حسب رأي خبراء الصحة البدنية والنفسية وكثير من الفلاسفة وعلماء الاجتماع، فإن العلاقة عبر عصور التاريخ المختلفة بين الجسم والعقل من منظور الإنسان أخذت اتجاهين هما:
1- التوازن بين دور العقل والجسم في صحة الإنسان، بحيث أن الصحة الشاملة هي محصلة تعاون وتفاعل الجسم والعقل في التكيف على مشاكل الحياة بمختلف أنواعها.
2- العقل هو الأساس والجسم مجرد خادم للعقل.
الاتجاه الأول يمثل جوهر الفلسفة الشرقية التي نشأت في الشرق الأقصى والتي أعادت الروح إلى الإنسان، بحيث نظرت الفلسفة الشرقية للإنسان على أنه ثالوث متفاعل يتألف من الجسم والعقل والروح، وصحيح أن بعض فلاسفة الإغريق نادوا بوحدة الجسم والعقل، بل ويعود الفضل لفلاسفة الإغريق في طرح شعار "العقل السليم في الجسم السليم"، إلا أن الصحة الروحية لم تنل درجتها ومنزلتها عند الإغريق بما يتناسب مع دورها في الصحة الشاملة للإنسان.
على العموم، فإن هذا الاتجاه في العصر الحديث يسمى بالنظرة الكلية للإنسان والتي يسميها البعض بالمدرسة الأحادية، والمقصود بالأحادية هنا وحدة الجسم والعقل.
أما الاتجاه الثاني والذي يعطي العقل دور الطبيب المسؤول عن صحة الإنسان فهو يتجسد في المدرسة الثنائية والتي يعود الفضل في تأسيسها للفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت. وهذه الفلسفة تقوم على مبدأ الفصل بين الجسم والعقل مع إعطاء العقل القيادة في إدارة شؤون الجسم حيث أن جوهر هذه الفلسفة الثنائية يقوم على مفهوم ينظر للإنسان على أنه مجرد الذات أو (الأنا - Ego) يستضيفه تجويف اسمه الجسم يحكمه ويسيّره العقل كيفما شاء.
وحسب رأي علماء النفس فإن الذات هي ذلك الجزء من شخصية الإنسان التي تقوم بالمهام والوظائف التالية:
- ملاحظة ومتابعة البيئة الخارجية.
- الإحساس الحقيقي والتطبيقي العملي بالبيئة الخارجية.
- التفاعل مع البيئة الخارجية.
- إبقاء الغرائز الفطرية للإنسان تحت السيطرة والتحكم قدر الإمكان.
وحسب رأي خبراء علم النفس والاجتماع، فإن الإنسان عبر عصور التاريخ تأرجح ما بين التوازن التام بين الجسم والعقل والروح من جهة، والبيئة الخارجية من جهة أخرى، وبهذا التوازن الدقيق والفطري - إن صح التعبير- استطاع الإنسان الأول أن يتكيف مع محيطه وبيئته الخارجية رغم غياب أبسط وسائل الدعم والعون الخارجية المطلوبة للتغلب على قسوة الطبيعة وصعوبة الحصول على لقمة العيش في مجتمع أو بيئة سادها شعار البقاء للأقوى، وبالتأكيد فإن الإنسان الأول لم يعرف سوى مظاهر الأمراض النفسية مثل القلق والتوتر والخوف وربما الاكتئاب والتي في أغلب الأحيان كان سببها قسوة الطبيعة، مقارنة بإمكانات محددة والتي تجعل مهمة كسب لقمة العيش، وهي أولى حاجات الإنسان الغريزية الأساسية، مهمة شاقة تحتاج للجهد البدني والعقلي في آن واحد. وفقط من خلال التوازن والتفاعل بين الجسم والعقل استطاع الإنسان الأول أن يتكيف مع متطلبات البقاء حيا في بيئة معادية بجميع جوانبها.
وحسب رأي خبراء علم الاجتماع والفلسفة، وحديثا علماء النفس، فإن عصر النهضة الأوروبية كان بداية الخلل الذي أصاب التوازن الطبيعي والفطري الذي ورثه المجتمع البشري عن إنسان الكهف والغابة، وهذا الخلل كان سببه اتجاه المجتمع في عصر النهضة والثورة الصناعية إلى إعطاء العقل دور حاكم الجسم الأوحد لأنه صنع التكنولوجيا الصناعية والاكتشافات العلمية والتي أدت إلى تحول الإنسان إلى الاعتماد على الآلات والمنتجات والاكتشافات، التي صنعها الآخرون، في تعامله مع البيئة الخارجية ومتطلباتها، وبالتالي فإن أفراد المجتمعات الصناعية بدأوا يفقدون تدريجيا وبوتيرة متسارعة الإحساس الشخصي والذاتي بما يحدث حولهم، لأن وتيرة وسرعة التغيير في المجتمع كانت كبيرة ومتتالية خلال وقت قصير بحيث أن السعي نحو التثقيف التكنولوجي أصبح أهم مشاغل وهموم أفراد المجتمعات الصناعية؛ لأن قهر البيئة واستغلالها بأفضل درجات الفاعلية غير ممكن إلا من خلال استخدام التكنولوجيا، أي استخدام العقل.
وإن الخطأ القاتل الذي وقع فيه المجتمع الصناعي، كما يقول خبراء علم الاجتماع، هو أن هذه المجتمعات الصناعية انهمكت بشكل كلي على تحقيق التطوير السريع للمجتمعات دون أن تضع بالاعتبار قدرة أفراد المجتمع العاديين للمجتمعات (المستهلكين) على المواكبة والتكيف على هذه التغيرات المتسارعة في بيئته وتركيبة المجتمع الصناعي السكانية. وفي كتابه المشهور " صدمة المستقبل" يصف مؤلف الكتاب ألفن توفلر المجتمعات الغربية الصناعية على أنها: "مجتمعات تسارعت فيها وتيرة التغيير في حياة الإنسان اليومية بحيث أدى الأمر إلى إصابة هذه المجتمعات بما يشبه الصدمة أو رد فعل للصدمة بسبب اضطرارهم لكثرة وسرعة التكييف خلال وقت قصير على تغييرات اجتماعية وسكانية وبيئية تحتاج لجهد وتخطيط مسبق، وهذه التغييرات شبه الشاملة في حياة أفراد المجتمعات الصناعية كانت كما يلي:
- ازدحام سكاني كبير نتيجة زيادة معدل المواليد ونمو المدن الصناعية.
- تلوث الهواء والماء.
- الصخب والضجيج المتواصل.
- كثرة التغيير في مكان العمل.
- فقدان الأفراد للحرية الشخصية في حياتهم اليومية (مباني سكنية كبيرة ومتجاورة).
- لقمة العيش في أغلب الأحيان بيد الآخرين (الاعتماد على الآخرين).
- السعي الدائم لإنجاز أكثر ما يمكن بأقل وقت ممكن بسبب وفرة وسهولة طرق ووسائل المواصلات والاتصالات.
وبالتأكيد، حسب رأي مؤلف الكتاب، فإن هذه التغييرات المتلاحقة والسريعة في بنية وتركيبة المجتمعات الصناعية ومحاولة أفراد هذه المجتمعات التكيف السريع عليها، نجم عنها تغيير جذري وملحوظ في مفاهيم ومبادئ وقيم المجتمعات الإنسانية التقليدية والعلاقات الأسرية والعلاقة مع الجيران والأقارب ونظرة الناس للدين والعائلة ودور الوالدين ودور أفراد الجنسين في المجتمعات أصابها التغيير بل وتغيرت أيضا نظرة الجنس الواحد لنفسه وخصوصا الجنس اللطيف والذي بدأ يطالب بحقوقه.
وباختصار، فقد أصبح الشغل الشاغل لأفراد المجتمعات الصناعية الحديثة هو التكيف السريع مع متطلبات العصر. ووسيلة التكيف الشائعة هي التفكير والذي يؤدي لإثارة نشاط الجهاز العصبي، أي يحفزه ويرفع من درجة نشاطه، وبالتأكيد النشاط والإثارة المستمرة للدماغ، مركز التفكير، يجهد الدماغ. وكلما كان التفكير أكثر وأطول كان الإجهاد والتوتر في الجهاز العصبي أكثر من حيث الدرجة والحدة، وهذا معناه وقوع إنسان المجتمعات الحديثة ضمن دائرة مفرغة ومتواصلة من النشاط والإجهاد العصبي.
إذًا، سبب معاناة إنسان المجتمعات الحديثة من الضغوط والتوترات النفسية والتي تتطور في كثير من الأحيان إلى أمراض جسدية عضوية أو أمراض نفسية، هو إهمال دور الجسم كليا في تحقيق التكييف الطبيعي مع معطيات العصر حيث أن إنسان المجتمعات الحديثة أصبح يتصرف ليس طبقا لما يشعر به داخليا (إحساس مشترك بين الجسم والعقل) ولكن حسب وطبقا لما يلي:
- ما يجب أن نشعر به حسب ما يقوله العقل لوحده.
- ما نرغب ونود أن نشعر به وليس كما نشعر حقيقة.
- ما يتوقعه الآخرون منا من مشاعر رغم أن مشاعرنا الحقيقية غير ذلك.
وعلى أي حال، فإن هذا التناقض بين سلوكيات وتصرفات الإنسان في العصر الحديث، والذي وصلت فيه التكنولوجيا إلى أبهى عصورها ودرجتها وبين مشاعره الحقيقية الداخلية، وضع الإنسان العصري في دوامة التناقض بين حقيقة ما يحدث داخل الجسم من استجابات طبيعية وفطرية لمواجهة التحديات الخارجية وبين الاستجابة الزائفة التي يظهرها الفرد في مواجهة التحديات والمشاكل اليومية والتي تعكسها سلوكياته المتناقضة مع مشاعره الداخلية الحقيقية.
وبالتأكيد، فإن هذا التناقض بين المفروض والحاصل في حياة الإنسان اليومية هو سبب كثير من الأمراض العقلية والنفسية بل والأمراض العضوية الجسمية؛ لأن الحقيقة الجوهرية في تكوين الإنسان هو أنه عقل وجسم وروح --