لم يكتب لنظرية أن تكون مألوفة وشائعة بالشكل الذي أصبحت عليه نظرية الذكاءات المتعددة، التي أصبح صاحبها «جاردنر» Howard Gardner من ألمع علماء النفس المعاصرين، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، ما سر شيوع هذه النظرية وانتشارها دون غيرها من نظريات الذكاء؟


يرجع الفضل في شيوع نظرية الذكاءات المتعددة ليس لكونها نظرية علمية بل جاءت من
الدعم والجهود الكبيرة المبذولة في الدوائر التربوية التي تحاول تطبيق تلك النظرية
في ميدان التربية والتعليم. حيث أوضح «جاردنر» أن نظرية الذكاءات أصبحت تمثل الإطار
النظري والبناء الفلسفي للتربية وإعداد المناهج وطرق التدريس والتقييم في عديد من
المدارس، لدرجة أنه توجد مدارس قائمة على فلسفة نظرية الذكاءات المتعددة، وبات يطلق
عليها مدارس الذكاءات المتعددة MI Schools في الولايات المتحدة الأمريكية.


ويذكر أنه أثناء استعراض «جاردنر» للمصادر المختلفة لدراسة الملكات الإنسانية، كان
يفكر في أفضل طريق يمكن الكتابة بها على اكتشافاته. فقد فكر في استخدام مصطلحات مثل
Abilities, Gifts, Talents, Capacities, Skills, Potentials. ولكنه أدرك أن كل كلمة
من هذه الكلمات لها عيوبها وغير ملائمة وأخيرًا اختار كلمة من علم النفس هي الذكاء
Intelligence، وجمعها على غير قواعد اللغة لتصبح Intelligences، حيث إن كلمة ذكاء
لا تجمع لأنها لا تعد. ويذكر «جاردنر»، إنه إذا كان اختار كلمة Seven مثلًا ربما لم
تكن ستستحوذ أو تلفت الانتباه الذي حدث مع الذكاءات أو Frames of mind ورغم أن له
عديدًا من المؤلفات غير أن نظرية الذكاءات المتعددة أعطته الشهرة. فهو يعرف الآن بـ
«أبو الذكاءات المتعددة» Father of multiple Intelligences.






يرى «جاردنر» أن هناك براهين مقنعة تثبت أن لدى الإنسان عدة كفاءات ذهنية مستقلة
نسبيًا يسميها «الذكاءات الإنسانية». أما الطبيعة الدقيقة لكل كفاءة ذهنية منها
وحجمها فليست أمرًا محددًا بدقة، وكذلك الأمر فيما يتعلق بعدد الذكاءات الموجودة
بالضبط، كما يرى أنه من الصعب أن نتجاهل وجود عدة ذكاءات مستقلة عن بعضها البعض
نسبيًا، وأن بوسع الفرد وكذا محيطه الثقافي أن يشكلها أو يكيفها جميعًا بطرق
متعددة، على أن مفهوم الذكاء لديه يختلف عن المفهوم التقليدي، فهو يعطيه معنى
عامًا، إن الذكاء لديه هو القدرة على إيجاد منتوج لائق أو مفيد، أو أنه عبارة عن
توفير خدمة قيمة للثقافة التي يعيش فيها الفرد. كما يعد الذكاء مجموعة من
المهارات التي تمكن الفرد من حل المشكلات التي تصادفه في الحياة. وبهذا التعريف
نجد «جاردنر» يبعد الذكاء عن المجال التجريدي والمفاهيمي ليجعله طريقة فنية في
العمل والسلوك اليومي، وهو بذلك يعطيه تعريفًا إجرائيًا يجعل المربين أكثر تبصرًا
بأهدافهم وعملهم.


إن الذكاء وفق «جاردنر» عبارة عن إمكانية بيولوجية يجد له تعبيره فيما بعد كنتاج
للتفاعل بين العوامل التكوينية والعوامل البيئية، ويختلف الناس في مقدار الذكاء
الذي يولدون به، كما يختلفون في طبيعته، كما يختلفون في الكيفية التي ينم�''''''''''''''''ون بها
ذكاءهم. ذلك أن معظم الناس يسلكون وفق المزج بين أصناف الذكاء، لحل مختلف المشكلات
التي تعترضهم في الحياة. وبالتالي يظهر الذكاء بشكل عام لدى معظم الناس، بكيفية
تشترك فيها كل الذكاءات الأخرى، وبعد الطفولة المبكرة لا يظهر الذكاء في شكله
الخالص. ومعظم الأدوار التي ننجزها في ثقافتنا هي نتاج مزيج من الذكاءات في معظم
الأحيان، فلكي تكون عازفًا موسيقيًا بارعًا على الكمان، لا يكفي أن يكون لديك ذكاء
موسيقي، بل تكون لديك لياقة بدنية أيضًا، والمهندس ينبغي أن يكون لديه بدرجات
متفاوتة، كفاءات ذهنية؛ ذات طابع فضائي ورياضي ومنطقي وجسمي.




تأسست نظرية الذكاءات المتعددة (MI) من خلال البحوث والدراسات التي أفضت إلى نقد
المفهوم التقليدي للذكاء الذي يعتمد على اختبار الذكاء أو المعامل العقلي (QI)،
الذي وضع في بداية القرن العشرين (1905) من قبل «بينيه» A.Binet وزميله «سيمون
تيودور» لقياس التخلف الدراسي للتلاميذ بطلب من الحكومة الفرنسية آنئذ، إذ إن هذا
الاختبار لمعامل الذكاء لا يقيس في الحقيقة سوى بعض القدرات لدى المتعلمين، فهو
يركز فقط على دراسة المقدرة اللغوية والمقدرة المنطقية-الرياضية، ومن أظهر مقدرة
جيدة في هذين الجانبين فإنه يتسم بالذكاء، وبالتالي يستوعب المواد الدراسية، ويمكنه
ولوج المدارس العليا والجامعات؛ ولكن السؤال عن إمكانية نجاحه في الحياة بعد
التخرج، فهي مسألة لا يستطيع التنبؤ بها، ثم هل النجاح في الحياة يقتضي فقط الإلمام
الواسع باللغة والرياضيات والمنطق؟


وفي هذا الإطار، وجهت بعض الانتقادات لطريقة المعامل العقلي (QI) المتمثلة في
اختبار«بينيه» والاختبارات الأخرى المنبثقة عنه، كاختبار«ستانفورد - بينيه»،
واختبارات «كسلر» وغيرها، ومن هذه الانتقادات أن :


الإجابات المختصرة التي يقدمها الشخص المفحوص عن طريق الاختبارات لا تكفي للحكم على
ذكائه.


المعامل العقلي مهما نجح في التنبؤ باستعدادات التلميذ في استيعاب المواد الدراسية،
فهو غير قادر على تقديم تصور متكامل عن مختلف استعداداته العقلية، وتحديد ذكائه
الحقيقي.


الكفاءة المهنية التي يتمتع بها بعض الناس، لا يمكن إرجاعها فحسب إلى مسألة الذكاء
المجرد، بالمعنى التقليدي للذكاء، كما لا يمكن لمقاييس الذكاء المعروفة تقييم تلك
الكفاءة.






وعليه فإن نظرية الذكاءات المتعددة تنطلق من مبدأ أشبه ما يكون بمسلمة لديها، وهو
أن كل الأطفال البشريين العاديين يولدون ولديهم كفاءات ذهنية متعددة، منها ما هو
ضعيف ومنها ما هو قوي. ومن شأن التربية الفعالة أن تنمي ما لدى المتعلم من قدرات
ضعيفة وتعمل في نفس الوقت على زيادة وتنمية ما هو قوي لديه. إن نظرية الذكاءات
المتعددة بعيدة عن ربط الكفاءات الذهنية بالوراثة الميكانيكية التي تسلب كل إرادة
للتربية وللوسط الذي يعيش فيه الفرد وينمو. إنها نظرية تأخذ بنتائج الأبحاث في مجال
علم الحياة، التي ما فتئت تبرز كل يوم المرونة الكبيرة التي يتميز بها الكائن
البشري وخاصة في طفولته.