كتاب كيف تحاور ؟ للدكتور طارق الحبيب
كتاب كيف تحاور ؟ دليل عملي للحوار . للدكتور طارق الحبيب




يقول الدكتور طارق الحبيب في كتابه الصغير حجماً والمفيد علماً :


".. و يقال ان قبيلة أخرى (في افريقيا) تسمح للخطيب بالتحدُّث طالما كان يستطيع وهو واقف على ساق واحدة، وعندما تلمس ساقه الأخرى الأرض يتوجب عليه التوقف عن الكلام"!! قلت: تلك القبيلة الافريقية ذات ذكاء!


ولا تعرف المسايرة الاجتماعية المتعبة جداً في كثير من الأحيان، حين يثرثر بعض الناس ويطيل والآخرون مجبرون للاستماع عليه مجاملة أو مسايرة أو نوعاً من الذوق الاجتماعي المظهري!


إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين رأى رجلاً يتشدق ويحاول أن يسكت الآخرين بطول اللسان والسفسطة..


قال عنه وعن أمثاله: "إن الله لا يحب هذا وأضرابه، يلوون ألسنتهم ليّ البقر بلسانها المرعى" رواه الطبراني.


*****


ويقول الدكتور طارق الحبيب في كتابه المفيد "كيف تحاور.. دليل عملي للحوار":


أُجريت دراسة في إحدى كليات الطب نتيجتها أن الطالب يفقد تركيزه بعد (18) دقيقة من الحديث المتواصل، فما بالك بمستمع لحديث غير مُلءزَم بإدراكه!!


ومن الطريف ما جاء في كتاب الدكتور جونسون عن شعوب افريقيا البدائية.. فقد عاش بينهم وراقبهم طيلة تسع وأربعين سنة وهو يقول: (إنه عندما يلقي خطيباً خطاباً طويلاً خلال اجتماع القرية فإن الجمهور يسكته بالصراخ: كفى كفى!!).


قلت: وفي محاضرات الأدباء للراغب الأصفهاني أن أعرابياً حضر عقد نكاح، فقام أحد الحاضرين وأخذ يخطب ولم يوجز، فنهض الأعرابي وقال بأعلى صوته والرجل يخطب: إذا خلص هذا الرجل من كلامه فبارك الله لكم!! ثم غادر المجلس والرجل لا يزال يخطب والحضور يبتسمون!


وقد قال خالد بن صفوان لجارية له ذكية بعد تحدث في مجلس فأطال:


ما رأيك في حديثي؟


فقالت:


- لا بأس به لولا أنك تُرَدِّد فيه وتُطيل!..


فقال:


- إنما أردده لكي يفهمه مَنّ لم يفهمه!


فقالت:


- وإلى أن يفهمه من لم يفهمه يمله من فهمه !


.. وقولها صحيح فإطالة الكلام مملة .


*****
آداب الحوار



يقول المؤلف:


"للحوار آداب حريُّ بالمحاور أن يلم بها، فهي الطريق ل**ب الآخرين والتأثير فيهم.. وقد أولى القرآن أدب الحوار أهمية بالغة، فهو الإطار الفني للدعوة، والسحر الحلال الذي يفتن عقول الناس ويأسر أفئدتهم..


فمن نصوص القرآن الحاثَّة على أدب الحوار: قوله تعالى {وقولوا للناس حسنا} سورة البقرة الآية 83وقوله تعالى {وجادلهم بالتي هي أحسن} سورة النحل الآية .125.وقوله تعالى: {فقولا له قولاً لينا لعله يتذكر أو يخشى} سورة طه الآية .44.وقوله تعالى {وقولوا لعبادي يقولوا التي هي أحسن} سورة الاسراء الآية .53.وقوله تعالى {والذين هم عن اللغو معرضون} سورة المؤمنون: الآية 3.


وقوله تعالى {ادفع بالتي هي أحسن السيئة} الآية.. سورة المؤمنون 96.


وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم مثالاً للمحاور الرائع، تشهد بذلك أفعاله قبل أقواله، وقد جاء عنه أنه قال:


* "يسِّروا ولا تُعَسِّروا وبشروا ولا تنفروا" متفق عليه.


* "الكلمة الطيبة صدقة" متفق عليه


* "ليس الشديد بالصرعة ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب" متفق عليه


* "تبسُّمُكَ في وجه أخيك صدقة" رواه الترمذي.


* "الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أحق الناس بها".. رواه الترمذي وابن ماجة.


* "إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطيه على العنف، وما لا يعطي على سواه" رواه أبوداود وابن حيان.


والآيات والأحاديث أكثر من أن تُحصر في مثل هذا المقام، ومن هذه النصوص وغيرها تتفرع آداب عديدة للحوار سنأتي على ما يسره الله منها..


وقد تحدث المؤلف في آخر الكتاب عن (القرآن الكريم والحوار) ص 65- 67وعن (الرسول صلى الله عليه وسلم والحوار) ص 68- 69لنجد أن آداب الحوار الإنساني الراقي والمثمر والنافع موجودة في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم بما يسعد من استوحاها والتزم بها من أفراد ومجتمعات ومحافل سياسية أو علمية.. أو غيرها..


*****


ورغم أن مؤلف الكتاب الدكتور طارق الحبيب لم يسرد آداب الحوار بشكل تسلسلي أو مرقم إلا أنه تحدث عن أهمها تحت عناوين فرعية صغيرة هي أقرب للحديث الودود مع القارئ من فرض الشروط وتقديم النصائح المباشرة وترسيم القواعد الصارمة..


وكان نبراس المؤلف في هذا الكتاب القرآن الكريم والحديث الشريف ثم ما ورد في تراثنا الثري مع الاستفادة من كل العقول النيّرة وخاصة (ديل كارنيجي) الذي هو من أفضل الكتَّاب في مجال العلاقات الإنسانية بشكل عام..


وكثير من شباب اليوم يجهلون ديل كارنيجي ولا يكادون يعرفون كتبه عن فن التعامل مع الناس وعن محاربة القلق وأفضل السبل لحل المشكلات، مع أن تلك الكتب لكارنيجي كانت منتشرة بين شباب الأمس بشكل كبير.. وأفادت الكثيرين لما يتميز به كارنيجي من أسلوب واقعي مقنع مدعم بالحقائق وبالحوادث وبالقصص الممتعة والأمثال،


وإنني أدعو شبابنا إلى قراءة كتب (ديل كارنيجي) فهي مفيدة اجتماعياً بشكل كبير، وقد ألف الشيخ محمد الغزالي - رحمه الله - كتاباً جميلاً بعنوان (جدِّد حياتك) ناقش فيه أكثر أفكار ديل كارنيجي ودعواته للتعامل الاجتماعي الراقي ولحسن مواجهة المصاعب والمشكلات، واستطاع الشيخ الغزالي إعادة أحسن ما كتب كارنيجي إلى تراثنا العريق الذي سبقه إلى ذلك، ومع هذا تظل قراءة كتب كارنيجي مباشرة نافعة بإذن الله، لأن للرجل أسلوباً متميزاً يقنع العقل والوجدان.


*****


وعودة إلى كتاب (كيف تحاور: دليل عملي للحوار) للدكتور طارق بن علي الحبيب، وهو طبيب نفسي معروف وقد نفعه تخصصه في معالجة مثل هذا الموضوع الهام والحساس، فإنه يقدم آداب الحوار بشكل ودود كأنما يتجاذب الحديث مع القارئ، وأول تلك الآداب الإخلاص لله عز وجل في المحاورة وجعل طلب الحق هدفاً..


يقول مثلاً: "... المسلم الصادق ينشد الحقيقة ويفر من الخديعة، همُّهُ بلوغُ الحق سواء على يده أو على يد محاوره، فالحكمة ضالته، حتى ان امرأة ردت على عمر - رضي الله عنه - حول تحديد المهور وهو في خطبته على ملأ من الناس، فقال: أصابت امرأة وأخطأ عمر".. فالخطأ وارد من كل إنسان (كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون) كما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم.


ويستشهد المؤلف بقول الإمام الغزالي "أبي حامد" (أن يكون - أي المحاور - في طلب الحق كناشد ضالة، لا يُفَرِّق بين أن تظهر الضالة على يده أو على يد من يعاونه، ويرى رفيقَهُ مُعينا لا خصيماً، ويشكره إذا عَرَّفَهُ الخطأ وأظهر له الحق" كتاب إحياء علوم الدين 42/1.


*****


والعاقل يعرف أن الخلاف طبيعة بشرية، لاختلاف ظروف الناس وطبائعهم وثقافاتهم وقناعاتهم وعواطفهم وميولهم، وقد شرح ذلك مؤلف الكتاب ص 13بشكل جيد.


قلت: ومجرد اليقين بأن الخلاف طبيعة بشرية يجعل الإنسان - إذا حاور - أكثر هدوءاً وصبراً وتفهماً لوجهة نظر محاوره واحترامه والحرص على إظهار الحق أمامه بدون عنف أو ضيق صدر بل بالتي هي أحسن مصطحباً الابتسامة والكلام الطيب وبشاشة الوجه.


بنيَّ إنَّ البرَّ شيءٌ هيِّن


وَجهٌ طليق وكلامٌ ليِّن


*****


ويدعو المؤلف إلى حسن البيان من غير تعقيد ولا تشدق بل بإيجاز واضح وحبذا الاستشهاد بالمثل والشعر لتجلية المعنى..


وكذلك التوقيت المناسب لاختيار الحديث وبدء الحوار حسب ظروف المجلس والناس والوقت .


ويرى المؤلف أن حسن الاستماع من آداب الحوار، ولاشك في هذا، فالذي يحسن الكلام ولا يحسن الاستماع بمقته الناس وينفرون من كلامه واستئثاره بالحديث .


كما أن الصبر عنصر جوهري في انجاح الحوار، ومن الصبر عدم مقاطعة المتحدث بهدف اسكاته وقطع حديثه والاستيلاء على الحديث فإن في هذا نزقا وأنانية وحماقة.


ويرى المؤلف أن يبدأ الإنسان بنقاط الاتفاق مع محاوره لي**به منذ البدء، وليحصر نقاط الخلاف فيسهل الحديث عنها بهدوء وتركيز وإيجاز جاعلاً الحق هو الهدف لا الغلبة..


(افهم من أمامك) كما يقول المؤلف : إذا فهمت من أمامك بشكل جيد استطعت الوصول إليه ومعرفة كيف تحدثه وتقنعه.


وقد ورد "خاطبوا الناس على قدر عقولهم".


والمودة في الحديث تظهر إذا كان المحاور سليم القلب يستهدف الحق لا الغلبة ومن علامات المودة الرفق والابتسام ومناداة المحاور بأحب أسمائه إليه وحسن الإنصات إليه والبعد عن الغرور والعجب.


تدعيم الرأي بالبرهان والدليل فإن الرد من غير دليل بمنزلة هدم العلم بالشك المجرد.. ويشترط للدليل صحته وليبدأ في عرض أدلته بالأقوى فالقوي، دون التحكم بالدليل حسب الهوى فذلك شأن المبطلين ودأب المضلين قال الله عز وجل: "أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقاً كذَّبتم وفريقاً تقتلون" سورة البقرة الآية 87.


ويرى المؤلف أن (الحيدة) وهي الجواب عن غير سؤال السائل هي حيلة الضعيف والعاجز، ويقول (ومن الحيدة التوسل بالعاطفة بدلاً من أن يُقَدِّم أساساً معقولاً لرفض اقتراح أو فكرة، وكثيراً ما يولع أمثال هذا الشخص بالإشارة - في معرض النقاش حول قضية ما - إلى اعتبارهم الذاتي ومؤهلاتهم الحقيقية أو المزعومة - للخوض في غمار الحوار بدلاً من أن يقدموا حقائق أو حججاً صريحة ويتركوها هي تتكلم عن نفسها.


وإن قلتُ ما قلتُ في ذم الحيدة وزيادة، فإنها تظل الحيلة المستطابة والمنفذ الآمن من احراجات زوجته!!) .


الأمانة في عرض الأدلة وفي مناقشة ما قاله الطرف الآخر دون تحريف لكلامه أو عرضه مقطوعاً مبتوراً.


ومن قلة الأمانة لي أعناق النصوص وتحميل كلام منقول ما لا يحتمل.


احترام الطرف الآخر حتى وإن أخطأ..


وشرط للحوار الناجح أن يجري المتحاوران حوارهما على عُرءفٍ واحد، فإن كان الحوار على عرف الفقهاء فلا يلجأ الطرف الثاني إلى عرف النحاة والفلاسفة ونحو ذلك.. ومن الخطأ أيضاً أن يتكلم أحد الطرفين بلغة الواقع عن مشكلة اجتماعية ينشد لها الحل فيجيبه الآخر بلغة مثالية مجردة عن أرض الواقع..


والغريب في مثل هؤلاء أنك إذا حاورتهم بنفس المثالية التي يفكرون بها وبلغت الفكرة حد التطبيق اعتذروا عن عدم جدواها لأنها لا تتناسب مع أرض الواقع!! فأولئك قوم يغلب عليهم هواية التنظير والسفسطة مع قلة في العمل والفائدة" .


****