كانت السفينة الحربية العملاقة تمضي بسرعة كبيرة عندما أظهرت أجهزة الرادار جسما كبيرا يوشك على الاصطدام بها، كان الأمر مربكا لجميع طاقم السفينة، إلا أن قائدها وهو القبطان المخضرم الذي أمضى أكثر من نصف عمره بين الأمواج ذهب مسرعا إلى جهاز اللاسلكي وبدأ في الحديث إلى الجهة الأخرى.






بدت لهجة القبطان صارمة وهو يأمر الجهة الأخرى بأن تغيّر من مسارها.. وفورا.




بيد أن المفاجأة جاءته عندما أجابه الطرف الآخر بأنه يجب أن يغيّر هو من خط سيره، فهذا هو الشيء الوحيد الذي سيجنّبه الاصطدام!




زمجر القبطان في غضب وهو يعيد تعريف نفسه آمرا الطرف الآخر بأن يغيّر مساره حالا..




لم يزد الطرف الآخر إلا بالرد عليه وبحسم أيضا بأنه يجب -وحالا- تغيير اتجاهه بمقدار 180 درجة!




وهنا فقد القبطان هدوءه وصرخ فيه متوعدا، بأنه إن لم يغيّر اتجاهه فلسوف يلقيه خلف القضبان بقية عمره!




وهنا قال له الطرف الآخر: سيدي القبطان أرى بأنك فعليا في دائرة الخطر، أنت في طريقك للاصطدام ببئر بترول عائم، وإن لم تغيّر مسارك كليا فلن تجد في عمرك متسعا لترديد أي تهديدات أخرى!!




ليست كل الأشياء قابلة للتفاوض والمساومة، هناك بعض الثوابت التي تكون أشبه ببئر البترول، إذا ما اصطدم به أي جسم بعنف فسينفجر انفجارا مروعا، وسيحرق كل شيء.




هذا ما تعلّمه القبطان في القصة السابقة، والتي جرت فعليا على السواحل الكندية منتصف تسعينيات القرن الماضي، وهذا ما يحتاج الكثيرون منا إلى تعلّمه.




إن أول وأهم الدروس التي يعلّمك إياها أساتذة التدريب إذا ما أحببت أن تكون مدربا متميزا، أو خطيبا مؤثرا، أو سياسيا محنكا، أن تنتبه جيدا إلى قيم وقناعات الآخرين، ألا تسخر من دينهم، ولا تستهين بقيمهم، ولا تستخف بتاريخهم، فهذا مما يوغر الصدر، ويزيد الحنق، ويقلب عليك الناس في الوقت الذي تود أن تؤثر فيهم.




من الفطنة والذكاء وأنت تعرض نفسك على الآخرين أن تنتبه إلى "بئر البترول" بداخلهم، أن تدير دفّتك نهائيا قبل أن تصطدم به وتخسر معركتك قبل أن تبدأ.




وفي الحقيقة أنني أود -صادقا- أن أرسل بقصتي هذه إلى النخبة المثقفة التي تحتل الصدارة في المشهد السياسي المصري، هؤلاء الذين يحاولون باستماتة لكي يغير الشعب المصري اتجاهه، أن يذهب يمينا أو يسارا لكي تمر مواكب النخبة لتتبوأ مكانة ما يطمحون إليها.




وفي كل مرة تأتيهم الإشارات والإنذارات بأنه على الجميع أن يغيّر من دفّته؛ لأن الثابت لا يتغير؛ لأن الراسخ لا يتحرك؛ لأن سنة الله في الأرض جرت على أن الجبل هو الثابت، وبأنه لا يمكن لومه على ذلك الثبات والرسوخ.




الأمر -إذا ما تفكّرنا قليلا- لا يتعلق بهيمنة الإسلاميين على العقلية المصرية، وإنما يتعلق بمكانة الدين في ذهن هذا الشعب، بالرباط الوثيق الذي يجذبهم إلى الله، بالحب الفطري لديهم لكل ما هو متصل بالروحانية الدينية، ويمكنك أن تلحظ هذا الأمر إذا ما قرأت قليلا في تاريخ المصريين القدماء، وإيمانهم بالبعث والحساب، وحياة الآخرة.




البعض من النخبة لا يرى هذا ويُصرّ بكل عصبية على أن يرى المشهد من زاوية شاذة، حتى وإن ذهب إلى أن يردد ما ردده النظام السابق، من أن الشعب لم يصل للنضج الذي يؤهله لتحديد مصيره.




ليس هذا وحسب، وإنما دفعهم التعصب إلى رفض ما ظلوا طوال عمرهم يناضلون من أجله.




مما دعا المفكر الليبرالي المعروف وحيد عبد المجيد إلى شن هجوم حاد على زملائه، متعجبا من أن يطالب الديمقراطيون بمظاهرة مليونية ضد الديمقراطية، واعتبرها سابقة لا بد أن يسجّلها التاريخ، قائلا: "لم يحدث أن دعا ديمقراطيون إلى مظاهرات ضد إجراء الانتخابات، المعتاد هو أن يتظاهروا سعيا لإجرائها، ولانتزاع ضمانات تكفل سلامتها وحريتها ونزاهتها".




جيد أن نتحاور، أن نتناقش، أن نتجادل، أن نستدعي الشواهد لتأكيد رؤيتنا، لكن الخطأ كل الخطأ أن نتعصّب ونتشدّد، ونرفض أن نرى الحقيقة رغم وضوحها.




إن الشعب المصري كفء للحرية، جدير بها، دفع ثمنها من دمه ودم أبنائه، قادر على احتضان جميع الفصائل التي تحترمه وتحترم عقائده وفكره ومبادئه وطبيعته، وقادر كذلك على صفع من تسوّل له نفسه بأن يكون وصيا عليه، بمن يمتطي ظهره متبجّحا بأنه يقوده إلى الصواب والصلاح الذي لا يعرف كيف يصل إليه!


الشعب المصري لديه هوية، من يحترمها فقد مهّد الطريق إلى قلبه، وسهل عليه امتلاك لبّه، ومن عارضها واستهان بها، فإنه في طريقه حتما للاصطدام والاشتعال.




وحينها لا يمكن أبدا أن نلوم الشعب، فاللوم كل اللوم على من لم يتعلم الدرس..




على من ظن أنه أقوى من أمّة تعتزّ بهويتها، وشخصيتها.. ورأيها.