الابتكار ظاهرة إنسانية لها روافدها ووسائل تنشيطها عبر البيت والمدرسة والمجتمع والإعلام والبيئة, ولها نتائجها الملحوظة على نهضة ورقي المجتمعات, ثم هي - قبل ذلك وبعده - عملية أساسية لدى أطفالنا لتحقيق ذواتهم كي تعبر عن تفردهم وفرديتهم.

صفة الابتكار.. هي من نعم الله تعالى على أطفالنا, فقد حباهم بها منذ ولادتهم وعلى مدى تطور مراحل نموهم, بيد أن هذه الصفة تحتاج إلى التنمية والتدريب والصقل بمهارات عدة كي تتطور إلى قدرة مركبة تؤتي ثمارها.

لقد أشارت الدراسات المتعددة لعملية الابتكار Creativity (الأطفال مرآة المجتمع) د. محمد عماد الدين إسماعيل, والابتكار.. وتنميته لدى أطفالنا.. د. إسماعيل عبد الفتاح) إلى أن صفات فردية تصنعها مثل: الاستقلالية والثقة والاعتماد على النفس والمثابرة والمغامرة والتعاون والمرونة والاهتمامات المتنوعة, كما أنها ـ أي عملية الابتكار ـ تغذيها عوامل وقدرات مكتسبة منها: القدرة Anability على سرعة التكيف ومرونة استيعاب المواقف والمشاكل, والقدرة على إيجاد علاقات جديدة, وتوليد الأفكار بالانتقال بها وبالمواقف من المألوف الموجود إلى غير المألوف المبتكر, مع استعداد نفسي ومعرفي وتوجه Anattitude للتجديد والإبداع مع الاحتفاظ بالأصالة.

كما هي قبل ذلك وبعده عملية Process تعتمد على جمع المعلومات وإعمال الذهن وتحسن الفكر وتوليد بدائل وإجراء صياغات متعددة للتوصل لأفضل بديل مادي (منتج / منشأ/ أو نظرية علمية..) أو معنوي (تعلم مستمر/ نمو شخصي/ إدارة أزمات..). ولم يغب عن هذه الدراسات الإشارة المهمة إلى أن البيت هو أول مَحضن ورافد من روافد تنمية عملية الابتكار تلك.. فكيف نساعد أطفالنا على أن يصبحوا مبتكرين?

ـ أولا عبر توفير الظروف الأسرية التي يسودها الاستقرار النفسي والاجتماعي, وتوفير الوقت اللازم لتربية أطفالنا ومشاركتهم والإشراف على أنشطتهم الفكرية والابتكارية, كي يتم تنشئتهم على قدر كبير من الحرية الشخصية المنضبطة (عطف وحزم), والاستقلالية والمبادأة, وتوجيههم لحسن التحكم في سلوكياتهم, ومن ثم تحقيق ذواتهم.

- منذ نعومة أظفارهم يجب على الأبوين إثارة فضول أطفالهم, وفق مراحل أعمارهم المختلفة, بالأنشطة المتنوعة والمناسبة كالصور /القصص, والوسائل التعليمية المبتكرة على أجهزة الفيديو والحاسوب وغيرها لتنمى لديهم عادة القراءة والمطالعة والجد والاجتهاد فهي أسس المعرفة وبذور الابتكار. ومع ما للتلفاز والحاسوب من تأثير إيجابى, فإنه لا يخفى على أحد تأثيرهما السلبي, فيجب مراعاة ظاهرة (إدمان مشاهدة التلفاز وألعاب الحاسوب) مما يعيق عملية الابتكار والتأمل, ويعيق النمو الحركي والجسماني مع ما قد يسببه من سمنة مفرطة أثبتتها الدراسات المعنية بهذا الشأن.

- على الأسرة إعادة الاعتبار للِعب الأطفال فهي ـ قبل أن تكون وسيلة ترفيهيةـ وسيلة تربوية تعليمية وتثقيفية مهمة في بناء شخصية أطفالنا المبتكرين, فاللعب الذي لا يشغل أطفالنا عن واجباتهم ولا يرهقهم أو يضرهم فرصة لتحررهم من الواقع الزاخر بالقيود, وتخفيف درجات توترهم من إحباطات بيئتهم, فعلينا بذل المزيد من الجهد كي نُحسن اختيار ما يُلعب به وطرق وأماكن اللعب لتلائم مراحل أعمارهم وخصائصهم وبيئتهم وثقافتهم ومن ثم تؤثر في تطور مهارتهم.

ـ جري وتبادل أدوار تمثيلية.. أوراق وألوان وصلصال.. دمى للسيارات والشاحنات.. نماذج للمنازل والجسور.. فك وتركيب المكعبات.. كل ذلك وغيره يُحسن نمو أطفالنا الحركي والانفعالي والمعرفي ويزيد من وعيهم بتبادل المواقف وبتكوين الأشياء, والعلاقات بين الجزء / الكل, الفعل/ رد الفعل, ويغرس دقة الملاحظة, ومهارة الترتيب والتنظيم والتحليل والتقويم وهى من لوازم العملية الابتكارية.

الواقع والخيال

ـ عالم أطفالنا هو عالم اختلاط الواقع بالخيال الحر المتدفق والفريد, وهو نبع فياض بالأسئلة والأفكار والموضوعات, التي تسعى لإشباع الرغبة في التعرف على الأشياء وحب الاستطلاع والفضول (يثيره ثلاثة عوامل: الجدة والتعقيد والغرابة), لذا فلأطفالنا الحق في الإجابات المناسبة عن أسئلتهم الكثيرة: ما هذا, كيف, ولماذا, وأين, ومتى?

- ساعدوا أطفالكم على تنويع طرق تعبيرهم عن عالمهم الفكري الخصب, عبر الوسائط والأنشطة المختلفة كالرسم والتلوين والتشكيل والتركيب والحركة وغير ذلك مما ينمي لديهم أنماط التفكير الابتكاري Creative thinking.

ـ وشاركوهم بتوفير المتعة فهي من مقومات عملية الابتكار.. لا يخفى أن الاستمتاع بالخبرات والأنشطة التي تنمي الأجسام والحواس يولد أحاسيس سارة ومشاعر طيبة لدى أطفالنا عن ذواتهم وعن الآخرين, الأمر الذي يدفعهم لبذل المزيد من الجهد (ابتكاراً) لتكرار تلك الأحاسيس, وفق فطرة الإنسان التي فطرها الله عليه في الميل إلى ما يسره والبعد عما يؤلمه علموا أولادكم السباحة والرماية, ومروهم فليثبوا على الخيل وثباً)

- وعلينا تهيئة الظروف المناسبة لانفتاح أطفالنا على عالمهم الداخلي والخارجي.. تذكراً وذاكرة.. إحساساً ومعرفة.. اندماجاً وتفاعلاً.. استكشافاً وتجريباً (إنتاج تشكيلات جديدة ومبتكرة أو حل مشكلات متفاوتة الصعوبة/ التناقض), وتعلماُ غير مباشر من الأحداث اليومية وتنمية الحوار والاستفسار وحق الإجابة, ومشاركتهم بارتياد أماكن ومواقف تثير فضولهم وحواراتهم.

- عبر حثهم المتواصل على التأمل في إبداع الله تعالى في كونه, وحسن تدبيره وتقديره تعالى في مخلوقاته, فإحساسهم وتذوقهم للجمال (إن الله جميل يجب الجمال) يساعدهم على تمثل ملكات التناسق والتوافق والتكامل والروعة وهى من مقومات عملية الابتكار.

- ودون ضيق أو تبرم أو إجبار على أسلوب معين في حل المشكلات, يجب تنمية طرق التفكير السليم, وهى متعددة, لدى أطفالنا ومساعدتهم على الاحتفاظ بأفكارهم الخاصة عبر تسجيلها في يومياتهم أو بطاقاتهم, ليتم البناء عليها لاحقاً ومعرفة مدى تطورهم في هذا الجانب.

تقويم النفس

- ارشدوا أطفالكم إلى كيفية تقويم أنفسهم وتفاعلاتهم في البيت وفى المدرسة ومع الأصدقاء تقويماً إيجابياً وليس سلبياً, حتى وإن جانبهم الصواب في بعض الأحيان, فيتعلموا من أخطائهم فكل بني آدم خطاء وخير الخطاءين التوابون.

- ولا تنسوا مكافأة أطفالكم عندما يأتون بأفكار جديدة, مع تقدير مجهوداتهم ومبتكراتهم وإن صغرت, واحترام مواهبهم ورعايتها الرعاية الكافية.

- وعبر الاعتماد على خبراتهم السابقة والمزاوجة بينها وبين خبرات الراشدين.. شرقاً وغرباً.. تقليداً ثم ابتكاراً, يمكنكم مساعدة أطفالكم على تنمية قدراتهم على الإنتاج المفيد لهم ولغيرهم ولبيئتهم, مع توفير الظروف المساعدة (بعيدا عن التشتت), وتلبية الاحتياجات والمواد اللازمة لتنفيذ أفكارهم المبتكرة.

- حسن اختيار دور التعليم ذات المناهج والإدارة التي تشبع الحاجات والميول, وتنمي المواهب والطاقات مع التعاون والمتابعة الجادة للأبناء في مدارسهم وجامعاتهم فيما بعد.

- ويبقى على المجتمع العربي المسلم دوره المهم في إبراز احترامه وتقديره للعلم والعلماء والمبتكرين, وتوفير السبل وتذليل العوائق أمام المبتكرين من أبنائنا, والإكثار من الجوائز الممنوحة لهم.. تكريما وتشجيعاً, وعبر صدارتهم لوسائل الإعلام.. قدوة واقتداء.

جملة القول: كم هي السعادة والغبطة والحبور عندما يجد الآباء والمربون ثمرة تربيتهم, وحصاد جهدهم, يرون أطفالهم وأبناءهم مبتكرين ناجحين مرموقين, يحققون ذواتهم كما يسهمون في نهضة ورقي مجتمعاتهم وأمتهم.