هل للاكتئاب معنى؟


المرأة والاكتئاب…لماذا يفضل الاكتئاب النساء أكثر من الرجال؟


أ.د. سامر جميل رضوان


تعد الاكتئابات من أكثر الاضطرابات النفسية من حيث شدتها. ففي ألمانيا وحدها يعاني حوالي أربعة ملايين إنسان من الاكتئاب. ويخوض هؤلاء الأشخاص حرباً ضروساً ضد الأعراض المرضية المسببة لشلل المزاج والهبوط فيه والمعاناة والأرق والتعاسة وفقدان معنى الحياة وأعراض أخرى كثيرة. وتشير الدراسات والتقديرات إلى أن 15% من هؤلاء يخسرون حربهم مع الاكتئاب، فيهربون من الحياة التي تبدو لهم جحيماً لا يطاق….إنهم ينتحرون. ففي عام 1997 انتحر في ألمانيا وحدها 12000 شخص، نتيجة الاكتئاب، في حين أنه في العام نفسه توفى على سبيل المقارنة 8000 شخص بحوادث السير.



وعلى الرغم من أننا نعرف اليوم الكثير حول الاكتئاب، إلا أن كثير من الحالات تظل دون اكتشاف أو تتم معالجتها بالعلاج الخطأ. إذ تشير دراسة لمعهد ما كس بلانك في ميونخ في ألمانيا إلى أن نسبة الذين يتم تشخيصهم بشكل صحيح وعلاجهم لا تبلغ إلا حوالي 30% من مرضى الاكتئاب ككل.
الاكتئاب مرض يمكن أن يصيب كل فرد فينا، نحن و أطفالنا و شبابنا وكبارنا. غير أنه يظل الاضطراب الذي يفضل النساء أكثر، ليس لأسباب بيولوجية فحسب، كما هو الحال بعد الولادة على سبيل المثال، ولكن لأسباب اجتماعية وتاريخية أيضاً.
ومؤخراً تنطلق من الولايات المتحدة الأمريكية صيحات متزايد إلى عدم اعتبار الاكتئاب مرضاً فحسب، وإنما يمكن للاكتئاب أن يشكل عملية تكيف ذات معنى.
الاكتئاب: عملية من أجل توفير الطاقة النفسية!!!
السؤال المطروح هو هل الاكتئاب عبارة عن ردة فعل طبيعية على ظروف الحياة القاسية والمقيتة أم أنه مرض ليس له أية وظيفة؟
تختلف الآراء بالطبع. ففي حين أن بعض الخبراء يرون أنه للحالات الاكتئابية معنى، يرى آخرون أن هذه الرؤية لا تمثل سوى تجميلاً غير مبرر لحالة المعنيين.


يرى البروفيسور راندولف نيس Randolph M. Nesse من جامعة ميتشيغان أن لبعض أشكال من الاكتئاب معنى ووظيفة، حيث يمكن لهذه الأشكال أن تكون مفيدة للمعنيين. فالمشاعر الاكتئابية يمكن أن تكون ردة فعل على مواقف خطيرة ومهددة وغير مرغوبة. ويسوق نيس المثال التالي على رؤيته: فعندما يعيش شخص ما في علاقة غير مرضية على الإطلاق، فإنه سوف ينسحب شيئاً فشيئاً عن شريكه، وسوف يفقد الاهتمام به وينعدم الاهتمام بالجنس و سيصل إلى مرحلة يندر فيها أن يتلفظ بكلمة واحدة مع شريكه. وبمجرد أن تنتهي العلاقة فإن المزاج الاكتئابي سيختفي بالضرورة. ويعتقد نيس أن هذا المثال يوضح أننا لا نبدد طاقتنا على الأشياء التي لا تهمنا والتي تبدو بالنسبة لنا عديمة المعنى. فالأعراض الاكتئابية المتمثلة في فقدان الدافعية والسلبية يمكن أن تكون مفيدة في بعض المواقف، التي يكون فيها التصرف لاينفع بل وحتى خطيراً. ويستشهد نيس على ذلك بأمثلة من عالم الحيوان. فعندما تتكاثر الثلوج وتنخفض درجة الحرارة وتقل الموارد، فإن البحث عن الطعام يصبح شاقاً ومبدداً للطاقة. ومن أجل عدم استهلاك المزيد من الطاقة بلا طائل فإن الحيوانات تتوقف عن النشاط وتبقى ساكنة تنتظر حتى لو كانت جائعة.


والاكتئاب ليس مقتصراً على الإنسان فقط. ففي دراستها على القرود تمكنت كارول شيفليCarol Shively من مدرسة الطب التابعة لجامعة ويكفوريست في شمال كارولاينا والمتخصصة ببيولوجيا السلوك من إثبات أن القرود كذلك تصاب بالاكتئاب. ففي عالم القرود يسود تنظيم هرمي صارم، حيث تعيش القرود في مجموعات، قد يصل عددها إلى عشرين قرداً في المجوعة الواحدة أحياناً. والقرد الخاضع لهذا النظام، عليه أن يخوض صراعاً عنيفاً مع زعيم المجموعة من أجل الحصول على الطعام أو على أنثى. وهو يخاطر بهذا بأن يصاب بأذى قد يصل إلى حد الموت. بالإضافة إلى ذلك تتولد مشاعر عدائية شديدة تجاهه من قبل أعضاء المجموعة الآخرين الأضعف منه. فحياة القرود التابعة حياة مرهقة جداً. وهذا ما يؤكده وجود كميات كبيرة من هرمون الإرهاق "الكوليسترول" في دمهم.



غير أنه يبدو أن بعض الحيوانات قد طورت لنفسها مضادات للإرهاق المزمن. فهي تنسحب وتنعزل عن المجموعة وتقضي الكثير من الوقت وحدها، وتتجنب الاتصال الجسدي مع القرود الأخرى. إنه قرار حكيم!، فمن خلال هذا السلوك لا تحمي القرود الأضعف نفسها من العدوان الجسدي فحسب، بل وتحمي نفسها أيضاً وتحافظ على مركزها ضمن المجموعة، وقد تمتلك فرصة، وإن كانت محدودة، من أجل التكاثر. وعلى الرغم من أن سلوكها هذا لا يمكن عده مثالياً إلا أن الانسحاب يضمن لها البقاء. وبما أن مجموعات القرود تتغير باستمرار، فهناك فرصة ما، أن يأتي وقت من الأوقات يحظى فيه القرد الأضعف بوضع اجتماعي افضل في مجموعة جديدة من القرود.





ولكن ما علاقة سلوك القردة بسلوكنا نحن البشر؟.





ترى شيفلي أن سلوك الانسحاب لدى القرود يشبه السلوك الاكتئابي لدى البشر، وكذلك يعتقد نيس أن هذه المقارنة معقولة. فحتى في الحياة الإنسانية هناك مواقف يكون من الحكمة فيها الانتظار السلبي أو الخامد، وعدم القيام بأي فعل، كما هو الحال عندما يخفق مخططا ًمهماً من مخططات الحياة. فعندما يفشل مخطط ما من مخططاتنا بشكل غير متوقع نكون قد بذلنا الكثير من الوقت والجهد، الأمر الذي يجعلنا غير مقتنعين بالتخلي عن الأمل والاستسلام. وغالباً ما نشعر هنا بضغط شديد يدفعنا للتصرف، والبدء بمهمة جديدة بأي ثمن وأي شكل، من أجل أن نلهي أنفسنا عن الفشل وننساه ونقنع أنفسنا بأننا مازلنا قادرين. غير أن الخطر من أن نكون تعجلنا التصرف و دخلنا في مشروع جديد فاشل، يكون كبيراً. وفي مثل هذه المواقف قد يكون كبح نشاطاتنا أكثر فائدة. فالسلبية والتشاؤم وفقدان الثقة بالنفس يمكنها أن تساعدنا على تجنب حدوث الأضرار. ومثلما هو الخوف عبارة عن إشارة إنذار لوجود خطر يهددنا، فإن الاكتئاب يحمينا من القيام بمجهودات لا فائدة منها.



ويؤيد وجهة النظر هذه معالجين نفسيين مثل نصرت بيزيشكيان و أودو بوسمان. إذ يشيران في كتابهما بعنوان "القلق والاكتئاب في الحياة اليومية" إلى أن كل من القلق والاكتئاب عبارة عن إشارات إنذار يهدفان إلى الوقاية من أمر أكثر سوءاً. إنهما احتجاجا الجسد والنفس على المخاطر الواقعية والصراعات غير المحلولة والإرهاقات التي لا تطاق والحاجات غير المحققة والإمكانات غير المستغلة. فالقلق والآلام النفسية تتوسط بين دوافعنا ورغباتنا وحاجاتنا من جهة وبين الواقع والحدود والقوانين الاجتماعية والطبيعية من جهة أخرى. ومن خلالهما نحقق تكيفاً ضرورياً مع معطيات الوجود. وفي الوقت نفسه يذكراننا بهويتنا الفردية، حيث يساعداننا في الحفاظ عليها. ويرى هذان المعالجان النفسيان أن الاعتراف بالقلق والاكتئاب بوصفهما ردتا فعل مبررتان ومشحونتان بالمعنى إلى مدى بعيد، يتيح لنا فرصة كبيرة لشفائهما.



علماء نفس آخرون يتخذون موقف حذر من نظرية الوظيفة التلاؤمية للاكتئاب. فالطبيب النفسي بيتر كرامر مؤلف كتاب بعنوان "مضاد الاكتئاب البروزاك -السعادة في وصفة طبية-" يشير إلى أن الأشخاص المكتئبين غالباً ما يتخذون قرارات اندفاعية مؤذية لهم، على نحو الاستقالة من العمل أو الطلاق، والتي ليس لها علاقة من قريب أو بعيد بالعزلة الطبيعية والسوية التي قد تحدث في بعض الأحيان طوعياً. وكذلك تفعل سيلفيا سيمبسون مديرة العيادة الاستشارية للاضطرابات الوجدانية، حيث تؤكد أن الاكتئاب عبارة عن مرض. فما يميز المرضى في الاكتئاب أنهم يحمِّلون أنفسهم الذنب. فإذا ما خبر هؤلاء الأشخاص أنهم قد قاموا بالفعل بأمر ما سببوا لأنفسهم من خلاله الاكتئاب، فإن هذا سيعيقهم عن طلب المساعدة المتخصصة. ومن الوارد جداً أن يتم تفسير سبب انحطاط المزاج وهموده عند شخص ما نتيجة لموقف سلبي معين مر أو يمر به، غير أن انحطاط المزاج ليس هو الاكتئاب، إنه أمر آخر مختلف، كما تؤكد سيمبسون.


ولكن في نقطة واحدة يعطي بيتير كرامر زميله نيس الحق حيث يشير إلى أن نظرية نيس تطرح مسائل ينبغي على المعالجين النفسيين طرحها باستمرار، على نحو هل يحاول المكتئب أن يكون كاملاً دائماً؟ هل يحاول أن يرضي الجميع؟ هل هو أسير موقف ميئوس منه؟ فكل هذه العوامل يمكن أن تكون سبباً للانسحاب إلى الاكتئاب.



فهل يمكن اعتبار الاكتئاب ردة فعل تكيفية؟ يقر نيس أننا ما زلنا لا نمتلك الكثير من الدلائل من أجل الإجابة بدقة عن هذا السؤال، غير أنه من المحتمل جداً أن انحطاط المزاج وما يرتبط بذلك من مشاعر سلبية تنشأ من أجل مساعدة العضوية على التعامل مع المواقف المقيتة. ومن الممكن أن تكون بعض أعراض الاكتئاب مفيدة من أجل منعنا من القيام بتصرفات ضارة وخطيرة لا لزوم لها، لا يمكن لنا فيها إلا وأن نسبب مزيداً من الخسائر لأنفسنا أو للمحيطين بنا. غير أنه من ناحية أخرى يؤكد نيس أن كثير من أشكال الاكتئاب تحمل صبغة المرض. وينبغي للحقيقة القائلة أن ردود الفعل الاكتئابية يمكن أن تكون ذات معنى، ألا تصرفنا عن الحقيقة المقابلة أن الاكتئاب بشكل عام يمثل مشكلة نفسية وطبية جدية، تحتاج في أغلب الأحيان إلى التدخل النفسي المتخصص.