عضو مميز
- معدل تقييم المستوى
- 29
معوقات التفكير السليم
في إطار المقاصد الكلية للشرع، يمكننا ملاحظة جملة معوّقات دعا النص القرآني إلى تجاوزها وحذّر من الوقوع في شباكها، لأثرها السلبي في عملية التفكير. وسيتبيّن من متابعة الآيات القرآنية، كيف يمكن إدراج القصص القرآني والنصوص الوعظية وغيرها في إطار تشريعي واحد، ما يؤكد ما سبق وألفتنا إليه، من أن القرآن الكريم كله تشريع، لأنه يدخل في عمومه في مهمة بناء الإنسان.
أ ـ العصبية
تشكل العصبية أحد المعوِّقات الرئيسية التي ألفت إليها القرآن الكريم في إطار تسجيله لموقف إبليس الذي أمره الله تعالى بالسجود لآدم، وعصيانه للأمر بداعي تفضيل أصله على أصل الإنسان، ممثلاً بـآدم؛{وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلاّ إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين}[البقرة/34]، وكانت دواعي رفض إبليس تنحصر في كونه خلق من نار بينما خلق الإنسان من طين {قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين}[ص/76]؛ {قال أأسجد لمن خلقت طيناً}[الإسراء/61]. ولذلك اعتبره الإمام علي(ع) أول من تعصَّب من المخلوقات.
والعصبية، التي اشتقت من عصب، تحمل صاحبها على تبني جملة معايير وقيم خاصة تفضي به إلى التعامي عن الحقائق والنظر إلى الأمور من زوايا محددة، بدلاً من تشريع الأبواب كلها للحقيقة، فتنتظم في ضوء تلك المعايير سلسلة من الأحكام والمواقف والرؤى والتصورات ليس لها ما يسوّغها إلاّ كونها نابعة من الشعور بالانتماء لعصب محدَّد.
ولا تقف أشكال العصبية عند حدود العصب الذي تعبر عنه، في يومنا هذا، الانتماءات العرقية والقبلية والعائلية، وإنما أيضاً مختلف الانتماءات الطائفية والمذهبية والدينية والحزبية. وكم هي معبّرة تلك الآية التي تصوِّر حال السكينة والطمأنينة والرضى والتسليم التي يشعر بها المتحزّب لفكرة أو انتماء {كل حزب بما لديهم فرحون}[الروم/32].
ب ـ التقاليد والموروثات:
تحول الأعراف والتقاليد والمفاهيم المتسالم عليها، وما تتناقله الأجيال من قيم وعادات وأفكار وأنماط ثقافية، دون التبصّر بكلِّ جديد أو مستجدّ، وكثيراً ما يحصل الصدّ والإعراض رأساً ودون نقاش لمجرد معرفة الملتزمين بالتقاليد أن ثمة شيئاً جديداً يعمل على زحزحة الراكد. فالمرء مسكون بمشاعر الانبساط والرضى والتسليم بما هو قائم ومتداول، وقد يشعر بالضيق والانكسار إذا ما تعرَّض النسيج المفاهيمي والقيمي للاختراق، وغالباً ما يندفع، بصورة تلقائية، لمقاومته، لمساسه بالسكونية، التي ألفها ودرج عليها. ولهذا يواجه الإصلاحيون، والمفكرون النقديون، موقفاً معترضاً من الجمهور العريض، قد يحملهم، في معظم الأحيان، على الانكفاء والإقلاع عن دعوتهم المغيرة، إذا لم يحسن القراءة والفهم أو لم يتمتع بطاقة هائلة على التحمل والاستيعاب والتجاوز. وكثيراً ما يذهب هؤلاء ضحايا الأفكار والمشاريع الإصلاحية، والتاريخ مليء بالشواهد، والقرآن الكريم ينقل لنا من الأمثلة والنماذج التي ضحَّت بنفسها لقاء تأدية رسالتها. والمؤكد وفق العرض القرآني، أنّ الأنبياء كلهم كانوا ممن تعرضوا لحالي الإعراض والصدّ، وآخرهم نبيّنا محمد (ص).
والمنطق الذي واجههم كان واحداً: {إنّا وجدنا آباءنا على أمة وإنّا على آثارهم مقتدون}[الزخرف/23]. والتاريخ يختزن الكثير من الوقائع التي رفض فيها الناس أفكار مصلحين وعلماء في مجالات مختلفة، كما هو حال "غاليلو" و "كوبرنيكس". ولا يستثنى عصرنا الحالي، الذي يمتاز بفسحة لا بأس بها من الحرية، من حالات الملاحقة والقتل والتشريد والمحاكمة، وسنترك للقارئ ولذاكرته أن تستدعي ما تشاء من صور ونماذج واكبها وعايشها عن قرب.
جـ الاستبداد بالرأي:
ينكر القرآن الكريم على المرء ادعاء الحقيقة ومحاولة فرضها على الآخرين، لأن في ذلك تعطيلاً لأهمِّ الإمكانات في الإنسان، وهي إمكانية التفكير والكشف والاكتشاف، التي تُعدُّ شرطاً لازماً للاستخلاف، وبالتالي العمران. ولا شك أن الحرية، بتعبيراتها المختلفة، مساوقة للوجود، بل يمكن القول إن الإنسان كائن حر، وإذا افتقد الإنسان شعوره بأنه قادر على فعل ما يريد، فإنه يفتقد إحساسه بالحياة. فالإنسان الذي هذا شأنه، كيف يستشعر وجوده إذا منع من أن يفكر وينكر ويعترض وينقد؟ أو سمح له بكل ذلك لكن منع من ترجمة اقتناعاته أو مجرد التعبير عنها؟ وقد أنكر القرآن الكريم على فرعون، الذي يمثل في الكتاب العزيز نموذج التسلط والاستكبار، محاولته تعميم آرائه وأفكاره ومفاهيمه وممارسة الرقابة على مصادر المعلومات، فضلاً عن التحكم بزوايا النظر ومنطلقات التفكير. وقد نقل النص القرآني كلام فرعون الذي يخاطب به رعيته، والذي يمارس فيه أعتى صنوف الاستبداد {ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد}[غافر/29].
يصطفُّ إلى جانب هذا المعنى من الاستبداد، شكل آخر لا يقلُّ خطورة عن الأول، وهو الأنوية، أي أن يخالط الإنسان وهم الفرادة والامتلاء العلمي، فيصم أذنه عن أفكار وآراء الآخرين، فيلجأ إلى رفض الحوار أو القراءة واستعداء كل ما ينجزه الناس الآخرون. وهذه الظاهرة، كما يمكن العثور على نماذجها في الأفراد، يمكن أيضاً أن تبتلى بها الأمة جمعاء، فتوصد الأبواب في وجه الأفكار والآراء والمنجزات البشرية الأخرى، الأمر الذي يرتدُّ جموداً وتكلساً في المفاهيم، فيما القاعدة القرآنية {لتعارفوا} تقتضي خلاف ذلك، {وقالوا قلوبنا في أكنّة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر}[فصلت/5]، وفي نص آخر {ولّى مستكبراً كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقراً}[لقمان/7]. وحال الصدود والإعراض التي تنتاب الإنسان في حياته لها مناشئ عديدة، يأتي في مقدمها شعوره بامتلاك الحقيقة، وأن الآخرين محرومون منها، ومحاولتهم مجادلته أو محاورته تستهدف، وفق توهماته، الانتقاص من تلك الحقيقة وتشويش مبتنياتها ومرتكزاتها، وهو ما استنكره الله تعالى في كتابه عندما أورده في صيغة استفهام إنكاري:{ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلاً}[النساء/49].
إذاً، الاستبداد بكلا وجهيه، أي الاستبداد السياسي والفكري المفروض من الخارج، أو الاستبداد النابع من الداخل، هو أمر مستكره ومنكر، لأن مآلهما في النتيجة واحد، وهو تعطيل الإبداع وطروء الجمود على الفكر، وفي ذلك حرف لمقصد الاستخلاف، وتالياً لمقصدي الأمانة والمسؤولية عن جادة التحقق، فضلاً عن هدر الطاقات المذخورة والكامنة لدى الإنسان.
د ـ الاستضعاف:
لا يقف الاستضعاف عند حدود القهرين الجسدي والنفسي، وإنما يتعداهما إلى القهر الفكري، وإذا كان في بعض مؤدياته يلتقي مع الاستبداد، إلاّ أنه أشد قسوة. في هذا المقام، يرسم النص القرآني موقفاً مميزاً يحثُّ فيه من تعرَّض للاستضعاف للتعبير عن رفضه للواقع، وإن استدعى الأمر الهجرة، وذلك لفتح آفاق جديدة أمام الناس المسلوبي الإرادة، ليستأنفوا حياتهم من جديد، بحيث يتمكنون من تجسيد فعل الاستخلاف {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً}[النساء/97]. فالاستكانة، وفق منطوق هذه الآية، مرفوض، طالما أنّ ثمة العديد من الخيارات أمام الإنسان، فإذا استسلم للواقع وأفنى حياته، التي هو مؤتمن عليها، هكذا، ومن دون أي ثمرة، فسيحاسب في الآخرة حساب المتجاوز للتكاليف، وسيلاقي حساباً عسيراً، والآية بإطلاقها تتضمّن مختلف أشكال الاستضعاف، ومنها الناحية الفكرية. "فالحقيقة، كما الإبداع، لا علاقة لهما بالسلطة، وإنما تربطهما قرابة أصيلة بالحرية".
لقد حث القرآن الكريم على تجاوز معوّقات التفكير السليم، الذي هو شرط تحقق المقاصد العليا للدين، ودعا إلى التحرر في تعامله مع الأفكار والقضايا المطروحة أمامه، وقد عرض حتى التوحيد نفسه بشكل لا يخرج فيه عن دائرة المفكر به، فالله تعالى لم يأمر عباده في كتابه العزيز ولا في آية واحدة، أن يؤمنوا به أو بشيء مما هو من عنده أو يسلكوا سبيلاً هكذا وخبط عشواء. فالنص القرآني علل الشرائع والأحكام التي جعلها للإنسان مما لا سبيل للعقل إلى تفاصيل ملاكاته بأمور تجري مجرى الاحتجاجات،كقوله تعالى:{إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر}[العنكبوت/45]، وقوله: {كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون}[البقرة،183]، وقوله:{ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطّهركم وليتمَّ نعمته عليكم لعلكم تشكرون}[المائدة/6] إلى غير ذلك من الآيات.
بعد هذا التعداد، يتّضح حجم المسؤولية ومستواها التي يحمل أعباءها الإنسان في الحياة الدنيا، وكم هي خطيرة تلك المهمة التي يتحمل تبعاتها هذا المخلوق الاستثنائي، وهذا كله يحوِّل حياة الفرد والجماعة إلى ورشة عمل مستمرة لا تتوقف إلاّ عند توقف القلب عن النبض {يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه}[الانشقاق/6]. وقد لخص عبد الرازق الدّواي هذا الدور الخطير الذي يضطلع به الإنسان ويبعده عن اللغو والعبث، اللذين لا ينفكان يشدانه إلى اللهو واللعب والتسطيح. يقول الدّواي: "إننا أمام موقف يتصور الإنسان ككائن طبيعي وتاريخي، لا يتوقف عن القيام بمحاولات لفهم محيطه وعالمه وذاته في أفق التأثير عليهما حسب الإمكان، يستفيد من تراكم تجاربه، ويوسع أشكال إدراكه وتعلقه، ويضع باستمرار مشاريع للمستقبل، قد تتحقق وقد تفشل، وهو يستفيد في كلتا الحالتين، وكل ذلك، داخل تاريخ زماني، يؤمن بأنه يساهم نسبياً في تحديد توجهاته، انطلاقاً من وضعية التناهي ذاتها، التي تشرطه".
المفضلات