ليست في الولايات المتحدة سيدة لم تسمع باسم ج.ل.برسون ملك الأحذية النسوية. واجه برسون في العام 1933م أزمة خانقة، وتنبأ بإفلاسه الذين رأوه يتخبط في مصاعب لا حصر لها. ولكن تاجر الأحذية كان رجلاً ذا مخيلة مولدة وتفكير سليم، فاستطاع الخروج من المأزق، وهو اليوم يربح نصف مليون دولار في السنة. فماذا فعل برسون للتغلب على أزمة سببت إفلاس المئات من تجار الأحذية في الولايات المتحدة الأمريكية؟ كل ما فعله أنه اختص زائرات محله بمزيد من العناية والالتفات، وهو ما لم يخطر ببال سائر التجار. كان برسون في العام 1933م في حدود السبعين، أبيض الشعر، مهيب الطلعة. فما أن تدخل سيدة محله حتى يهرع إلى الترحيب بمقدمها ويحرص على خدمتها بنفسه، وسواء اشترت حذاء أو لم تشتر فإنه يشكر لها زيارتها لمحله، وقبل انصرافها يطلب منها أن تسمي له ثلاثاً من صديقاتها ليعرض عليهن خدماته ويدعوهن إلى زيارة محله. وبديهي أن يستجاب طلبه بسرور، فليس أحب إلى المرء، رجلاً كان أو سيدة، من أن يطلب إليه الآخرون أداء خدمة من هذا النوع. وبعد حصوله على الأسماء يكتب إلى السيدات الثلاث داعياً إياهن إلى زيارة محله لمشاهدة نماذج جديدة، فتقبل الدعوة واحدة من ثلاث على الأقل، وتتكرر المراسم نفسها مع الزائرات بحيث يزداد عدد المشتريات. وبفضل هذه الفكرة البسيطة استطاع برسون التغلب على الأزمة.

إن النجاح ليس دائماً وليد الأفكار الثورية، فكثيراً ما يكون مفتاحه فكرة بسيطة. هو ذا أميركي مدين بنجاحه لفكرة بسيطة. كان جايمس ماكورني يدير شركة للضمان ضد الحريق في مدينة من مدن ولاية نيوجرزي عندما انتاب زوجته مرض خطير، فنصح له الأطباء بالابتعاد بها عن المدينة الكبيرة والاقامة نهائياً في ولاية كاليفورنيا. وانتقل جايمس إلى مدينة صغيرة تبعد عن لوس أنجلوس ثمانين ميلاً، وكان عليه أن يبني مشروعه من الأساس، وأن يتذرع بالصبر وطول الأناة، ويصمد في وجه المصاعب فهو ينزل مدينة لا تعرف عنه وعن شركته شيئاً، وفيها خمس شركات للضمان ضد الحريق. ولكن جايمس ماكورني لم ييأس بل ترك مخيلته تعمل، فأسعفته بفكرة لا يتطلب تنفيذها استعداداً ولا يكلف كبير عناء. فقد قرر صاحبنا استدراج الناس إلى التوقيع على عقود تأمين أو ضمان ضد الحريق من طريق هو غير الطريق المنهجي أو التقليدي المعروف، وأدرك أن استمرار الصلة بينه وبين السكان هو الطريق المؤدي إلى الهدف، فحصل على عناوين هؤلاء وطفق يكتب إلى كل واحد منهم رسالة في مطلع كل شهر مؤلفة من سطر وسطرين، وإليك نماذج مما كان يكتب: في كانون الثاني بعث إلى السكان بألف رسالة هذا مضمونها: (إن شركة الضمان ماكورني ترجو لكم عاماً مباركاً مقروناً بالتوفيق). وفي شباط كتب: (ترجو شركة الضمان ماكورني أن تكونوا موفوري الصحة وأن تكون أعمالكم مزدهرة). وفي آذار: (يسرّ شركة الضمان ماكورني أن تشرفوها بثقتكم) الخ .. وقد كان لهذه الرسائل صداها في نفوس السكان وتأثيرها في مخيلتهم، فأقبلوا على توقيع العقود، وما لبثت شركة ماكورني أن احتلت مركز الصدارة بين شركات الضمان في المدينة.

والأمثلة على ما تستطيعه المخيلة في هذا المضمار أكثر من أن تعد أو تحصر. عندما زرت لندن في صيف 1946م قدمني أحد أصدقائي في إحدى الحفلات إلى ملك اللفائف (السيكار) في انكلترا؛ وبدافع من الفضول سألت الرجل كيف أحرز لقبه هذا، فأكد لي أنه مدين بنجاحه لفكرة بسيطة جداً. فقد اعتمد في تقديم السيكار إلى المشترين أسلوباً لم يعتمده الباعة الآخرون، إذ كان يمسك السيكار من وسطه ويقدمه إلى المشتري بحركة لبقة، رشيقة تستلفت النظر، وبفضل هذا الأسلوب ازداد الإقبال على شراء اللفائف من حانوته المتواضع، فتضاعفت أرباحه، وبعد عشرين سنة صار يملك أربعين حانوتاً لبيع اللفائف منها ستة حوانيت في لندن وضواحيها.

وهذا مثال آخر على ما تستطيعه المخيلة: في ولاية نيوجرزي امرأة تبيع الفاكهة في كشك صغير تزاحمه عشرات من الأكشاك الكبرى، ولكنه يبزها جميعاً في مضمار تصريف الأصناف وإرضاء الزبائن. ذلك أن المرأة عندما تزن الفاكهة تضيف إلى كل وزنة تفاحة أو خوخة وهي تقول ضاحكة: (هذه إكراماً لك أو للصغير)؛ وقد كان لهذه الباردة تأثيرها في نفوس الشارين، ولا سيما ربات البيوت.

جاءني ذات يوم شاب يعمل في شركة للتأمين على الحياة وقال ان الشركة هددته بالاستغناء عن خدماته لأنه لم يصب نجاحاً كبيراً في مهمته؛ فنصحت للشاب بأن يشغل مخيلته قليلاً، فقد تسعفه بحل للمشكلة التي يعاني. وبعد شهرين جاءني الشاب وشكر صنيعي. وعرفت منه أنه شق طريقه بفضل فكرة بسيطة. فقد اعتاد وزملاءه أن يتحاموا طرق أبواب المنازل يوم السبت ليعرضوا على الناس عقود التأمين، لأن يوم السبت هو يوم عطلة وراحة. فقرر هو أن يشذ عن هذه القاعدة، والشذوذ، كما هو معروف، ظاهرة تستلفت الأنظار وتثير الفضول. وقد استغل الشاب دهشة الناس حيال مسلكه، إذ وجد فيها ثغرة تسلل من خلالها إلى صلب الموضوع، موضوع الزيارة. وهكذا استطاع أن يبيع عقود التأمين بمعدل عقدين أو ثلاثة في الأسبوع.

لدى نشوب الحركة العالمية الثانية كان صديقي أرثو كنغ ممثلاً مسرحياً فترك المسرح والتحق بالأسطول، وفي معركة ميدواي (المحيط الهادئ) أصيب إصابة خطيرة ولم يبق صالحاً لأداء أية مهمة تتطلب مجهوداً جسمانياً. أما المال الذي حصل عليه من الدولة بمثابة تعويض فقد أنفقه في غضون عام واحد وقبل أن يجد عملاً يؤمن له الكفاف. فلما اقترب منه شبح الفاقة استنجد بمخيلته فأسعفته بحل ساعده على الخروج من المأزق. فما كان هذا الحل؟ أجاب صديقي بنفسه عن هذا السؤال، قال: خلوت بنفسي خمسة عشر يوماً، وكنت لا أخرج إلا ليلاً لمشاهدة الأفلام السينمائية أو لحضور إحدى المسرحيات. وخلال هذه المدة كنت أدون على ورقة ما أستطيع القيام به من أعمال وما يمكن كل عمل أن يدرّ عليّ من أرباح، وفي اليوم الخامس عشر استعرضت إمكاناتي فوجدت أن أفضل عمل يمكنني القيام به هو تعليم فن التمثيل المسرحي في المدارس، ومضيت إلى مديري هذه المؤسسات أعرض فكرتي وأقدم شهاداتي فوافقت أربع مدارس على التعاقد معي لمدة ستة أشهر على سبيل التجربة، وقضى إقبال التلاميذ من الجنسين على سماع محاضراتي على تردد المديرين فعينوني بموجب عقود تراوح مدة العمل بها بين ثلاث سنوات وخمس، وهكذا خرجت من المازق بفضل مخيلتي