نظرة جديدة حول علم النفس
الإنسان أسير أفكاره وهمومه فالكل يعيش في مجتمعه وبيئته يؤثر في الآخرين ويتأثر بهم .
وهو يحيا في دوامة الأفكار السائدة ومعتقداتها وقيمها . ينشأ منذ الصغر في بيئة صغيرة يتأثر بها جل التأثير ثم يكبر شيئا فشيئا فيخرج إلى بيئة اكبر واشمل ، المدرسة ، والمدرسين والتلاميذ على مختلف الوانهم وسلوكياتهم ثم إلى بيئة اكثر تعقيدا مثل : العمل والزوجة والأسرة .
وهو في كل الأحوال يكتسب وينتج الأفكار والسلوك بردة فعل الفطرة والتعلم والاكتساب .
لذا ترى في كل مجتمع سلوكياته أو نظمه الخاصة لا يكاد يخرج الفرد عنها في السمات العامة المكتسبة ، فما هو محرم هنا مباح هناك وما هو غريب هناك طبيعي هنا . وحتى لا نبتعد كثيرا عن موضوع العنوان فالإنسان وليد مجتمعه وبيئته في كافة أشكاله الاجتماعية .
والمعنى بعد هذه المقدمة البسيطة أحاول أن أسلط الضوء على فكرة معينه وهي أن المعالجة النفسية حسب أراء الباحثين بالتنويم والسلوك لا يمكن فرضها على المجتمعات بنفس المفاهيم القائمة عليها بعلم النفس بالشمولية إنما يتم التعاطي في حل المشكلات بحسب قيم الشعوب ومفاهيمها ومعتقداتها الخاصة بها .
فالقناعة المكتسبة عند الإنسان في المجتمع العربي وخاصة في عقله الباطني تجعله يكاد يتعارض مع بعض مستوى نظريات الغرب ، فقد يتقبل شيئا ويرفض أشياء لاختلاف الطابع الديني والقيم والمفاهيم الاجتماعية فيما بيننا فمثلا قد يكون الإنسان المسلم تحت تأثير التنويم اكثر قبولا بالرقية الشرعية منه بالإيحاء المجرد عند محاولة المنوم معالجة أمراض النائم في علة معينة . والسائد لدى أفراد المجتمع العربي المؤمنين والمقتنعين بالرقية الشرعية اكثر من قناعاتهم في علم التنويم كوسيلة علاجية . وذكر لي أحدهم أنه حاول أن يخضع للمعالجة بالتنويم في إحدى الدول الغربية لكن طريقة المعالجة التي طبقها المنوم الغربي مدعاة للسخرية . وقد ذكر لي الطريقة التي استخدمها المنوم معه . بالرغم أن الطريقة المذكورة هي من أحد الطرق الجيدة في مجال المعالجة وقد نجح ذلك الطبيب الغربي من تخليص المئات من بني جنسه من بعض المشاكل النفسية . وبخلاف ذلك نذكر هنا كيف يجتمع العديد من الناس في الدول العربية على أبواب العرافين والدجالين راجين الشفاء .
ومن باب آخر نجد الإيحاء والقناعة المتكررة عبر الأجيال في بعض المجتمعات أصبحت لبوسا لأفراده ، وانتقل كالوباء من جيل إلى جيل دون تمييز أو تفكر فأصبح هذا النقل الإيحائي جزء من حياة المجتمعات بالرغم من عدم وجود دليل عقلي أو ديني أو مادي ملموس للقناعة به ، فحالات الفشل وتدهور الصحة ، وسوء الادراة الشخصية في حل المشكلات والتدهور المالي في بعض المجتمعات البدائية سببه مبني على الأرواح الشريرة.
وفي بعض الدول العربية معلق على الحسد والعفاريت والسحر .وفي بعض الدول الغربية معلق على تأثير النجوم والكواكب على أبراج أصحابها وسوء الطالع ،والحظ نافين دور الاجتهاد وحسن التوكل على الخالق عز وجل والايمان بالقضاء والقدر كما هو واجب .
وأسوأ من كل هذا وذاك من لا يؤمن إلا بالمادة المجردة وأن الأمور مسيرة بالاجتهاد والفتوة وحسن الاختيار وأن الأمور كلها من تدبير العقل والانشغال بالاجتهاد في مسيرة الحياة .وهذا من أسوأ من يكون فهذا من حضن الطبيعة وحسب أنه يسيرها ويروضها بعقله وهو الفاعل وهي المفعول فيه فان قصر عقله عن تفعيلها بأمره وانعدم بالايمان بقضاء الله وقدره فقد خاب وأصابته الأمراض النفسية لعجزه عن تحقيق آماله .
والباب الأوسع من كل هذا وفيه تكمن الفكرة الأشمل وهي التربية والتعليم والثقافة العامة والمبيحات والمحرمات والديانات فلكل هذه الأمور المجتمعة لها مكنوناتها وفعالياتها في عقل الإنسان الباطني ولها التأثير على السلوك والأخلاق والنظرة الشاملة العامة نحو الحياة العامة .
وحتى لا نطيل حول الموضوع الذي نحن فيه أردنا أن نوضح أن الإنسان كنفس وكمعتقد ومسلك وبيئة ومجتمع وعلم وثقافة أبعد من أن يوضع في حيز ضيق أثناء المعالجة النفسية آخذين بعين الاعتبار ما يمكن أن نقدمه للإنسان من معالجة نفسية دون المساس بمعتقداته الدينية . ودون التهجم على أفكاره العلمية وعدم الخروج عن مبادئ المجتمع السائدة . هذا ما يجعل المحلل النفسي أو المنوم لا يمكنه الركون إلى طابع ومسلك معين شامل في معالجة الآخرين دون النظر إلى هذه الجوانب بعين الاعتبار .

كيف يؤثر الإيحاء في النائم :
- يقول الأستاذ " راين " : إن الانتقال إلى حالة اللاوعي يحدث بالتأثير على وظائف (فسيولوجية ) فهو في حالة وعي فوق العادي . وهذا يفسر تهيج أو يقظة مراكز الحراسة في الدماغ على حساب الكبح العمومي في سائر أنحاء القشرة الدماغية ، وكل ذلك تسببه كلمات المنوم الإيحائية وكما يقول بافلوف ) : انها عملية دفاع أو رد فعل انفعالي يحس النائم بنشاط فوق العادة وتركيز فكره على الذي أوحى إليه .
- ويقول : (الن مايسي ) : إن الإيحاء له تأثير ذاته على خلايا الدماغ كما لانتقال الأفكار ، وعبر هذه الخلايا على الجسم البشري . فقد أمكن إحداث قروح واثار تشبه الحروق بواسطة الإيحاء . كذلك أمكن تحسين قوة السمع والبصر إيحائيا . فالمنبه الذي يمكنه التأثير على حس واحد يمكنه أن يؤثر على جزء آخر من الجسم . ويمكن استخدام التنويم والإيحاء لأغراض طبية لا حد لها . إن اكثر حوادث الشفاء تتم بواسطة الإيحاء والإيحاء الذاتي . إن تأثير العقل على الجسم كثير وواضح .
- ويصف الباحث ( بيير داكو ) مؤلف كتاب استكشاف أغوار الذهن : ( يجب عدم الخلط بين الإقناع والإيحاء .فإذا ما أردت إقناعك فانني أتوجه إلى عقلك ، فأحاول أن أحصل على موافقتك الإرادية وتكون مقتنعا إذا اعترفت فانني كنت على حق وستمنح مصادقتك لبراهيني . أما إذا أردت أن أوحي لك سأستخدم طريقة مغايرة تماما ، فعلي أن أتجاوز وعيك وعقلك وألامس المراكز العصبية اللاواعية ، الأمر الذي يتطلب وجود ظروف خاصة ، لأن العقل والإرادة يجب أن يختفيا أو أن ينخفض حجمهما . ونصبح إذا موحى لهم متى فقدت الإرادة القدرة على المقاومة .
مثال : على الشفاء الذاتي في الوطن العربي :
ومن أمثلة الشفاء الإيحائي والذاتي في مجتمع الوطن العربي كثيرة منها ( الحجاب ) الذي يحمله المريض من الراقي فيعتقد الحامل فيه خيرا فيكون التأثير من الإيحاء أو الإيمان الذاتي فيشفى . وكذلك الراقي والمتمتم بكلمات غير مفهومة فيعتقد المريض أن قوى مجهولة ستنزل وتساعده على الشفاء فيحصل الشفاء بدرجة إيمان المريض بهذا المعتقد . وتحقيق الشفاء هنا يتوقف على درجة المتلقي وإيمانه بالإيحاء الملقى إليه 0
- ويذكر ( الان مايسي ) حادثة مماثلة نقلها عن الدكتور ( شوفيلد ) هي أن رجلا عصبت عيناه وقيل له انه سيعدم بقطع شريان في يده فينزف ويموت . ثم جرح في يده جرحا بسيطا وسكب الماء على الجرح بطريقة تجعله يسمع نقط الماء ، تتساقط في وعاء ، فاعتقد انه ينزف من الجرح فمات على الأثر .
- أن إظهار هذه القدرات في التنويم يدفعنا الى الإيمان أن الدماغ البشري يملك قدرات خفية احتياطية لم تستعمل . وأن بعض من نوموا وطلب منهم استعمال القدرة ذاتها عدة مرات اصبحوا خبراء في هذه القدرة ، وبإمكانهم استعمالها في حالة الوعي . وفي إنجازات ممارسي ( اليوغا ) الهندية والزن اليابانية أدلة كافية على ما يمكن أن يصل إليه المرء من التحكم في وظائف جسده اللاإرادية .
كيف نؤثر في الآخرين ؟
يعتقد البعض أن التأثير الكلي من خلال التنويم يعبر من مدخل واحد وهي الإيحاءات السمعية المنتقاة مسبقا بشكل مدروس ومؤثر . وهذا الرأي فيه قليل من الصحة ، فالنائم يحتاج إلى العديد من المؤثرات الأخرى حتى يتم التأثير الكامل على باقي الحواس مثل حاسة اللمس ، الشم ، والذوق ، والبصر ، فلكل هذه الحواس وحدة مثيرة بحد ذاتها . ولكي نحدث تأثير أكبر على الأشخاص مدار المعالجة علينا الجمع والتأثير على مجموعة أكبر من الحواس لديهم ، ويمكن أن نجمع أثناء المعالجة بالتنويم بين الإيحاء والتأثير على حاسة الذوق بواسطة الحبوب الوهمية مؤكدين للنائم أن هذه الحبوب مفيدة في علاج مرض معين ولا ننسى الأثر النفسي الذي ستتركه المعالجة الثنائية أو الثلاثية على المريض من مردود إيجابي أقوى وأكبر من استخدام التأثير المنفرد على حاسة واحدة . وكل ما جمعنا عددا أكبر من المعالجة الوهمية المؤثرة على اكثر من حاسة كان المردود الإيجابي اكبر وأوضح ، وعلينا أن لا نهمل أن المؤثرات النفسية تدخل عبر الحواس الخمس لا عبر حاسة واحدة وهذا ما يؤهل هذه الحواس إن تم التأثير عليها الحصول على نتائج إيجابية علاجية أكبر وأوضح .وكمثال : يمكن أن نساعد في علاج المريض المصاب بقرحة المعدة أثناء التنويم بعدة وحدات مادية مرتبطة ومؤثرة عبر تلك الحواس حينها نشعر في نهاية المعالجة أن الشمولية في طريقة ترضية النفس كانت أنجح من الفردية بتناول المشكلة ويمكن الاستعانة في هذه الحالة ببعض الأعشاب النافعة المفيدة كمشروب . والإيحاء للنائم أن هذه الأعشاب مفيدة في علاج العلة ولها مفعول قوي في الشفاء ، كما يمكن الاستعانة ببعض الزيوت الطبية لمسح الجلد بها من الخارج وتلاوة بعض الرقي الشرعية أثناء التدليك بالإضافة إلى تحسين ورفع المعنويات العامة للمريض والتوصية العامة بالابتعاد عن مسببات المرض في السلوك والطعام . فهذا الوجه الأكمل كعلاج بسبب ما احتوى أسلوب المعالجة على أكثر من مادة مؤثرة على اكثر من حاسة . فالأعشاب أثرت على حاسة الذوق والشم والزيت اثر عن طريق الإحساس على ( الجلد ) . والرقية المشروعة أثرت على ما يحمله الشخص من معتقد وقيم دينية وتعلقه وارتباطه بالشفاء على من لديه القوة والقدرة وأن الرحمة والشفاء سيتم بمدد رباني وهو أقوى من كل الوسائل وعليهيكون الاشتمال في طرق عدة في أسلوب المعالجة أقوى بكثير من الركون إلى جانب واحد ونكون وصلنا إلى إرضاء التعطش الإنساني الباطني في تقبل الفكرة الأشمل التي تولد الشفاء ونكون قد حسمنا الأمر مع نفس المريض الذي له قناعاته الخاصة المتولدة من تجاربه الشخصية فان رفض قبول فكرة معينة وأسلوب معين أثناء المعالجة قبل بغيرها لاشتمال تجربة المعالجة على اكثر من وسيلة وقناعة قد تصيب إحداها إن فشلت الأخرى . وهكذا نكون قد شرحنا رأينا الشخصي في العلاج وعلى الله الاتكال .


قوة الفكر والإيحاء :
أفكارنا ثؤثر فينا وتؤثر في الآخرين ، وأجسامنا نتاج أفكارنا ونحن ننشأ تبعا لما نريد أي تبعا لما نحمله من أفكار . والعقل والتفكير أكبر قوة في الخلق . فالانسان الذي يحمل فكر: أنا اقدر ، وأنا أستطيع ، خاضع لهذا الفكر ويتمكن بقوة واندفاع من السير بتنفيذ هذه الفكرة . والعكس في الإنسان الذي يحمل فكر لا أستطيع لا أقدر فهو أسير لهذا الفكر خاضع له بليد الخطى محبط القوة تبعا لجوهر أفكاره . تصور انك تحمل فكرة ضعيفة غير قادر لتقنع نفسك بها فكيف ستجد الوسيلة لإقناع الآخرين ؟ . والفكر النير القوي وان كان قليلا يجد له مكانا في التأثير على الآخرين . وكما يقال : قطرات الماء الساقطة على مكان واحد من شأنها أن تحفر الحجر في نهاية المطاف .
والفكر ينتج عنه الأفعال لأن الفعل نتاج أفكارنا وما نحمله من فكرة قوية أو سيئة أو جيدة أو مفيدة أو سقيمة ..الخ . وعليه فهي تؤثر أيضا في البيئة التي نعيشها وما يمت لنا بصلة .
فنحن جميع نتاج أفكارنا وانعكاس ما نحمله على أكتافنا . وهو بكل تأكيد سينعكس على مظهرنا أيضا . والبعض منا بقليل من الفراسة سيتمكن من الحكم على الأشخاص من خلال مظهرهم العام وعلى ما يبدو في القليل من أفعالهم .
والفكر المشحون بالخوف يجذب كل حالات الخوف ويتنامى معه كل ما يتوجب عليه هذا الخوف ونصبح في النهاية أسيرين لهذا الفكر ومحاطا بنا من جميع الجوانب . وكل فكرة جيدة تجذب معها فكرة جيدة والسيئة كذلك وهنا يصبح لنا مخزون هائل من الأفكار السلبية أو الإيجابية التي صنعناها بأنفسنا وأصبحت هذه الأفكار وسط بيئة نعيشها وتتسلط علينا .فالعقل المسير لهذا الجسم مشحون بمجموعة من الأحاسيس والأفكار وإذا ما تم قبولها بسب تكرارها على العقل وانشغاله فيها تترجم من خلال العقل إلى انفعالات كما تنعكس أيضا على مظهر الإنسان ومن الضروري لهذه الترجمة والانطباعات أن تظهر بشكل أفعال إيجابية أو سلبية تبعا لحالتها في الباطن ولا ننسى أن الإرادة تابعة في فعل التنفيذ لما نتوجه إليه . ولنفترض أن التلميذ في بداية الفصل أقر في داخله النشاط والتركيز والمشاركة والتفاعل للحصول على المرتبة الأولى في صفه . وهنا
تبدأ الأفكار بالانشغال بالتنفيذ وتتبعها الإرادة في التحقيق فينشط ويجتهد ويشارك في الفصل ويحصل على بداية النجاح فيصفق له من قبل زملائه ثم يحترمه أستاذه فيبدأ هذا النشاط يتزايد ويتنامى عبر الاحترام الذي يلاقيه فتزداد الفكرة يوما بعد يوم ضمن التشجيع والتصفيق والتكريم والاحترام . وفي نهاية العام الدراسي قد لا يحصل على المرتبة الأولى لكن ربما حصل على إحدى الدرجات العشر الأولى . لكن لو عكسنا الحال عند طالب محبط مهمل بليد الأفكار يائس من التحصيل سيطر على فكره وهم ضعف القدرة على التحصيل . سيلقى هذا الطالب من الإهمال المتبادل بقدر عجزه عن تحقيق وجوده كعنصر فاعل . وسيؤثر فكرة المحبط على أصحاب القرار بما أثر فيهم ، وسيعامل بعكس الطالب النشيط ويقابل بالتوبيخ والحرمان والتأنيب وبالنهاية سيلقى النتيجة الأسوأ مما كان يتصور ويتعهد به نفسه . وهذا المثال على سيطرة الفكر على الشخص وما ينتج عنه من بيئة مناسبة يعيش ويتفاعل فيها ويؤثر على الآخرين .

كيف يؤثر التنويم الإيحائي على الأشخاص من جهة الأفكار :
العديد من الناس لم يتعلم بعد كيف يستخدم هذه القوة الهائلة من الفكر ، والبعض عاش أسيرا للأفكار السلبية . والفكر فن يجب أن نتعلمه ونحسن أداءه ونعرف كيف نبنيه ونستخدمه في كل وقت ومع أنفسنا ومع الآخرين . وقبل كل ذلك يجب أن نجد آلية جيدة لتنفيذ ما نريده .
لقد وضحنا في هذا الكتاب كيف تصبح الأفكار معان وإرادة وتنفيذ وديباجة لصاحبها ، وربطنا بين الأفكار السيئة وما يتبعه من تأثير نفسي ثم تأثير عضوي يتجسد بشكل أمراض عضوية ملازمة . وبينا قوة هذه العلاقة المرتبطة بين الحامل لها وبين ثقافته العلمية ومعتقداته الدينية والوسط البيئي الذي يعيش فيه . لكن السؤال هنا هل يمكن حل هذه المعضلات وما تشكله من خطر على جسم الإنسان من خلال التنويم ؟ وما أهم الأمور التي يجب أن يركز عليها المنوم في المعالجة المثالية .