يُحكى أن عمر الخيام طلب من وزير، مبلغا قدره خمسة آلاف دينار، دُهش الوزير من ضخامة المبلغ فقال: هل تعلم أنني لا أتقاضى أنا نفسي هذا المقدار؟ فأجابه عمر: هذا طبيعي جداً، فقال الوزير: ولم يا تُرى؟ فرد عمر الخيام: لأن العلماء أمثالي لا يجود الزمان إلا بحفنة منهم في العصر الواحد، في حين أنه بالإمكان تعيين خمسمئة من الوزراء أمثالك في السنة الواحدة!" وبالفعل عمر الخيام من القلائل الذين استطاعوا أن يغرفوا من بحور العلم والأدب والشعر ويتألقوا بلآلئها ودررها. فقد اشتهر عمر الخيام بعبقريته الفذة وعلمه الغزير. وكما وصفه أمين معلوف بقوله " لا النباتات تحجب عنه مكنوناتها ولا النجوم تكتم عنه أسرارها." كان الولاة والسلاطين في زمانه يتفاخرون بوجوده في بلدانهم لأنه يضفي صبغة علمية وشهرة مشرفة على المدن التي يحل بها، حيث أينما ذهب احتشد حوله طالبو المعرفة والمستنيرون الحقيقيون ليرشفوا من أنهاره في الجبر والفلك والطب والأدب وحتى في المسائل الدينية. عمر الخيام وشبيهه من العصر الحديث "ليوناردو دافنشي" صاحب اللوحة المشهورة "موناليزا"، والذي وضع أسس بعض العلوم وبرع في فنون الرسم والنحت، وهناك غيرهما ممن امتلكوا عدة قدرات في آن واحد، يعتبرون ظاهرة من النادر جدا أن تجود بهم الأرحام في هذه الحياة. هؤلاء القلة من البشر طفرات جينية، ملونون بكل أصباغ الطيف المثيرة والمحرضة على التفكير المبدع. إنهم يحملون معهم عبقرية متميزة وذكاء حادا متأججا يفسر ما يسميه التربويون اليوم بالذكاء المتعدد. مفهوم الذكاء المتعدد أطلعنا عليه في بداية الثمانينيات أستاذ ومنظر من جامعة هارفارد يدعى "هوارد جاردنر". بيـّن ماهية الذكاء وطرح في كتابه المعروف "أطر العقل" نظرية أسماها "نظرية الذكاء المتعدد".تلك النظرية دحضت التوجهات التقليدية لتعريف الذكاء وكيفية زيادته وتنميته. فالذكاء ليس ذا طابع واحد ولا تُقاس حدته بالمستوى التحصيلي فقط. أوضح "جاردنر" في نظريته تلك أن كل إنسان يختزل أنواعا مختلفة من الذكاء وأن لكل نوع خصوصيته واستقلاليته. وأن استخدام أي نوع يساهم في نموه وزيادته بمعزل عن أنواع الذكاء الأخرى، بل ربما يساعد على تطوير ذكاء آخر. الأسئلة الذي تلح علينا الآن ترى ما هي أنواع الذكاء؟ وكيف نتعرف عليها ونصنفها؟ أورد "جارندر" في نظريته التي غيرت توجهات التربويين ودورهم ثمانية أنواع للذكاء وهي: أولا "الذكاء اللغوي" وهذا النوع مرتبط بكل ما يتعلق باللغة المحكية والمكتوبة ونجده متجسدا في الشخصيات الأدبية والسياسية والإعلامية والمحامين والمعلمين وحتى الممثلين يدرجون تحت ذلك الصنف. الذكاء الثاني هو"المنطقي الرياضي" أما الذي يليه الذكاء "الموسيقي" وكلاهما لا يحتاجان إلى مزيد من التفصيل فالأول يتمثل في بحور العلوم والعلميين والآخر يحلق بين أجواء الموسيقى والموسيقيين. يأتي بعدهما "الذكاء المكاني" وهو متعلق بالتصور الخيالي المبدع ويظهر هذا النوع من الذكاء في فئة الفنانين التشكيليين والنحاتين والمصممين والمهندسين المعماريين.هناك أيضا ما سماه جاردنر "بالذكاء الحسي-الحركي" وهذا يعنى بوعي الإنسان بجسده وأبعاده الحركية وهو ما يتميز به الرياضيون والراقصون والحرفيون. بقيت ثلاثة أنواع، الأول يرتبط بالتفاعل الاجتماعي مع الآخرين يطلق عليه"ذكاء بيني-شخصي" ونجده لدى البائعين ورجال الأعمال والمرشدين. والذكاء الآخر يحاكي العواطف والانفعالات الداخلية الشخصية "ذكاء ضمن شخصي" ويندرج تحته الفلاسفة والباحثون والمنظرون، ثم اختتم "قاردنر" نظريته "بالذكاء البيئي" وهو متعلق بالطبيعة وإدراك جوانبها ونجده لدى الرحالة والمستكشفين والباحثين. خلاصة تلك النظرية هي أنها أثبتت أن الإنسان يمتلك عدة أصناف من الذكاء في وقت واحد وأن جميعها على نفس القدر من الأهمية. فمثلا قد تكون هناك معلمة فيزياء يعني ذكاؤها "منطقي رياضي" ولديها قدرة على هضم الأبجدية وصياغتها بلغة شعرية "ذكاء لغوي"، وأيضا تجيد العزف على آلة البيانو"ذكاء موسيقي" . شخصية ملونة مثل تلك تتبلور بشكل متجانس وجميل إذا ما توفرت لها الظروف المناسبة والبيئة المعززة لإبرازها. ما يهمنا الآن في كل ما ذكر هو كيف نتعرف على ألوان ذكائنا وكيف ننميها ونجعلها أكثر بهجة وإشراقا؟ في الحقيقة أن هناك اختبارات تُعطى للشخص لتساعده على تمييز قدراته العقلية وتبين قياسها مثل اختبار "واكسلر" و"ستانفرد بنيه" .لكن في عالمنا العربي حتى الآن لا يوجد اختبار معرب يشمل جميع الفئات، مقنن علميا ومعتمد من الجهة المطورة أو المنتجة له. هناك نسخ معربة ومقننة محليا في بعض الدول العربية ولكنها لم تُعتمد، وعادة تستخدم تلك الاختبارات في المؤسسات التي تعنى بالفئات ذات الاحتياجات الخاصة مثل مراكز المعاقين. إذاً تلك الأداة ليس بمقدور الجميع أن يتناولها، تتبقى الوسيلة الثانية والتي هي بنفس الأهمية والدقة وهي المتابعة ورصد الملاحظات وتحليلها. بالإمكان أن يستخدمها أي شخص على نفسه بحيث يراجع إخفاقاته ونجاحاته، ويبحث أين يتألق وأين ينطفئ، ويدرس ظواهره بجدية وموضوعية، دون أن يُقحم مسألة قلة الحظ أو زيادته في بحثه. بعدها باستطاعته أن يُدرك أنماط الذكاء التي يختزلها في داخله ومن ثم يسعى إلى تنميتها بالأسلوب الذي يتناسب ويتماشى مع ميوله. أيضا أسلوب المتابعة هذا فعال وجيد لمراقبة نشاطات الصغار في البيوت والطلاب في المدارس لتصنيف ذكائهم والعمل على إحيائه وإنعاشه. تبقى الإشكالية التي عرّتها نظرية الذكاء المتعدد وأبرزتها على السطح أمام الجميع وهي طرق التربية والتعليم. ثبت أن النظام التعليمي خاصة في الدول المتعثرة علميا وتكنولوجيا، ثنائي التوجه، أي يطور جانبين فقط من ذكاء الإنسان ويركز على إثرائهما وهما الذكاء اللغوي والذكاء الرياضي. وبالتالي الأنواع الأخرى تضمحل وتتلاشى لدى المتعلم لأن منشّطاتها مغيبة أومهمشة بشكل أو بآخر. يترتب على ذلك أن المتعلم الذي لا يمتلك أحد هذين الصنفين لا يحصل على ما يثري روحه ويجدد إقباله على التعلم فيكون عرضة للفشل ويدفعه لمغادرة الصفوف الدراسية. النتيجة هي: أننا نجد في الدول الثنائية التوجه في التعليم كالدول العربية مدارسها تخرج طلابا إما ضامرين فكريا أو معلبين ذوي صبغة باهتة وطابع تقليدي واحد في العطاء والتفاعل. إذاً مرة أخرى تبين لنا الحقائق العلمية والنظريات التربوية الحديثة أن المقاس الواحد والنهج الواحد في التعليم لا يناسب جميع الفئات ولا ينسجم مع أنماطها المختلفة، وأنه قد حان الوقت لإيقاف سرب المقولبين الذين تلفظهم كل عام مدارسنا وجامعاتنا العربية. فالمجتمع الذين لا يتمتع أفراده وجماعاته بذكاء متعدد وفكر ملون، سيظل لدهور طويلة مرتديا صبغاته النمطية المترهلة، وقابعا في غياهب التخلف الموحش مشتتا بين دهاليزه المعتمـة.