عضو مميز
- معدل تقييم المستوى
- 24
سيكولوجية السيطرة والانصياع
(كيف يتغير الإنسان بامتلاكه القوة من إنسان طيب إلى شيطان مريد؟
ما يقرر الطغيان ليست الأخلاق الفردية بل الوسط الاجتماعي.
)
إن قصة ( ... ) وجلوسه فوق رقاب العباد ربع قرن هي مظهر هام من علاقات القوة بين البشر أو -بكلمة أدق- علاقات السيطرة والانصياع، وكيف يمكن لفرد أن يتحكم في رقبة أمة تعدادها ملايين ما يشبه السر المغلق الذي يجب فتحه وكسر مغاليقه.
( ... )
إن أول سورة نزلت من القرآن ناقشت مشكلة الطغيان: كلا إن الإنسان ليطغى.. ووضعت الحل في كلمتين «لا تطعه»، ولم تقل اقتله. كما أنها ربطت الكرامة بالقراءة «إقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم؟
( .... )
( ... )
وكما قال أتيين لابواسييه في كتابه «العبودية المختارة عام 1562م»:
«يجب ألا نراهن على الطيبة الموجودة في الإنسان طالما يمكنه أن يؤذي، ومعه مفاتيح القوة».
نعم، يجب عدم المراهنة على طيبة الإنسان بل فرامل تكبحه كما في تركيبة السيارة بين دعسة البنزين والفرامل، وإلا كان مصير السيارة في أول خروج كارثة، وهو ما يحدث من الكوارث اليومية في العالم العربي فيموت البشر، دهسا وقتلا ونفيا وهجرة وموتا في الحياة.
وجميل ما ذكره باسكال: «أي شيء هذا الإنسان الذي يجمع بين الحكمة وبالوعة الضلال أن يكون قديسا أو وحشا. في كل فرح حزن. ومع كل حياة مأتم. فمن يحل لنا هذا التناقض؟».
في ألمانيا، عرض فيلم «التجربة Das Experiment» في شهر مارس من عام 2001م عن العلاقة بين السجان والمسجون والجلاد والضحية، فذعر الناس من رؤية الوحش المختبئ داخل كل منا ينتظر لحظة الانقضاض.
كان الفيلم تكرارا لتجربة «ستانفورد Stanford» التي طبقت عام 1971 في كاليفورنيا التي كانت الأولى والأخيرة في هذا النوع من تجارب علم النفس بسبب الضجة الهائلة التي أطلقتها في الوسط الأمريكي.
ما هي القوة؟
يقول فيليب زيمباردو Philip Zimbardo، عالم النفس الاجتماعي الأمريكي: «إنها متعة الآلهة أفروديت».
ويقول الغزالي في كتابه «الإحياء»:
«إنها أعظم اللذات قاطبة، ولا تقترب منها اللذة الجنسية بحال ولا تقارن»، فهي ممارسة الألوهية بدون اسمها، وهي آخر ما يخرج من قلوب الصالحين.
صدق الأعرابي حينما وصف متعتها:
«يا حبذا الإمارة ولو كانت على الحجارة»، أو على الجثث عند السياسيين.
يروى عن لينين قوله:
«إن موت ثلاثة أرباع الشعب الروسي ليس بشيء، والمهم أن يصبح الربع الباقي منهم شيوعيا». ولينين كان كاتبا محترفا ألـَّف أكثر من 55 كتابا، ولم يمارس القتل بنفسه قط، ولكنه بعد السلطة أرسل إلى الموت الملايين بجرة قلم.
أما ستالين فاعتبر أن موت إنسان تراجيديا، ولكن موت الملايين مسألة إحصائية!
وضمن الملف السري للينين -الذي كـُشف عنه النقاب أخيرا وسمح للباحثين بالاطلاع عليه، في سرداب تحت الأرض، بثلاثة أبواب تصمد لضربة نووية- تمت قراءة خطابات لينين الأصلية، وكيف كانت حياة الناس تـُنهى في كلمات وجمل قصيرة، فكل إنسان لا يزيد على نقطة من حرف.
وعرف عنه تلهفه لتحقيق أفكاره بموجب خرافة عجيبة، فمع أن كل من حوله وكل الظروف وكل أفكار كارل ماركس كانت تقول إن الشيوعية هي ولادة من آخر مراحل الرأسمالية، وأن المجتمع الروسي متأخر لم يدخل المرحلة الرأسمالية بعد، فإن لينين قام بحرق المراحل لوقوعه تحت تأثير نبوءة من سيبريا، وقول لطبيب في سويسرا بأن دماغه معتل ولن يعمر طويلا.
وفعلا، مات لينين عن عمر صغير وأقام شيوعية بنسخة مزورة بالإرهاب الأحمر، وحرق المراحل بما فيها حرق شعب بأكمله، فأرسله في طوابير لا تنتهي إلى الموت.
وكان الشيوعيون يحشدون كل المؤمنين به للحج الأكبر ليزوروا ضريحه، فلا يتجاوزون اليوم المئات، أمام عزم الحكومة السوفياتية على إنهاء خرافة معصوميته، وكان سوق الملايين من الناس زورا في طوابير ذليلة يتبركون برؤيته ويتمسحون بقبره، وأما كلفة حفظ جسمه مبردا فهذا كان من عمل مؤسسة على مدار الساعة بميزانية تعد بالملايين.
صدق الرسول (صلى الله عليه وسلم):
«خير القبور الدَّرس».
وعندما يمنح إنسان مفاتيح القوة، فإنه يتغير على نحو درامي في تصرفاته ومشيته ولحن قوله، بل وحتى توقيعه الشخصي.
قد كانت توقيعات نابوليون أثناء ممارسة السلطة كبيرة واثقة وعند نهايته صغيرة رجراجة.
وتظهر دراسات علم النفس ثلاث حقائق:
كم هو سهل أن يتحول الإنسان الطيب العادي مع القوة إلى شيطان مريد، وأن هذا يخص كل واحد منا فلا يتفلت من هذا القانون أحد،
وأن داخل كل منا يجلس فرعون عظيم جاهز لقطع أطراف السحرة وصلبهم في جذوع النخل، وأن قنص السلطة تحرض على المزيد مثل نار جهنم تقول هل من مزيد فلا تعرف الشبع أبدا، كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى.
كانت الخلاصة التي خرجت بها تجربة «ستانفورد» تدعو إلى الخوف حقا وأنها «ظاهرة» تتخلل كل المستويات والشرائح الاجتماعية.
إن القوة نادرا ما تظهر على شكلها العاري، كما يصف ذلك الفيلسوف برتراند راسل في كتابه «السلطان»، ولا تحتاج إلى أن تظهر على شكل سجن وسجَّانين وهراوات وقضبان، بل على شكل ألوان وملابس وشارات.
فبين «مساعد» في الجيش و«لواء» تهتز من تحته الأرض شاراتٌ على الكتف، ولونُ المعطف الأزرق لعمال الخدمات يكتب مكانة صاحبه أمام أصحاب المعاطف البيضاء من الأطباء معلقة في رقابهم السماعات، بل وحتى بين الأطباء فكلما ثقل جيب المعطف بأدوات الفحص، كان صاحبها أقرب إلى أن يكون طبيبا مقيما، فإذا لبس الطبيب معطفا خاليا إلا من قلم بسيط كان عنوان المهابة: إنه رئيس الأطباء.
وإذا جاء «ملف» بلون معين إلى «موظف معين» دارت أعينه كالذي يغشى عليه من الموت: إنه من «المعلم» ومستعجل، ويضخ الأدرينالين معها في العروق ضخا ليرفع ضغط الدم رفعا، فكانت فاتحة لشلل وخرس وسكتة قلبية.
......................
المفضلات