بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له. أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان، وسلِّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد إخواني في الله؛ أوصيكم ونفسي بتقوى الله –جل وعلا-، وأن نقدم لأنفسنا أعمالاً تبيض وجوهنا يوم نلقى الله. (يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) ثم اعلموا أن النفس بطبيعتها -يا أيها الأحبة- طموحة إلى الشهوات واللَّذَّات، كسولة عن الطاعات وفعل الخيرات، فمن هجر اللذات نال المنى، ومن أكبَّ على اللذات عض على اليد.
وعلى هذا فالناس مختلفون في بناء أنفسهم وتأسيسها وتربيتها اختلافاً بيِّنًا جليًّا واضحًا، يظهر ذلك في استقبال المِحَن والمِنَح، والنعم والنِقَم، والترغيب والترهيب، والفقر والغنى؛ فمنهم من أسَّس بنيانه على تقوى من الله ورضوان؛ فلا تضره فتنة ولا تُزَعْزعُه شبهة، ولا تغلبه شهوة ،صامد كالطود الشامخ، والسر في الإيمان، الذي إذا خالطت بشاشته القلوب ثبت صاحبه.
هاهو [يوسف] –عليه السلام- في عنفوان شبابه، تخرج إليه امرأة العزيز الجميلة، بأبهى حُلَّة، متعطرة، متبهرجة، مبدية لمفاتنها، قد غلَّقت الأبواب، ودَعَتْهُ بصريح العبارة ، فقالت: (هَيْتَ لَكَ) أقبل (قَالَ مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ) ولم تقتصر الفتنة عند ذلك؛ بل ازدادت سعيرًا حين شملت نساء عِلْيَة القوم؛ حين أُعجِبْنَ بيوسف -عليه السلام- وفُتِنَّ برجولته وجماله؛ فأخذن يطاردْنَه، يُردْنه أن يعمل بهن الفاحشة، وتبلغ الأمور ذروتها يوم تأتي امرأة العزيز تهدده، وتقول: (وَلَئِن لمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونن من الصَّاغِرِينَ) ماذا رد (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن منَ الْجَاهِلِينَ) إنه ثبات أنبياء الله أمام الشهوات وأمام التهديدات، عليهم صلوات الله وسلامه، وهم الأسوة والقدوة، إنه الثبات بكل معانيه، والثبات بكل مبانيه أمام الشهوات وأمام الشبهات، والذي لا يوفَّق له إلا مَنْ علم صدقَه ربُّ الأرض والسماوات.
هاهو [مجاهد]، جريح من جرحي أُحد به سبعون ضربة؛ ما بين طعنة برمح، وضربة بسيف، ورمية بسهم، لم يبقَ له في هذه الدنيا وما فيها من أهل ومال ومتاع إلا لحظات. فيمَ كان يفكر هذا الشخص؟ وما الذي كان يشغل باله؟. اسمع ما رواه [الحاكم] عن [زيد بن ثابت] –رضي الله عنه – قال: "بعثني رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يوم أُحُد لطلب [سعد بن الربيع] –رضي الله عنه وأرضاه- في القتلى، وقال لي: إن رأيته فأقرِئْه مني السلام، وقل له: يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أخبرني كيف تجده؟ قال زيد: فجعلت أبحث عنه في القتلى، فأصبته وهو في آخر رمق، به سبعون ضربة؛ ما بين طعنة رمح، وضربة سيف، ورمية سهم، فقلت له: يا سعد إن رسول الله يقرئك السلام، ويقول: أخبرني كيف تجده؟ قال: وعلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- السلام وعليك السلام، قل له: إني -والله- لأجد رائحة الجنة ليس هذا موضع الشاهد، ولكن اسمع ماذا قال؟ وقل لقومي الأنصار: لا عذر لكم عند الله أن يُخلص إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفيكم عين تطرف ثم فاضت روحه -رحمه الله-".
ثبت سعد، وعلَّم غيره دروس الثبات وهو يودِّع الدنيا، ما أوصى بأهل، وما أوصى بمال، كان همُّه أعلى وأغلى وأحلى، همُّه الرسالة، والرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ فرَضِيَ الله عنه وأرضاه، وجعل الجنة مأوانا ومأواه.
هذه سمة المؤمنين، الاطمئنان إلى الله يملأ نفوسهم فيبنيها، يحرك جوارحهم فيقوِّيها. لا يستمدون تصوراتهم وقِيَمَهم وموازينهم من الناس، وإنما يستمدونها من رب الناس.
هذا هو الصنف الأول من الناس ممن أسَّسَ بنيانه على تقوى من الله ورضوان؛ هامات لا تنحني، وقامات لا تنثني، أسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهل هذا الصنف .
أما الصنف الثاني: فأسَّس بنيانه على شفا جُرُف هارٍ، يعبد الله على حرف، إن أصابه خير اطمأنَّ به، وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة، فؤاده هواه، بصره زائغ، عقله فارغ، قد غرق في شهواته الهابطة وفي نزواته الخليعة السافلة يَعُبُّ منها
هاهو أحد الساقطين الذين ما بنوا أنفسهم بنوها على شفا جرف هار فانهار بهم إنه [جبلة ملك غسان]، أسلم وجاء <المدينة> في موكب عظيم بحاشيته وجنده، فرح المسلمون بإسلامه كثيرًا، فخرجوا للنظر فيه وفي موكبه، فإذا الخيول معقودة أذنابها، وسلاسل الذهب في أعناقها، وعلى رأسه التاج المُرَصَّع بالجوهر، وذهب إلى <مكة> وجعل يطوف بالبيت، وبينما هو يطوف إذ وطئ رجل فزاري إزاره فلطم جبلةُ الفزاري فهشم أنفه، فشكاه الفزاريُ إلى عمر–رضي الله عنه وأرضاه- فبعث عمر إلى جبلة فأتاه، فقال له عمر: ما هذا؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، إنه تعمد وطأ إزاري فلطمته، ولولا حرمتك لضربت ما بين عينيه بالسيف، فقال عمر: قد أقررت على نفسك بما فعلت؛ فإما أن تُرضي الرجل، وإلا أن أقتص له منك بهشم أنفك كما فعلت به. قال: وكيف ذلك وهو سوقة، وأنا ملك؟ قال عمر -رضي الله عنه-: الإسلام سوَّى بينكما فلم يرَ جبلة مخرجًا إلا بإعطائه مهلة، طلب مهلة إلى الغد ليلوذ بالفرار ليلاً؛ ويرتدَّ عن دينه، ولو علم الله فيه خيرًا لأسمعه، سقط عند أول امتحان؛ لأن البناء لم يؤسَّس على تقوى، وإنما أُسِّس على شفا جُرُفٍ هارٍ.
أيها المصلون، بعد الذي سمعتم لعلكم أدركتم أن الحاجة العظيمة ماسَّة إلى بناء أنفسنا، وتأسيسها على تقوى من الله ورضوان، أشد من الحاجة إلى الطعام والشراب والكساء.
وذلك لكثرة الفتن والمغريات وأصناف الشهوات والشبهات؛ ولكثرة حوادث النكوص على الأعقاب، والانتكاس، والارتكاس حتى بين بعض العاملين للإسلام، مما يحملنا على الخوف من أمثال تلك المصائر. ولبناء النفس عوامل نذكر أهمها:
فمن عوامل بناء النفس: التقرب إلى الله -عز وجل وعلا- بما يحب من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، وخير ما تقرب به المتقرِّبون إلى الله الفرائض التي فرضها الله -جل وعلا-، ثم إن في النوافل لمجالاً واسعًا عظيمًا لمن أراد أن يرتقي إلى مراتب عالية عند الله -تبارك وتعالى-، وفضل الله واسع يؤتيه من يشاء. يقول -صلى الله عليه وسلم، فيما يرويه عن ربه، كما في البخاري-: "وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه؛ فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذني لأًعيذنَّه" ومن فضل الله –جل وعلا- علينا أن جاء هذا الدين بعبادات شتى تملأ حياة المسلم في كل الظروف والأحوال؛ بالليل والنهار، بالقلب والبدن؛ فهناك السنن القولية، والسنن الفعلية والقلبية التي يعتبر أداؤها من أهم عوامل بناء النفس؛ من قيام ليل، وصيام تطوع، وصدقة، وقراءة قرآن، وذكر لله آناء الليل وأطراف النار. لاشك أن هذه العبادات تقوِّي الصلة بين العبد وبين ربه، وتوثِّق عُرى الإيمان في القلب؛ فتنبني النفس وتزكو بها، وتأخذ من كل نوع من العبادات المتعددة بنصيب؛ فلا تَكَلُّ ولا تَسْأَمُ.
إن استشعار المؤمن أن الجنة محفوفة بالمكاره يتطلب منه جدا وصبرا وعزماواصطبارا يقال [للإمام أحمد]: يا إمام متى الراحة؟ فيقول –وهو يدعو إلى المجاهدة-: الراحة عند أول قدم تضعها في الجنة . إِي والله إنها الراحة الأبدية التي يُستعذَب كل صعب في سبيل الوصول إليها. وأعظم المجاهدة –يا أيها الأحبة- مجاهدة النيات "فإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى " والعمل بغير نية عناء، والنية بغير إخلاص رياء، والإخلاص من غير صدق هباء (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً منثُورًا)
هاهو –صلى الله عليه وسلم- يتجه إلى <تبوك> من <المدينة> بجيش قوامه ثلاثون ألفًا في صحاري يبيد فيها البيد، ويضيع فيها الذكي والبليد، وقت عسرة ووقت شدة، حرٌّ ودنوّ ثمار المدينة، ومشقة عظيمة في سفرهم بلغت فوق ما يتكلم المتكلمون، حتى إن عمر –رضي الله عنه- ليقول: لقد أصابنا عطش شديد حتى ظننَّا أن رقابنا ستتقطع من شدة العطش، حتى إن الرجل لينزل عن بعيره، فينحره فيعتصر فرثه ثم يشربه الحال هذا بعضه. وعندما قفلوا راجعين منصورين، يقول النبي –صلى الله عليه وسلم- بعد هذا التعب العظيم قال: "إن بالمدينة أقوامًا ما سرتم مسيرًا، ولا قطعتم واديًا، ولا وطئتم موطئًا يغيظ الكفار إلا كانوا معكم، حبسهم العذر قالوا: يا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وهم بالمدينة؟! قال: نعم، وهم بالمدينة" إنهم –ولاشك- أقوام حسَّنوا نيَّاتهم. جاءوا إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقولون : يا رسول الله زادٌ وراحلة، لا نملك ذلك، فيقول –صلى الله عليه وسلم -: "لا زاد ولا راحلة" (تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ) فبحسن النية بلغوا ما بلغ أولئك الذين سمعتم ما حصل لهم، فالنية النية، والإخلاص الإخلاص؛ فهي من أهم عوامل بناء النفس وتزكيتها، وكل ما لا يراد به وجه الله يضمحل.
من عوامل بناء النفس محاسبتها محاسبة دقيقة؛ فالنفس بطبيعتها تميل إلى الشهوات، إلى اللذات، إلى الهوى؛ فلابد لها من محاسبة، والكل لا يشك أننا إلى الله راجعون، محاسبون على الصغير والكبير والنقير والقطمير. الأعمال محصاة في سجلات محكمة لا تغادر صغيرة ولا كبيرة (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللهُ وَنَسُوهُ) (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْس شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ منْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) ما دمنا نعلم ذلك، فمن العقل أن نحاسب أنفسنا في الرخاء قبل الشدة؛ لأن من حاسب نفسه علم عيوبها وزلاَّتها، ومواطن الضعف فيها، فبدأ بعلاجها ووصف الدواء لها، لقد عرف السلف الصالح أهمية ذلك، فحققوها في أنفسهم، هاهو أحدهم – كما أورد [ابن أبي الدنيا] بسنده- جلس مع نفسه ذات يوم محاسبًا في آخر عمره، نظر وقلَّب وفكر وقدر؛ فإذا عمره ستون عامًا، حسب أيامها فإذا هي تربو على واحد وعشرين ألف يوم وخمسمائة، فصرخ وقال: يا ويلتاه، أألقى الله بواحد وعشرين ألف ذنب وخمسمائة، هذا إن كان ذنب واحد؛ فكيف وفي كل يوم عشرة آلاف ذنب؟ ثم خرَّ مغشيًا عليه. فالمحاسبة تروِّض النفس وتهذبها، وتزيد العمل الصالح، وتولِّد الحياء من الله، وتُلزم خشية الله. فحاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا، وزِنوها قبل أن توزنوا؛ فإنه أهون في الحساب غداً أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتَزَيَّنوا للعرض الأكبر (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ)
ومن أهم عوامل بناء النفس: طلب العلم المقرب إلى الله -جل وعلا- والعمل به، والدعوة إليه، والصبر على الأذى في تبليغه، أقول هذا لسببيْن اثنيْن؛ لأن العبادة بلا علم توقع في البدع، وما وقع المبتدعة فيما وقعوا فيه إلا عن جهل غالبًا، ولأن العلم مادة الدعوة إلى الله –جل وعلا-، ودعوة إلى الله بلا علم قد تضر ولا تنفع، وقد يصاحبها الانحراف والضلال.
ثم إن لكل شيء ثمرة، وثمرة العلم العمل والتبليغ، وعلم بلا عمل كشجر بلا ثمر
هتف العلم بالعمل *** إن أجابه وإلا ارتحل
ومن كتم علمُا ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة وما أحوج الأمة في حاضرها إلى الدعوة إلى الله -جل وعلا-. ما أحوج الأمة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على بصيرة، على علم مستوعب للشرع والواقع والبيئة وأحوال الناس؛ إن سفينة الأمة تتقاذفها الأمواج يُمْنَة ويسرة، ويخرق فيها المفسدون كل يوم خرقًا؛ فإن لم تجد من يصلح تلك الخروق، فلربما تتحطم السفينة، وتغرق، ولاشك وسيغرق من على ظهرها.
ومن عوامل بناء النفس: المداومة على العمل وإن قل؛ لأن المداومة على الأعمال الصالحة والاستمرار عليها تثبيت وترويض للنفس البشرية لمواجهة أعباء الطريق وتكاليفه، ولذا لمَّا سئل رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: أي الأعمال أحب إلي الله؟ قال: "أدومها وإن قل "
من عوامل بناء النفس مجالسة من رؤيتهم تذكر بالله -عز وجل-؛ فمجالستهم تريك ما في نفسك من قصور وضعف وعيوب؛ فتصلحها وتهذبها؛ فهم زينة الرخاء وعدة البلاء،مرآة لك ولأعمالك،إن أخطأت قوموك، وإن دعوا الله لن ينسوك "هم القوم لا يشقى بهم جليسهم" من جالسهم وأحبهم أذاقه الله حلاوة الإيمان التي فقدها الكثير، (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)
ومنها الخلوة للتفرغ للعبادة، والتفكر في ملكوت الله والاستئناس بمناجاة الله عن مناجاة الخلق في قيام ليل والناس نيام، في صلاة في بيتٍ عدا المكتوبة، في ذكر الله، في خلوة، عامل مهم في بناء النفس؛ فإن في ذلك صفاء للذهن وسلامة من آفات الرياء والتصنع للناس ولعل المرء في خلوة يذكر الله فتفيض عيناه من خشية الله؛ فيكون من السبعة الذي يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله، ومع هذا فإن مخالطة الناس والصبر على أذاهم خير -كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم- ولكن اخلُ وخالط، وكلٌ له وقته.
ومنها الدعاء فهو أهم عامل في بناء النفس؛ إذ هو العبادة –كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم- ففيه الذل والخشوع والانكسار بين يديْ رب الأرباب ومسبب الأسباب، هو الذي يجعل من الداعي رجلاً يمشي مرفوع الهامة والقامة، لا يخضع لأحد دون الله –الذي لا إله إلا هو- وهو من صفات عباد الله المتقين الذين يعلمون أن القلوب بين إصبعيْن من أصابع الرحمن يقلِّبها كيف يشاء؛ فكان لسان الحال والمقال: "يا مقلب القلوب ثبِّت قلبي على دينك" هلاَّ تحسسنا وتلمسنا مواطن وأسباب إجابة الدعاء؛ لعلنا نحظى بنفحة ربانية تكون بها سعادة الدنيا والآخرة.
ومن عوامل بناء النفس: تدبر كتاب الله -جل وعلا- والوقوف عند أسمائه الحسنى وصفاته العلا (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) كلنا يقرأ القرآن، وكثير منا يحفظ شيئامن القرآن؛ لكن هل من متدبر ربط حياته بالقرآن؛ أقبل عليه تلاوة وتفسيرًا وعلمًا وعملاً وتدبرًا، منه ينطلق، وإليه يفيء؟ أولئك البانون أنفسهم، أولئك الثابتون إذا ادلهمَّت الخُطُوب، أولئك المسدَّدون المهديون إذا أطلت الفتن برأسها؛ فأصبح الحليم حيرانًا، وإن وقفة واحدة مع أسماء الله الحسنى وصفاته العلا الواردة في كتاب الله، وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- لتبني النفس بناءً لا يتزلزل ولا يحيد، إنه السميع البصير ليس كمثله شيء، إنه العليم الخبير ليس كمثله شيء، لو تفاعل المؤمن مع اسم الله السميع العليم، فربَّى نفسه عليها، فعلم أن الله يسمعه في أي كلمة ينطقها، في أي مكان يقولها وحده، مثنى، أمام الناس؛ فالله يسمعه سمعًا يليق بجلاله؛ بل إنه ليسمع ويرى دبيب النملة السوداء على الصفاة السوداء في الليلة الظلماء؛ إذن لَصَلُح الحال.
في يوم من الأيام، وعلى عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدخل رجل على زوجته مغضبًا، وكانت مغضبة، وكانا حديثيْ عهد بجاهلية، فأغضبته، فقال لها: أنت عليَّ كظهر أمي بمعني أنها حرمت عليه، نزل الخبر عليها مهولاً كالصاعقة. إلى أين تذهب؟ ذهبت إلى من أرسله الله رحمة للعالمين؛ إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، دخلت عليه في بيت عائشة. وما ذاكم البيت يا أيها الأحبة؟ ما ذاكم البيت يا أصحاب القصور؟ غرفة واحدة، إذا جاء الضيف أو السائل إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- وضع ساتر في وسط الغرفة، وتجلس عائشة في أقصى الغرفة، والنبي –صلى الله عليه وسلم- مع السائل والضيف في أدنى الغرفة، قالت: يا رسول الله، ظاهر مني، فيقول –صلى الله عليه وسلم-: ما أراك إلا قد حرمت عليه، فتقول : يا رسول الله : أكل مالي، وأفنى شبابي. نثرت له بطني، حتى إذا كبرت سني وانقطع ولدي ظاهر مني، فيقول –صلى الله عليه وسلم-: ما أراك إلاّ قد حرمت عليه، فتقول يا رسول الله: لي منه صبية صغار إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إلي جاعوا. تجادل وتحاور الرسول –صلى الله عليه وسلم-، وعائشة في الشق الثاني من الغرفة يخفى عليها بعض كلامهم. ويأتي الحل مع جبريل من عند السميع البصير يقول: (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ التِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) وتنزل كفارة الظهار كما تعلمون، ولك أن تتخيل يا أيها الأخ، يا أيها الحبيب، تتخيل عائشة بجانبه يخفى عليها بعض كلامهم، وما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام، وما بين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة عام، وسُمك كل سماء خمسمائة عام، وفوق السماء السابعة خمسمائة عام ، ومن فوق ذلك عرش الرحمن، ومن فوقه الرحمن بائن عن خلقه، مستوٍ على عرشه يسمعها ويسمعهم؛ بل (مَا يَكُونُ مِن نجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا) إنه الكمال المطلق لا إله إلا هو السميع البصير، تقول عائشة –رضي الله عنها بعد ذلك-:" تبارك الذي وسع سمعه السماوات والأرض وكل شيء، لقد سمعها من فوق سبع سماوات، وما سمعتها وما بيني وبينها إلا الحجاب" –أو كما قالت-.
إن النفس يوم تتفاعل مع هذه الصفة تتعلق في كل أمورها بالله، فتراقبه، وتنسى رؤية الخلق مقابل ذلك.
هذه بعض عوامل بناء النفس البناء الحقيقي الرباني فهلا من وقفة معها ألا من وقفة صادقة كيف نحصلها؟ وليكن لنا جلسة تأمل مع أنفسنا بعد هذه الخطبة لعل الله أن يفتح لنا بها بابا في بناء أنفسنا والإرتقاء بها.