العنوسة من المشاكل الاجتماعية المفزعة التي تتزايد يوما بعد يوم، وقد كثرت النقاشات والدراسات البحثية حولها، ولكن ما يطبق منها على أرض الواقع قليل للغاية، وذلك إما لضعف عملية هذه الحلول واستجابتها لواقع الناس، أو لعدم مناسبتها لعادات وتقاليد المجتمعات العربية.

في التحقيق التالي نحاول تقديم حلول عملية عبر نقاشات مع متخصصين شرعيين واجتماعيين حول الحلول المقترحة لحل مشكلة العنوسة، بالإضافة إلى آراء عدد من الفتيات حول هذه الظاهرة الاجتماعية التي لم ينجُ منها مجتمع عربي!

بداية تقول عزة (معلمة) والتي تخلصت من هذا اللقب حديثا بلغة يلفها الحزن: لقد تزوجت بعد أن تجاوزت الخامسة والثلاثين لا لشيء سوى أن أهلي كانوا يشترطون فيمن يتقدم للزواج مني شروطا صعبة، على الرغم من أنني كنت مدرسة، وكنت أجتهد في شراء ما يلزمني من جهاز تحضره العروس، لكنني عانيت كثيرا حتى وفقت للزواج، ولكن بعدما ضاعت سنون كثيرة من عمري حلمت فيها بالاستقرار وبناء أسرة.

أما الحاجة سامية (ممرضة) والتي تجاوزت عقدها الخامس، فتتذكر كيف فاتتها العديد من فرص الزواج، بسبب تعنت أخيها بعد وفاة والدها، حيث كانت تعمل وتنفق مرتبها على البيت الذي يقاسمها فيه هو وزوجته، ولما انتبهت لعمرها الذي كاد يضيع قبلت بأول زوج يطرق بابها، وكان يصغرها بعامين، وتقدم لها عن طريق بعض الأقارب.

وها هي انتصار تتمنى ألا يغالي الآباء في المهور؛ حتى لا تغيب فرحة البنات من مثيلاتها، وأمنيتهن في تحقيق حلم الأمومة مؤكدة أن زواجها الذي جاء بعد الثلاثين عرضها لمشاكل كثيرة، منها: التأخر في الإنجاب وتعرضها للخطر أثناء الولادة.


توجيه أموال الأوقاف لإعفاف الشباب :


وحول الحلول لمشكلة العنوسة: يرى الدكتور أحمد كريمة أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر أنه من المقرر شرعا أن المرأة إذا كانت صالحة للزواج، ولم توجد أية موانع شرعية أو اجتماعية أو صحية وجاءها الكفء، فالزواج لها أولى ففي الحديث الشريف: "ثلاثٌ لا يُؤَخَّرْنَ: الصلاةُ إذا أتَتْ، والجنَازَةُ إذا حضَرَتْ، والأيِّمُ إذا وجَدَتْ كُفُؤًا"رواه الحاكم والترمذي وقال: حسن غريب، وضعفه الألباني، والإسلام بهذا يريد إشاعة العفاف في المجتمع، وذلك من باب التيسير في الزواج، فقد حضت الشريعة على عدم المغالاة في المهور، فقد قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: " أعظمُ النساءِ بركةً أيسرُهنَّ مُؤنةً"رواه أحمدوضعفه الألباني، وفي التطبيق العملي على ذلك نرى أن النبي صلى الله عليه وسلملم يزد في مهر زوجاته ولا بناته عن عشرة دراهم.

ويضيف: وحينما غابت النظرة الاجتماعية والشرعية والإحساس بالشباب وحدث النقيض كغلاء المهور، وسوء تصرف الفتيات المقبلات على الزواج، حيث ترهق كاهل كلا من والديها وزوج المستقبل، فتصر على تكديس أدوات المائدة والمطبخ عدة أطقم من نوع واحد، وهي أشياء تثقل كاهل الأب وترهق الزوج، والدواليب تمتلئ بالعشرات من الفساتين.

ويشير إلى أن تعدى سن زواج الفتيات لما بعد الثلاثين له نوعان من الأخطار، وهما: الخطر الصحي المتمثل في ضعف فرصة الإنجاب، والخطر الثاني هو الخطر الاجتماعي، فالشريعة الغراء حددت سن الكهولة بداية الأربعين، والرجل غالبا يتزوج في مثل هذا السن، وحينما يرزقه الله بطفل تكون المسافة الزمنية بينهما كبيرة، وربما لا يستطيع الأب رؤية ابنه وهو ينمو ويكبر أمام عينيه، لذا تحدث مشكلات كثيرة مثل حالات الزواج العرفي.

ويقترح دكتور أحمد كريمة على المؤسسات الاجتماعية تأسيس ثقافة اجتماعية ومعرفية جديدة، لا تنتمي للخطب في المنابر، إنما هي نوع من استنفار الجهود، كما يقترح أيضا تحديد عام وإطلاق عليه "عام الإعفاف" أو "نحو أسرة سعيدة" وفيه تتكاتف الجمعيات الأهلية مع وزارة الأوقاف بما فيها من أموال الأوقاف، هذا يؤدي إلى استقرار المجتمع والتقليل من الجرائم المترتبة على حرمان الشباب من الزواج.



القصور الفكري أهم أسبابها :



أما الأستاذ الدكتور عطية القوصي أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة الأزهر فيقول: إن العنوسة مشكلة كبيرة في العالم العربي كله، ويرجع أهم أسبابها إلى بطالة الشباب وحتى الذين يعملون، فرواتبهم قليلة لا تفي بمتطلبات الأسرة فيمتنعون عن الزواج، والذي يتزوج فقط هم ميسورو الحال ممن سافر أهلهم للخارج، فمشكلة الشباب مادية اقتصادية في المقام الأول، وهم يريدون الزواج لكن أولياء الفتيات يشقون عليهم بسبب تمسكهم بالتقاليد القديمة البالية، حتى البنات فمعظمهن ترد الشاب الجاهز، وليس لديها أية رغبة في الكفاح مع شاب بسيط.

ويرى د. القوصي أن القصور الفكري المتوارث من الآباء لأولادهم من تقديس العادات والأعراف والتقاليد، مما يعطل زواج بناتهم أقل بكثير مما هو في بعض البلاد العربية، فيما يخص القبائلية، فضلا عن المهور الغالية والتعقيدات المالية التي يطلبها أهل الفتاة.

ويرى د. القوصي أنه يجب التخلي عن تلك الأعراف القديمة، ومحاولة التيسير على الشباب، وحل مشكلة البطالة والدخل الضعيف، داعيا الجمعيات الخيرية والشركات الكبرى والأغنياء ورجال الأعمال للوقوف يدا واحدة مع الدولة لمواجهة تلك المشكلة، علاوة على دعوته لضرورة تغيير الصورة الذهنية للشباب المقبل على الزواج فيما يخص المهور وتجهيز بيت الزوجية وعمل أعراس جماعية لتوفير المال.



9 ملايين شاب وفتاة في مصر تجاوزوا الـ35 ولم يتزوجوا :



أما عن وجهة نظر علم الاجتماع في استشراء العنوسة فتوضحه د. سحر حساني بربري مدرس علم الاجتماع الأسري بكلية الآداب جامعة قناة السويس قائلة:
تتعدد الأسباب المسؤولة عن تأخر سن الزواج لدى الشباب والفتيات والتي من بينها:
عزوف الشباب عن الزواج وتشكيل الأسرة، وذلك يرجع لأسباب عديدة ، منها الظروف الاقتصادية الصعبة التي يمر بها عالمنا المعاصر، وتعاني منها مجتمعاتنا.

يضاف إلى ذلك تأخر السن الذي يتمكن فى إطاره الشباب من تحقيق ذاته، من حيث الدخل اللازم لتشكيل أسرة. وهو الأمر الذي يدفع الشباب إلى العزوف عن تشكيل أسرة، حيث لم يعد في العمر كثير، لذلك تآكلت قيمة الأسرة في مخيلة الشباب، حيث لم يعد الشباب يرى أن الأسرة ساحة للدفء والسكينة والاستقرار، بل هي مدخل لتحمل الأعباء والمعاناة. ومن الطبيعي أن تقود جملة هذه الظواهر السلبية السابقة إلى تدني قيمة الأسرة في مخيلة الشباب، وهي النظرة التي تحدد مكانة وقيمة الأسرة بالنسبة للفرد، بقدر المتع والإشباعات التى تقدمها للمشاركين فيها.

كذلك فإن مفهوم الأسرة التقليدية لم يعد له نفس المكانة والاحترام من قبل الشباب المعاصر كما كان الحال سابقاً. يؤكد ذلك ظهور العديد من الأشكال الأسرية غير التقليدية والمستحدثة في المجتمعات الغربية في الوقت الحالي. فمثلاً في كندا عام 2001، بلغت نسبة الارتباط الحر 33 % بين الشباب، ممن تتراوح أعمارهم 30 إلي 34 سنة للرجال و 25 إلى 28 سنة للنساء.

وتضيف: كما ارتفعت نسبة الولادات غير الشرعية في عام 2002م، لتصل إلى 58 %. وبحسب التقرير السنوي للدراسات الديمقراطية في باريس، فإن أكثر من نصف النساء 53% يضعن أطفالهن دون زواج شرعي. كما تضاعفت ظاهرة المعاشرة خارج إطار الزواج الرسمي، إضافة إلى أن التقرير نبه إلى تغيير النظرة المجتمعية لمؤسسة الزواج من قبل الشباب الذي أصبح ينظر للزواج باعتباره عادة "روتينية" لابد أن يتم التخلص منها.

وطبقا لبعض الإحصاءات الرسمية للمركز القومي للبحوث الاجتماعية يوجد في مصر ٩ ملايين شاب وفتاة فوق الـ ٣٥ عاما لم يتزوجوا، منهم ٥.٥ مليون شاب و ٣.٥ مليون فتاة فوق سن ال ٣٥ عاما، أي أن ثمة مليوني شاب زيادة عن عدد الفتيات.
وتقول الدكتورة سحر: إن الطموح الدراسي لدى الفتيات من بين أسباب العنوسة، حيث إن كثيرا من الأسر ترفض تزويج بناتهم قبل الانتهاء من الدراسة، هذا بالإضافة إلى أن بعض الفتيات يرفضن الزواج لرغبتهن في استكمال تعليمهن.
وكذلك التخوف من المسؤولية المترتبة على الزواج، فكثير من الشباب يخاف من المسؤولية المترتبة على الزواج وأنه قد لا يستطيع تحملها، وأنها سوف تحد من حريته ومن استمتاعه بالحياة، وهذا بلا شك له أسباب منها أن كثيرا من الشباب أصبح اعتمادهم على أهلهم كبير، بحيث أنهم أصبحوا في عائلاتهم لا يفعلون شيئا ولا يتحملون أي مسؤولية.

يضاف إلى ماسبق خروج المرأة للعمل، حيث تشير الدكتورة سحر أن المرأة خرجت إلى العمل وأصبح لها دخلها الخاص. وبهذه القاعدة الاقتصادية المستقلة بحثت عن الاستقلال أو المساواة الاجتماعية والثقافية داخل الأسرة، في حين أن كثيرا من الرجال يرى أن العمل الأساسي للمرأة هو العمل المنزلي، ورعاية الأبناء، وليس العمل خارج المنزل.



توفير الوحدات السكنية بأسعار مخفضة للشباب :



ولحل هذه المشكلة ينبغي تفعيل دور الجمعيات الأهلية لتقديم القروض والمساعدات للمقبلين على الزواج، كذلك تقديم المساعدات للفقراء وإقامة حفلات الزواج الجماعي.

كذلك ينبغي عدم المغالاة في مواصفات شريك الحياة، وعدم الانقياد إلى نموذج " فتى أو فتاة الأحلام المثالي" والذي تعرضه وسائل الإعلام من خلال الأفلام والمسلسلات المختلفة، وذلك لأنه نموذج خيالي غير موجود على أرض الواقع.
كما ينبغي على الأسر أن تبتعد عن المغالاة في المهور، أو المبالغة في المطالب، وخاصة في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي يواجهها الشباب.

كما يجب على الآباء تعويد أبناءهم على المسؤولية منذ الصغر؛ لكي يستطيعوا أن يتحملوها في الكبر، فالخوف من المسؤولية المترتبة على الزواج ساهم في تأخير سن الزواج.

كذلك تفعيل دور مؤسسات الدولة من خلال: أيضا بناء وحدات سكنية للشباب بأسعار منخفضة، منح قروض طويلة الأمد للشباب المقبل على الزواج، وقد تم ذلك في سوريا، من خلال تقديم قرض مرة واحدة للمتزوجين، كذلك تنظيم حفلات الزواج الجماعي.

الاهتمام بإنشاء مراكز لإرشاد الأزواج والأسر داخل الجامعات ومحافظات الجمهورية المختلفة، وتفعيل دورها من أجل الاهتمام بمشاكل الشباب والمتزوجين الجدد والمساعدة في حلها، من خلال التواصل مع مؤسسات الدولة ومنظمات المجتمع المدني.