا هذا النوع من المكر الإيجابي؟ بمعنى هل من الحكمة أن ندع عقولهم تجد حلولا لمشكلات يواجهونها؟ أم الأفضل أن نجبرهم على تنفيذ ما نعتقد أنه حل لمشكلاتهم فنحرم عقولهم من ابتكار الحلول؟ وهل لهذا النوع من الحرمان علاقة بإتكالية بعض الناس على غيرهم في إيجاد الحلول؟ وهل ما نجده من غضب لدى شريحة من الناس عند مواجهتهم للمشكلات له علاقة بهذا النوع من التربية التي تحرم الأطفال من التفكير وإيجاد الحلول؟
ولا أنسى -بهذه المناسبة- مقابلة تلفزيونية لوزيرة البيئة اليابانية مع إحدى القنوات الفضائية العربية وقد سبق لتلك الوزيرة أن درست في القاهرة وكانت تتقن العربية، ومن بين الأسئلة التي طرحتها المذيعة عليها: لماذا تتعاملون مع المشكلات بهدوء في حين أننا في الثقافة العربية نفقد أعصابنا حين تواجهنا المشكلات؟ فأجابت: إننا نرحب بالمشكلات لأنها تعيننا على إعمال عقولنا وتتحداها، إذ لا يمكن للعقل أن يعمل بصورة فعالة إلا إذا واجه المشكلات، فهي وحدها التي تدفع العقل للبحث عن الحلول وحين نجد حلا لأية مشكلة نكون قد زدنا من رصيد خبرتنا وثقتنا بأنفسنا،
وفي الحوار الذي دار بين النبي عليه الصلاة والسلام ومعاذ بن جبل رضي الله عنه حين أرسله إلى اليمن توضيح لهذا المنهج حيث قال له النبي صلى الله عليه وسلّم: «بمَ تحكم؟» قال: بكتاب اللـه تعالى، قال صلى الله عليه وسلّم:»فإن لم تجد؟» قال: بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلّم، قال صلى اللـه عليه وسلّم:»فإن لم تجد؟» قال رضي الله عنه: أجتهد رأيي، فضرب في صدره وقال: «الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله لما يُرضي رسول الله». والسؤال: ألم يكن بمقدور رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضع لمعاذ رضي الله عنه خطة ويقول: احكم أولا بما ورد في كتاب الله، فإن لم تجد فبسنة رسوله، وإن لم تجد اجتهد رأيك؟ لاشك أنه كان يستطيع فعل ذلك ولكن حواره كان تدريبا لمعاذ كي يُعمل عقله نظرا لحاجة من وُلي عليهم لهذا النوع من الرجال الذين يملكون القدرة على مواجهة المشكلات بعقول تفكر وليس بمشاعر تضطرب فيتعطل تفكيرها.
المفضلات