متى يكون الاكتئاب مرضا ومتى يكون ضجرا ؟


الدكتور موفق العيثان

كثير من الناس يسألونني عن التشخيص أو العلاج النفسي لحالة "الكآبة أو الاكتئاب" التي يعانون منها هم أو بناتهم أو أولادهم. مع التمحيص والسؤال التفصيلي تتضح الرؤية أكثر وأكثر، وتكون الحالة النفسية توحي بحالات مختلفة جدا من شخص لآخر..، والأمثلة العيادية كثيرة.
هند بنت الـ 19 عاما مرت بمشكلة عدم وجود جامعة أو وظيفة لديها. أصبح لديها هاجسا نفسيا بأنها مكتئبة تريد العلاج النفسي. لماذا هذه الأفكار لديك يا هند؟. تقول: نومي أصبح مضطربا، شهيتي متغيرة ووزني أحيانا يرتفع وأحيانا ينخفض، لا أجد شيئا أحب أن أعمله كما كنت من عام أو أكثر. أحب النوم كثيرا الآن أكثر من قبل. كل هذه العلامات كما أخبروني بأنها علامات اكتئاب، ونصحوني بتناول أدوية لعلاجها- حاولت تناول أدوية لأسبوع واحد فقط، وتركتها.. من غير استفادة.

هذه الحالة متكررة جدا لدينا، وتأتي مع المراحل المختلفة التي يمر بها الرجل أو المرأة، الشاب أو الشابة. كون أن السنة التي تمر من غير تغير أو نظام سلوكي يومي تسبب لدى الكثيرين مللا..، نعم هو الضجر والملل. إضافة إلى هذا فإن النفس لا ترتاح لكثير من الدعة والراحة (إن النفوس لتتعب من الراحة فأريحوها بالعمل). أقول هذا الكلام ليس من باب الترف.
الترف الذي يمر ببعض الناس يسبب كثيرا من الملل، تخيلوا الرجل أو المرأة التي لم تعمل من سنة أو عشر سنين قهوة أو شاهي بيدها..، كل ما تريده يعمله الآخرون لها، وهم لا يريدون الإسهام بذلك. أحيانا يقومون بحمية غذائية، أو يقومون ببعض التمارين الرياضية.
عكس هذه الحالة هناك الشاب الفقير أو الشابة الفقيرة اللذان لا يستطيعان العمل أو الدراسة، ولا دخل لديهما ولا ترفيه. النوم والتلفزيون الأدوات الوحيدة للترفيه النفسي لديهما. كل هذا يسبب اضطرابا في النوم والشهية، وعدم التمتع بأي شيء يقومان به...... إلخ، وأكثر من هذا فإن الفرد في هذه الحال سوف يجد نفسه بلا تقدير إيجابي للذات..، وهذا مما يزيد الطين بلة..، فيهمل نفسه أكثر.
هاتان الحالتان ليستا "اكتئابا"، بل مشكلة ملل وعدم القدرة على الإنجاز البسيط اليومي، وعدم إيجاد روتين منتظم للنوم والأكل والعمل أو القراءة والنشاطات الاجتماعية..... إلخ. إذا أنجز الفرد (وإن كان الإنجاز صغيرا) أي قام بشيء ما، فإن تقدير الذات وتنظيم اليوم سيساعدانا على الشعور بالراحة النفسية. إن الجوانب الجسدية مهمة جدا في أن يكون الجسد لديه انتظاما، حيث إن الله سبحانه وتعالى خلقنا بهذه الإمكانيات والطريقة التي تجعل الليل مهما للراحة النفسية والعصبية. المشكلة أن يكون الليل لفترة أشهر وسنين هو النهار من الناحية الجسدية، ويؤثر هذا على الناحية النفسية لدينا.
متى إذن يكون الاكتئاب مرضا؟ عندما تتوافر الراحة الجسدية والعمل، وتلبى حاجات الفرد، ومع ذلك يكون الإنسان بلا متعة بما يقوم به ولفترة طويلة ليست قصيرة. لا يهتم الفرد بمظهره أو تقل شهيته ورغبته بالحياة. وأكثر من ذلك فإن كان الإنسان يرى بأنه أقل بكثير مما يراه الناس.
وأحسن حالة نفسية عيادية تصف الاكتئاب للقراء الكرام هي حالة الأستاذ الجامعي الناجح جدا في عمله وأبحاثه، ولأنه يمر بفترة اكتئاب قام وأحرق أبحاثه في المختبر. وعندما سألته لماذا..؟، أجاب بأن أبحاثه تافهة- كما أدركها هو في ذلك الوقت! علما بان بعض أبحاثة لو قدمت من قبل طلابه كانت تصلح لدرجة دكتوراه في الجامعات الغربية الراقية.
أحيانا بعض حالات الاكتئاب يمر البعض بتوتر نفسي وقلق شديدين، ويتصورون بأن الله يعاقبهم، وإن لم يفعلوا شيئا مخالفا للتعاليم الدينية. إن الحالة النفسية هي فقط التي تملي عليهم هذا الشعور النفسي القوي السلبي بطبيعته والسوداوي.
إذن هناك فروق كمية ونوعية بين الملل والضجر، وفي حالة الشاب الذي ليس لديه عمل أو دراسة أو السيدة التي تعاني من رتابة في الحياة مثلا، والاكتئاب النفسي كاضطراب نفسي يعاني منه عشرات الملايين في العالم. يجب عدم التهاون بالآثار الجسدية للأدوية التي يأخذها البعض من غير استشارة أو تروي، والعمل على تناول المشكلة النفسية بالأسلوب النفسي السلوكي لتغيير العادات وتعديل الأفكار والمزاج المضطرب.
هناك العديد من الطرق والخطوات التي يمكنك أن تقوم بها وهي سهلة وتعرف بعضها، مثلا: حاول الأسبوع المقبل أن تنظم بعض أوقات النوم والأكل. كرر من التنوع بالنشاطات الشخصية والاجتماعية، قم بمزيد من الأعمال المريحة نفسيا على أن تكون مثمرة لك وللآخرين.. ستجد أن الملل أو الضجر قد قلت درجتهما، وستتحسن الحالة النفسية بإذنه تعالى.
أسئلة حائرة
الاستغراق في أحلام اليقظة
* أنا شاب في الحادية والعشرين من عمري، في آخر سنة بالكلية، ومستواي الدراسي جيد. تغيرت علاقاتي مؤخرا بالأصدقاء والأهل. مشكلتي النفسية هي أنني أستغرق في أحلام اليقظة، وبدأت هذه المشكلة أصلا من 7 سنوات، وتطورت هذه الحالة لدي، وأحيانا أتحدث مع نفسي، ويلاحظ الآخرون أني مشغول مع نفسي بدرجة كبيرة. البعض يسخر مني، ولكن أريد أن أفهم لماذا أصبت بهذه الحالة، وما الحل؟
جواب:
بداية المشكلة يبدو أنها كانت في المراهقة، وعادة ما تكون هناك تغيرات كبيرة وأحداث مهمة في هذه الفترة. قد يتأثر بها البعض لفترة قصيرة، وقد تدوم آثارها لفترة أطول. إن أحلام اليقظة هي نمو وتكيف طبيعي للشباب لمواجهة الحاجات وللتكيف مع الضغوط النفسية. المشكلة تبدأ عندما تكون أحلام اليقظة غالبة على فترة اليقظة، وربما تعيق الفرد من إنجاز وإكمال نشاطاته اليومية من دراسة أو عمل أو علاقاته الاجتماعية. لا أدري بالضبط أسبابك الشخصية في هذه الأحلام. لكن هناك عدة عوامل أبسطها صعوبات تحقيق الرغبات البسيطة بالنسبة لك..، قد تكون هذه الرغبات لها علاقة بالجوانب الانفعالية أو النفسية أو العمل أو حتى الزواج، وقد تكون أحلام اليقظة ظاهرة عندك، لتتكيف مع مشكلة كانت أو ما زالت معك نفسيا- وقد تكون صدمة نفسية لم تخرج منها لحد الآن.
يمكنك أن تخطو خطوات جديدة لحل المشكلة. ابدأ بتحديد متى تبدأ، وكيف تستمر هذه الأحلام، مثلا ليلا أو نهارا، أثناء الدراسة أو الخروج خارج البيت.. إلخ. ثم ارجع لتنمية العلاقات الاجتماعية تدريجيا مع الأقارب و الأصدقاء. يمكنك الاستعانة بواحد على الأقل لكي ينبهك عندما تكون معه بين فترة وفترة ( كل نصف ساعة مثلا) ينبهك من أحلام اليقظة لتندمج معه من غير إزعاج لك.
هذه الخطوات والأساليب ستخفف إن شاء الله تدريجيا اعتمادك على أحلام اليقظة وتساعدك على التعامل مع الواقع أكثر.