إن هدف سورة يوسف هو إعلامنا أن تدبير الله تعالى للأمور

يختلف عن النظرة البشرية القاصرة،

وكأنها تقول لنا: (ثِق في تدبير الله، واصبر ولا تيأَس).

فيوسف ولدٌ محبوبٌ من والده، وهذا الأمر بظاهره جيد ولكن نتيجة هذه المحبة
كانت أن ألقاه إخوته في البئر.

ومع أن إلقاء يوسف في البئر هو في ظاهره أمر سيئ، لكن

نتيجة هذا الإلقاء كانت أن أصبح في بيت العزيز.

ووجود يوسف في بيت العزيز هو أمر ظاهره جيد، لكنه بعد

هذا البيت ألقي في السجن...

وكذلك سجن سيدنا يوسف أمر في غاية السوء،

لكن نتيجة هذا السجن كانت تعيينه في منصب عزيز مصر...


يوسف الإنسان

إن قصة سيدنا يوسف ركّزت على حياة يوسف البشرية

أي على يوسف الإنسان لا على يوسف النبي.

فتجربة يوسف هي تجربة إنسانية بحتة، وكانت نهايتها نجاحاً

كاملاً في الدنيا والآخرة:

فلقد نجح في الدنيا وتفوّق في حياته عندما أصبح عزيز مصر،


ونجح في الآخرة حين قاوم امرأة العزيز

وقاوم مغريات نساء المدينة.

إنها قصة نجاح إنسان صبر ولم ييأس بالرغم من كل الظروف

التي واجهها،

فمن السجن والعبودية وكراهية إخوته له إلى الغربة، إلى

مراودة امرأة العزيز له

عن نفسه، إلى تحمّل الافتراء والاتهامات الباطلة...

يجب أن تبقى الباب مفتوحا بينك و بين الآخرين


(
وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ )

فدخلوا عليه دون انتظار, ويفهم ذلك من الفاء الدالة على

الفورية, فعرفهم بعد أن دخلوا عليه, وليس قبل ذلك, كما أنهم لم يدخلوا عليه

بسبب سابق معرفتهم به, ولكنهم دخلوا وهم له منكرون.

مما يدل على إرسائه عليه السلام قواعد العمل بين الوزراء المسئولين وبين الناس

حتى الآتين منهم من خارج البلاد,
فكل صاحب حق له أن يصل إلى المسئول,

الذي يقوم على خدمته فيوفي له الكيل ويكون خير المنزلين.

أستخدم علمك و معرفتك فى خدمة الناس..

(
يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ

عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46)

قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ (47)

ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ (48)

ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)
)

ويضع ما علمه الله من تأويل الأحاديث في خدمة الحضارة الإنسانية كلها حين بدأ في

تنفيذ ما أوّله من رؤيا الملك على شكل خطة اقتصادية طويلة المدى لمدة خمس

عشرة سنة, ترشّد تصرفات الناس وسلوكياتهم الاقتصادية والعملية, تشمل كيفية

التصرف في السنين التي يفتح الله فيها للناس من رحمته, فيوصي فيها بالعمل دأبا

رغم سهولة الحياة ويسرها. وبعد الحصول على الرزق فإن على الإنسان ألا يأخذ

منه إلا بالقدر الذي يكفي لطعامه وشرابه وضرورياته, دون إسراف ولا تبذير, رغم

الوفرة والكثرة في الرزق, فيعودهم على الادخار..


أما
الإنسان الذي كسل وقت الوفرة, فإنه سيجد نفسه مضطرا للعمل حتى يحصل

على حاجاته الضرورية
, ولكنه في هذا الوقت لن تكون لديه خبرات للعمل بسبب

كسله وتقصيره السابق, إلا إنه سيبدأ في اكتساب الخبرة واكتساب المعيشة, ولكنه

يأتي ببضاعة مزجاة بسبب قلة خبرته.

وأما الإنسان الذي أسرف وبذّر في وقت الوفرة, فإنه لن يجد مدخرات ينفق منها

ويتقوت منها في السنين الشداد, فيدرك سوء تصرفه, ويتعلم الاقتصاد والترشيد

والادخار, ويترك الإسراف, ويتحسّر على ما فرط, وتكسبه الأزمة حكمة التصرف
والرشد.

يخرج الإنسان من زمن الكساد أكثر تدريبا وتأهيلا, ويخرج أكثر رشدا وحكمة

في التصرف في نواتج عمله وفوائض رزقه.

فكما أن فترات الرواج والخير تثمر مكاسب مادية وتطوُّر في الأحوال الاجتماعية والاقتصادية, فإن فترات الركود بخطة يوسف التي علمها الله له, تتحول إلى مكاسب

لقدرات الناس, واستثمار لطاقاتهم, وارتفاع لمستوياتهم الفنية والإدارية, وترشيد

لسلوكياتهم الاستهلاكية.



الله هو صاحب الفضل فاشكره و أدعوه...


(
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ

السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)
)

ثم يضرب المثل للقيادات العليا والرؤساء والوزراء, فيتوجه في نهاية القصة إلى ربه

فيجعل الهدف الأسمى للمسئول هو أن يتوفاه الله مسلما, وأن يلحقه بالصالحين

, مهما آتاه الله من الملك, وعلمه من تأويل الأحاديث



النجاح من الله


ومن عظمة هذا النبي الكريم، أنه حين نجح في حياته ووصل إلى أعلى المناصب

لم تنسه نشوة النصر التواضع لله ونسبة الفضل إليه سبحانه. فقال في نهاية

القصة:

(
رب قَدْ اتَيْتَنِى مِنَ ٱلْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِى مِن تَأْوِيلِ ٱلاْحَادِيثِ

فَاطِرَ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلاْرْضِ أَنتَ وَلِىّ فِى ٱلدُّنُيَا وَٱلاْخِرَةِ تَوَفَّنِى مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِى

بِٱلصَّـٰلِحِينَ(101)
).

وانظر إلى تواضعه في قوله( وَأَلْحِقْنِى بِٱلصَّـٰلِحِينَ)

وكأن الصالحين سبقوه وهو يريد اللحاق بهم. وهكذا نرى أن سيدنا يوسف نجح في

امتحان السراء بشكر الله تعالى والتواضع لـه، كما نجح في امتحان الضراء بالصبر والأمل...


لا تيأس ولا تنتظر المعجزة..
أين المعجزات في القصة؟

وإلى جانب ذلك، نلاحظ أن السورة لم تشر إلى تأييده بمعجزة خلال هذه الظروف

التي واجهته، (قد يرد البعض بأن الرؤيا هي معجزة) لكننا نقول إن أي إنسان قد

يرى رؤيا، ولكن الذي حصل وركّزت عليه السورة أن الله سبحانه وتعالى قد هيأ له

الظروف وهيأ له فرصة النجاح كما يهيَّأ لكل شخص منا كتعليمه تفسير الرؤى كما

قال تعالىوَكَذٰلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلّمُكَ مِن تَأْوِيلِ ٱلاْحَادِيثِ(6))، لكن نجاح سيدنا

يوسف كان في الاستفادة من المؤهلات التي أعطاه الله إياها لينجح في حياته.

(لاَ تَايْـئَسُواْ مِن رَّوْحِ ٱلله)


إن قصة يوسف قصة نجاح إنسان مرّت عليه ظروف صعبة، لم يملك فيها أي

مقوم من مقومات النجاح، لكنه لم يترك الأمل وبقي صابراً ولم ييأس.

وآيات السورة مليئة بالأمل، ومن ذلك أن يعقوب عليه السلام عندما فقد ابنه الثاني،

أي عندما صارت المصيبة مصيبتين، قال:

(
وَلاَ تَايْـئَسُواْ مِن رَّوْحِ ٱلله إِنَّهُ لاَ يَايْـئَسُ مِن رَّوْحِ ٱلله إِلاَّ ٱلْقَوْمُ

ٱلْكَـٰفِرُونَ
(87)).

هذه الآية لا تعني أن اليائس كافر، بل إن معناها أن الذي ييأس فيه صفة من صفات

الكفار، لأنه لا يدرك أن تدبير الله سبحانه وتعالى في الكون لا يعرفه أحد، وأن الله

كريمٌ ورحيمٌ وحكيم في أفعاله.


أنت عبد فيهما

فإذا مرّت عليك، أخي المسلم، فترات ضيق أو بلاء، فتعلَّم من سيدنا يوسف عليه

السلام، الذي كان متحلياً بالصبر والأمل وعدم اليأس رغم كل الظروف. وبالمقابل،

تعلَّم منه كيف تواجه فترات الراحة والاطمئنان، وذلك بالتواضع والإخلاص لله عز وجل...

فالسورة ترشدنا أن حياة الإنسان هي عبارة عن فترات رخاء وفترات شدة. فلا يوجد

إنسان قط كانت حياته كلها فترات رخاء أو كلها فترات شدة، وهو في الحالتين،

الرخاء والشدة، يُختبر.

وقصة يوسف عليه السلام هي قصة ثبات الأخلاق في الحالتين، فنراه في الشدة

صابراً لا يفقد الأمل ولا ييأس، ونراه في فترات الرخاء متواضعاً مخلصاً لله عز وجل
نصل في نهاية السورة إلى قاعدة محورية، قالها سيدنا يوسف عليه السلام بعد أن

انتصر وبعد أن تحققت جميع أمنياته..

(إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ ٱلله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ

ٱلْمُحْسِنِينَ
)

إن قصة يوسف تعلّمنا أن من أراد النجاح ووضع هدفاً نصب عينيه يريد تحقيقه فإنهسيحققه لا محالة...

إذا استعان بالصبر والأمل، فلم ييأس، ولجأ إلى الله
(إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ ٱلله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ) (90).

إن سيدنا يوسف - في هذه الكلمات - يلخص لنا تجربته في الحياة، والتي هي كما قلنا، تجربة إنسانية بشرية.

فمن أراد النجاح في الحياة فعليه بتقوى الله أولاً، واللجوء إليه،

والصبر على مصائب الدنيا لا بل وتحدي المعوقات من حوله والتغلب عليها. إن

الصبر المطلوب هنا هو صبر إيجابي ومثابر، لا يضيع صاحبه أي فرصة لتعلم مهارة

ما، لا بل ينتظر كل فرصة تسنح لـه كما فعل سيدنا يوسف عليه السلام، فهو

استفاد من وجوده في بيت العزيز مثلاً في تعلم كيفية إدارة الأموال، وهذا سبب قوله

بعد ذلك: (قَالَ ٱجْعَلْنِى عَلَىٰ خَزَائِنِ ٱلاْرْضِ إِنّى حَفِيظٌ عَلِيمٌ)

لنتعلّموا من سيدنا يوسف النجاح في حياتنا العملية، والتفوق في الدنيا

والآخرة، بالعلم والعمل من جهة، وبمقاومة الشهوات والصبر عنها، لتفوزوا بإذن الله بجنة النعيم....