من السهل أن تفكّ قيداً في يد أو رجل إنسان، ولكن.. ماذا لو كان هذا القيد مزروعاً في أعماق نفسه ووجدانه؟ مسيطراً على عقله وتفكيره؟ مُقيِّداً لحركاته وأفعاله؟ هو لا يعرف أين يوجد هذا القيد ولا كيف وُجد، لأنه كبر فوجد نفسه على هذه الصورة!
قد ينشأ الإنسان في بيئة مميتة، وعوامل الإحباط تحوطه من كل الجهات، وفي جو أقل ما يقال عنه أنه خال من الصحة النفسية: استهزاء وانتقاد واستخفاف، وإهمال للمشاعر، وتثبيط للعزائم، وعراقيل يختلقونها اختلاقاً.. إلخ.

هذه في الظاهر قيود خارجية، ولكنها تفعل فعلها مع الزمن في النفس البشرية، فيشب الإنسان وقد غُرست هذه القيود داخله وتمكنت! فمشاعره مخنوقة لأنها سُدّت في وقت مبكر وكبتت في الصغر، وطاقاته محبوسة لا يعرف كيف يُخرجها، فهو لم يعتد الحركة والعمل! لذا يتهمه الآخرون بالسلبية لأنهم لا يعرفون مكنون نفسه وما حلّ فيها من قيود معيقة محبطة.

وقد تختلف درجة تأثير مثل هذه البيئة وعوامل الإحباط هذه من شخص لآخر؛ بحسب استعداده لتقبلها والتأثر بها، فالنفس البشرية شيء معقد.

لتقريب الفكرة أذكر هذه التجربة التي قام بها أحد خبراء علم النفس لدراسة تأثير اليأس على الكائن الحي، حيث صمم صندوقاً قسمه إلى جزأين: جزء معدني وجزء خشبي، وكان يجري تجربته على الكلاب، فيضع كلباً في هذا الصندوق ويغريه بالطعام في الجزء المعدني، ثم يطلق تياراً كهربائياً، فتعلّم الكلب أن يقفز من القسم المعدني إلى القسم الخشبي. بعد ذلك صار يطلق صفارة ثم يطلق التيار الكهربائي بعد خمس ثوان، فتعلمت الكلاب أن صوت الصفارة تعقبه الصعقة، فكانت تقفز فور سماعها لصوت الصفارة وحتى قبل إطلاق التيار الكهربائي. بعد ذلك، قام بربط الكلاب في الجزء المعدني، وعندما كانت الصفارة تنطلق كانت الكلاب تحاول الهرب ولكن القيود تمنعها، وكانت تحاول الهرب بصورة مسعورة، ثم تأتي الصعقة فتتعذب الكلاب عذاباً لا يوصف، وهي تحاول المستحيل للهروب من قيدها وعذابها ولكن دون جدوى، ومع التكرار أصابها اليأس وأدركت أنه لا أمل، ومهما حاولت، فامتنعت عن الحركة حتى مع عذاب الصعق بالتيار الكهربائي، كانت تنام مستسلمة وقد أدركت أن عذابها لا مفر منه ولا جدوى من مقاومته، واقتصر ارتجافها على تقلص العضلات اللا إرادي الذي تسببه الصعقات الكهربائية.
تكررت التجربة مراراً لعدة أيام، ثم فُكّت قيود الكلاب، ولكنها مع ذلك لم تحاول الفرار عند سماعها للصوت الذي يسبق الصعقة، بل ولا تتحرك مع الصعقة نفسها فيما عدا حركات الصدمة الكهربية، ومهما ارتفع الصوت أو اشتدت الصعقات لم تكن الكلاب تتحرك؛ كانت قد تقوضت من الداخل، واكتسبت حالة من اليأس والخمود والاستسلام والعجز!!

هكذا يُزرع القيد الداخلي، ولكن السؤال المطروح الآن: إلى متى سيبقى هذا الاستسلام وهذا العجز بعد أن أزيلت القيود الخارجية والعقبات من الطريق؟
ما أظن أن الأمر سيتغير بين عشية وضحاها، وإنما سيحتاج إلى وقت للعلاج حتى تنحل القيود من نفسه ويخرج عن سيطرتها، ولكنه أثناء فترة العلاج سيبقى يتهمه الناس بالسلبية، ولو أدركوا وضعه لعلموا أنه بحاجة ماسة إلى تعزيز وتحفيز نفسي كبير، من الداخل ومن الخارج، حتى يتخلص من قيوده التي وإن أزيلت من الخارج إلا أن آثارها ما زالت مستحكمة في الداخل وتحتاج إلى وقت لعلاجها.


وهذا يتطلب أن يدرك الشخص نفسه مشكلته وعلّته فيبدأ بعلاجها، مستعيناً بالله ومتوكلاً عليه حسن الظن به، صادق النية والعزيمة، غير مستسلم لعوامل الهزيمة أو اليأس، فاليأس لا يعرف طريقه إلى قلب المؤمن المتصل بخالقه. مبتعداً عن الشخصيات المحبطة والمثبطة التي قد تظهر في طريقه، باحثاً عن إخوان الصدق الذين إن فشل مرة أو تعثرت قدماه أمسكوا بيديه ليقف من جديد ويواصل الطريق. ومن يدري.. فلعل صاحب البداية المحرقة هذا تكون له نهاية مشرقة لم تكن له في الحسبان، وما ذلك على ربك بعزيز، فالعبرة بالخواتيم، ومن يصدق الله يصدقه