أهمية القدرات الذاتية في الدراسة .. ؟؟


السلام عليكم ورحمة الله وبركاته




المهتمون بفعل القراءة وعالم الكتب هذه الأيّام يدركون أن إستهلاك الكتاب لم يعد يلقى الإقبال الكبير نفسه الذي كان عليه في السابق، وعلى الرغم مما يبدو لنا عندما نتحدث عن النشاط التعليمي والمدرسي من أن فعل القراءة هو عبارة عن نشاط محسومة ممارسته سلفاً، بمعنى أن طلابنا وتلاميذنا يقبلون على القراءة بكل تلقائية وعفوية، فإنّ العكس هو الصحيح، حيث نلاحظ الطلاب والتلاميذ يبدون نفوراً من الكتب والقراءة، ويحاولون جهد الإمكان الإبتعاد عن هذا النشاط التثقيفي الأساسي والضروري الذي يؤهلهم للإندماج في خضم الحياة العامة.


هنا يجب أن نؤكد أنّ الثقافة ترتبط بصيغة حاسمة بنشاطي التعليم والتكوين، حيث لا يمكن تحصيل الثقافة بمختلف مكوناتها وأبعادها إلا بواسطتهما، ولذلك بات من الضروري على مدارسنا العربية أن تجمع في تكوينها لطلابنا وتلاميذنا بين عدة كفايات، تربوية، وتعليمية، وتكوينية، وثقافية، ومهنية، وبذلك تستطيع مؤسساتنا تأهيل متعلمينا للدخول في الرهانات الضرورية لتدعيم أسس التنمية العربية المستديمة.


إنّ القراءة التي نتحدّث عنها هنا هي القراءة بمعناها العام والشامل، فهي لا تقتصر على ذلك النشاط المرتبط بالمقررات والمناهج الدراسية، بل تتعداه إلى إستهلاك كل أنواع المقروء المفيد في تكوين وتثقيف طلابنا، والقراءة في الحقيقة هي عبارة عن ولع فعّال، ونشاط خاص، وموهبة سامية، وهي كذلك مهارة تجعل الفرد القارئ يعمل على إدراك محتوى نص مكتوب بناء على عمليتي التأويل والفهم، لأنّ القراءة تبدأ عادة بتحليل شبكة الرموز اللغوية التي يتشكل منها نص من النصوص المتنوعة، وبعبارة مبسّطة إنّ القراءة هي تحليل الكلام الذي يوجد بثنايا النص، و"أوّل ما نلاحظ أن كلاماً ما لا يصير نصّاً إلا داخل ثقافة معيّنة، فعملية تحديد النص ينبغي أن تحترم وجهة نظر المنتمين إلى ثقافة خاصة، لأنّ الكلام الذي تعتبره ثقافة ما نصّاً قد لا يعتبر نصّاً من طرف ثقافة أخرى"، إنّ هذه الملاحظة تعتبر حاسمة في طريقة التعامل مع النص المقروء، وخصوصاً ذلك النص الذي لا يتوافر على أي فائدة آنية أو مستقبلية في حياة تلاميذنا وطلابنا، وينسحب هذا المعنى بكل وضوح وجلاء على نوعية الكتب والنصوص التي ينبغي علينا أن نوجه إليها المتعلمين، حتى تكون قراءاتهم ناجعة وفعّالة في الربط بين رفع وتيرة تعلمهم وتكوينهم، وبين درجة حصولهم على عمق ثقافي معقول يؤهلهم للمشاركة في تدبير حياتهم، والمساهمة في صنع القرار مع مواطنيهم، خدمة لبلدانهم.




إنّ فعل القراءة عبارة عن نسيج بنائي تساهم فيه ذات القارئ الحقيقي بكل إصرار وفاعلية، وبكل إنسجام كذلك، وغالباً ما يوصف فعل القراءة هذا بأنّه ليس خطيّاً، بل هو دائم التعرّج والإنكسار، ويتميّز بمجموعة من التحوّلات والتغيّرات، لأنّه لا يسير بصيغة مستقيمة، على إعتبار أنّه يكون مساوقاً لمجموعة من الأنشطة التي تتطلب التأويل، والتركيز، والفحص، والإستمرار، وهكذا نلاحظ أن فعل القراءة يحتاج إلى طاقات قوية، وقدرات عقلية عليا معقدة ومتنوعة، ولذلك فإن "القليلين من الناس فضلاً عن طلبة اللغويات ومدرسي القراءة هم الذين يدركون الممارسات العقلية المعقدة التي تشتمل عليها عملية القراءة، فبعد وقت قصير من تعلم الشخص القراءة، يستوعب العملية تماماً إلى حد أنّ الكلمات في الكتب تبدو كأنّها اكتسبت وجوداً يماثل تقريباً الأشياء أو الأفعال التي تمثلها"، ولذلك فنحن نجد أنّ المفكر والمربي السويسري "جان بياجيه" قد تحدث عن مرحلة في حياة الطفل تسمى "المرحلة الواقعية الاسمية" حيث يعتقد الطفل أنّه يستطيع إمتلاك الأشياء عندما يصل إلى تعلم الكلمات والعلامات الدالة عليها، ويظهر جليّاً أننا عندما نعوّد المتعلمين القراءة، فإننا في الحقيقة نكون قد جعلناهم يحققون معها ألفة حميمية تدفعهم إلى تصوّر إمتلاك ما هم بصدد قراءته.


ويجب أن نؤكد أنّ الطالب عندما يتعوّد القراءة، فإنّه سوف يكون مساعداً لنا ولنفسه على تيسير عملية تكوينه، لأنّ التكوين في عمقه هو مجموعة المعارف والمعلومات والإرشادات المكتسبة في المدرسة، أو بوسائل ذاتية، وهنا يتضح لنا أن عملية تكوين المتعلمين لا تقتصر على المدرسة فقط داخل الأقسام والفصول، بل إنّ التكوين يرتبط كذلك، وبالدرجة الأولى، بالإرادة الطموح التي يعبّر عنها المتعلم، فيعمد إلى تدعيم تكوينه المدرسي بإستثمار البدائل الممكنة والمتاحة والتي تأتي القراءة في صدارتها، ولذلك يمكننا أن نقول إنّ التكوين يشمل بالصيغة التي ركّزنا عليها آنفاً الجانب المعرفي، والتثقيفي، والمهاري، إنّ هذه المعطيات ترتبط بالتأكيد ليس فقط بالمدرسة،


بل وكذلك بالقدرات والإمكانات الذاتية والخاصة التي تميز المتعلمين فيما بينهم، وهنا نستطيع أن نتحدث بكل ثقة وتفاؤل عن تلك العلاقة المتينة والمنسجمة بين المدرسة والحياة، حيث يعي المتعلم كل الوعي أنّه يتعلم من أجل المدرسة، والإمتحانات، والثقافة، والحياة.


إننا نستطيع بناء على هذه الطموحات التي نروم بلوغها، ونحن نعلم طلابنا وتلاميذنا، أن نشير إلى أنّ القراءة الهادفة والمنظمة تشكّل أحد الممكنات التي تستطيع التأثير في التكوين داخل الوسط المدرسي، هذا الوسط الذي يعرف عادة "بأنّه مجموع المعطيات الخاصة بنظام معيّن، يستمدها من المحيط العام، وبهذا يكون الوسط المدرسي عبارة عن نظام خاص يتوافر على مجموعة من المعطيات يستمدها أساساً من محيطه الطبيعي الذي يوجد به" أي المجتمع، فيكون الوسط المدرسي بهذا المعنى نموذجاً لنظام محدد يرتبط بعلاقة واضحة من المجتمع حيث يمكننا أن نقوم بدراسته وتحليله إنطلاقاً من ثلاث صيغ:


1- يحصل الوسط المدرسي من محيطه العام الذي هو المجتمع على مختلف الإمكانات المادية التي يحتاج إليها لممارسة مختلف أنشطته التعليمية، والتربوية، والتكوينية، والتثقيفية، مثل الموارد البشرية، والتجهيزات.
2- يعتمد كل من المجتمع والوسط المدرسي على الآخر ضمن علاقة تعاقدية في إقامة مختلفة الأنشطة التربوية والثقافية، سواء بصيغة دورية، أو في المناسبات لخاصة والعامة.
3- يعتمد النشاط العام الذي يسود المجتمع والذي يتمثل في نوع التدبير والتسيير لمختلفة هيئاته ودواليبه على طبيعة المنتوج الذي تتيحه "المخرجات Out Put" الخاصة التي يقصدها النظام المدرسي والتي هي في الحقيقة من تحديد المجتمع، على أساس أن نوعية الموارد البشرية والشروط والخصائص التي يجب أن تتوافر في الخريجين يتم تحديدها من طرف الجهة المكلفة تسطير سياسة التعليم داخل كل بلد عربي.


في الحقيقة إنّ فعل القراءة يقع ضمن الصيغ الثلاث، حيث يوجد على طول الخط في مختلف العلاقات القائمة والممكنة بين الوسط المدرسي ومحيطه العام، ولكنه يظهر بصورة واضحة أكثر من خلال نوعية العلاقات التبادلية والتعاقدية بين الوسط المدرسي والمجتمع، على أساس أنّ المجتمع يعتبر الوسط المدرسي إمتداداً طبيعياً له، باعتباره نموذجاً مصغّر للمجتمع، فهو نسق إجتماعي يتميّز بمجموعة من العلاقات المرتبطة ببعضها البعض بصيغة نسقية، ويقوم فيه كل جزء بوظائف منسجمة ومكمّلة للوظائف التي تقوم بها كل الأجزاء الأخرى.






إنّ فعل القراءة هو عبارة عن متغير دائم ومستمر وهو يتخلل العملية التعليمية، بحيث إنّ التأثير الذي يمارسه على التكوين، ومن ثمّة على الوسط المدرسي رهين بعدة معطيات دخيلة أو مشوّشة، ولذلك فإنّه لا يمكن أن يكون للقراءة تأثير إيجابي وفعّال إلا إذا كانت واعية، والوعي هنا ينصرف مباشرة إلى الإدراك، بمعنى أن يكون المتعلم واعياً ومدركاً بتوجيه من مدرّسيه بأن فعل القراءة هو فعل يدعو بإلحاح إلى التغيير والتطوير، وبذلك فإن على المتعلم إقامة علاقة تفاعلية بينه وبين النص المقروء، لان المتعلم القارئ عندما يقرأ فإنّه يكون في الحقيقة مشاركاً في إنتاج النص وبنائه من جديد حسب تصوّراته ومكتسباته السابقة، وفي هذه الحالة يصبح المتعلم منتجاً للنص المقروء من خلال تبني معطياته وأطروحاته، هنا تكمن أهمية التدخل في توجيه أنشطة القراءة التي يمارسها المتعلمون، حتى تكون النصوص المستهلكة منسجمة مع سن المتعلمين، ومداركهم، وقدراتهم العقلية، وطاقاتهم المعرفية، لأن تلقي نص من النصوص هو الذي يشكل في الحقيقة فعل القراءة، بينما يتحدد تأثير القراءة في التكوين والوسط المدرسي ضمن النتيجة التي تشكّلها تلك القراءة في فكر وسلوك المتعلم.


إنّ فعل التأثير نتيجة للقراءة يدعو بالتأكيد إلى البحث عن حالة ونية القارئ، وكذلك الدوافع والمسببات التي دفعت المتعلم للقراءة، حيث أشار البعض هنا إلى ما يسمى "الإكتراث بالقراءة"، بمعنى هل يقرأ المتعلم بدافع الفضول وحب الإستطلاع؟ أم بدافع حب القراءة وتأصّلها في سلوكه؟ أو يقرأ لأنّ المدرس طلب منه ذلك من أجل الإمتحان أو تلخيص بعض النصوص؟ أو لأنّه يعي جيِّداً أنّ القراءة تشكّل رهاناً ثقافياً تمليه روح العصر؟


هذه التساؤلات تعتبر حاسمة في معرفة نية المتعلم القارئ ودرجة إكتراثه بالقراءة، حتى نستطيع ضمان إنجاح مشروعنا التربوي، والتعليمي، والتثقيفي الذي ننطلق منه حفاظاً على الطاقات وخوفاً من إهدارها فيما لا ظائل من ورائه، وتتطلب هذه الإحتياطات منّا بالضرورة الإهتمام بما يمكن تسميته "سيكولوجيا القراءة"،


أو سيكولوجيا الزمان والذاكرة، والمقصود بهما الوقت المناسب للقراءة، والنفسية المستعدة لتقبّل وتلقي النصوص القرائية التثقيفية والتكوينية، وهنا يجب الإحتياط ما أمكن من تداخل القراءة كفعل تثقيفي مع الزمن المحدد لتقي المقررات الدراسية، إذ يبدو أنّ المقررات الدراسية غير كافية تماماً لتكوين المتعلمين، ولابدّ من دعمها بأنشطة أخرى متنوعة ومن بينها القراءة الهادفة والمفيدة، ولكن الفصل بين النشاطين والعملين أمر جوهري من أجل تعويد المتعلمين التنظيم والتنسيق في حياتهم المدرسية، تمهيداً لممارسة السلوك نفسه في حياتهم الخاصة والعملية، ولذلك تظل القراءة دائماً رهينة بأوضاع وأدوار محددة ومعيّنة.