عضو مميز
- معدل تقييم المستوى
- 24
الفـــلاح قبل النجـــــاح
أن تنجح أمر جميل ، مطلب مشروع لمن امتلك الطموح والرؤية والهدف ، وما أتفه من لا يطلب النجاح ويعمل من أجل اقتناصه , بيد أن هناك شرك خفي يسكن بين ثنايا ذلك المطلب العظيم ، وهو أن يلهينا النجاح الدنيوي عن الفلاح الأخروي .
أن تسحبنا تيارات النجاح والتفوق والتقدير إلى أن ننسى أو نتناسى أن هناك غاية أسمى وهدف أرقى من مجرد النجاح الدنيوي الفاني .
إن المنهج الإسلامي ما برح يؤكد على حقيقة هامة جداً وهي أن الدنيا مطية المؤمن إلى الجنة ، وشرك المفتون إلى النار فهي زاهية متألقة ، بالغة الحسن والجمال ، رائعة المذاق ، خاصة لمن لم يرى سواها ، ولم يعايش معاني الآخرة ، ويرى الجنة والنار كما وصفهما الله ورسوله حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم بالغ في التشديد على أتباعه بألا ينساقوا وراء متع
الحياة وزخرفها ، فنراه يقول صلى الله عليه وسلم : " أبشِرُوا وأمِّلُوا ما يَسُرُّكم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم ، ولكني أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم ، فتنافسوها كما تنافسوها ، فتهلككم كما أهلكتهم " متفق عليه .
هنا النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعني تطليق الدنيا كما قال غلاة المتصوفة ، ولم يطالب اصحابه بتركها لشياطين الإنس والجن ليعيثوا فيها فساداً وإنما طالبهم بالعمل والاجتهاد والرقي الدنيوي ، ولكن ليس للدرجة التي تجعلهم
يهتمون بالمظهر دون الجوهر ، والتعلق بالسبب ونسيان الغاية الكبيرة .
إن المسلم يجب أن يحب الحياة كي يستطيع العطاء ، يجب أن يتعامل معها بجدية ويعمرها ويجتهد في جعلها أجمل وأروع مما كانت قبل مقدمة ولكن ليس على حساب العطاء الأخروي ، يجب أن يكون نجاحه في الدنيا سبباً مباشراً في نجاحة الأخروي ، عبر التزامه بالمنظومة القويمة للخلق والتنمية المستمرة للضمير ، والتعامل بيقظة تامة مع النفس وشطحاتها .
لعلك ستدهش لو أخبرتك أن لو كان هناك لائحة كلائحة مجلة «فوربس» المهتمة بمجال المال والأعمال في العصر النبوي
لكان على قمة أغنى أغنياء العالم عدد غير قليل من المسلمين المجاهدين ، والصحابة العظماء وذلك لأن المسلم ليس مقطوعاً عن الدنيا ، أو كارها لها ، بل المسلم الحق هو من يملك الدنيا بين يديه ، ويأبى أن يضعها في قلبه أو يعطيها وزناً لا تستحقه .
الصحابي عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه ، أحد العشرة المبشرين بالجنة ، وثامن رجل يحمل لقب مسلم وهو في الثانية والعشرون من عمره ، هاجر للحبشة ثم إلى المدينة ولم يكن يملك في هجرته للمدينة من الدنيا سوى ملابسه التي تستر سوئته وكانت أول كلمة قالها بعد نزوله للمدينة : (دلوني على السوق).
فأصبح ـ وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة ـ من أغنى أغنياء المسلمين ، حتى أن طَلْحَةَ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ عَوْفٍ، قَالَ : كَانَ أَهْلُ المَدِيْنَةِ عِيَالاً عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ ثُلُثٌ يُقْرِضُهُمْ مَالَهُ، وَثُلُثٌ يَقْضِي دَيْنَهُمْ، وَيَصِلُ ثُلثاً ومع هذه السعة ، وذلك الرزق الكبير ، كان يشغل باله أمر الآخرة ، ولا ينسى أبداعِظم الغاية التي يعمل من أجلها ، فنراه ذات يوم بجري إلى أُمِّ سَلمة ويسألها جزعاً : يا ام المُؤْمِنِيْنَ! إِنِّي أَخْشَى أَنْ أَكُوْنَ قَدْ هَلَكْتُ، إِنِّي مِنْ أَكْثَرِ قُرَيْشٍ مَالاً، بِعْتُ أَرْضاً لِي بِأَرْبَعِيْنَ أَلْفِ دِيْنَار , قَالَتْ: يَا بُنَيَّ! أَنْفِقْ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُوْلُ :
" إِنَّ مِنْ أَصْحَابِي مَنْ لَنْ يَرَانِي بَعْدَ أَنْ أُفَارِقَهُ " .
ولو فتشت يا صديقي في كتب السير ، وتأملت أخبار الصحابة والعظماء لوجدت كثيراً منهم أصحاب مال وجاه كأبي بكر الصديق وعثمان بن عفان رضي الله عنهم وغيرهم , ومع ذلك سترى ثبات أقدامهم على طريق الحق ، وروعة تسخيرهم للدنيا في سبيل الآخرة ، وكيف أنهم سيطروا على أطماع النفس والهوى , فكانت الدنيا تحت أقدامهم جارية يأمروها فتطيع غير مسوفة إن ما أطمع أن تنتبه إليه يا صاحبي وأنت تسير في الحياة أن تهتم بالنجاح ، وتعمل من أجل الرقي ، ولا تتنازل عن أن تكون رقماً صعباً فيها ..
ولكن إياك أن تنسى أن الدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة ، وأن أفضل الأساليب في التعامل معها هو معرفتها على حقيقتها محطة نستقل بعدها قطار اللاعودة حيث نسكن في دار الخلد , وأن النجاح يجب أن يستتبع الفلاح ...
المفضلات