سابعاً:مرحلة العاشرة وما بعدها:
في هذه المرحلة يظهر بوضوح على الطفل مظاهر الاستقلال، والاعتداد بالنفس ، والتشبث بالرأي،والتمرد على نصائح الوالدين وتعليماتهما- لأنهما يمثلان السلطة والقيود بالنسبة له- وهو في هذه المرحلة يود ا لتحرر مما يظن أنه قيود،فيميل أكثر إلى أصدقاءه،ويفتح لهم صدره،ويتقبل منهم ما لا يتقبله من والديه، لذا يمكننا أن نوضح له -عن طريق رواية بعض القصص التي حدثت معنا أو مع من نعرفهم - ما يفيد أن الله سبحانه هو خير صديق ، بل هو أكثر الأصدقاء حفاظاً على الأمانة،وهو خير عماد وسند،وأن صداقة الطفل معه - سبحانه -لا تتعارض مع صداقته لأقرانه.
كما ينبغي أن نوضح لأطفالنا أن الله أحياناً يبتلي الإنسان بمكروه أو مصيبة ليطهِّره ويرفع درجاته ويقربه منه أكثر،كما يضطر الطبيب إلى أن يؤلم مريضه أحياناً كي يحافظ على صحته وينقذه من خطر محقق.
والحق أن هذه المرحلة خطيرة لأنها تعيد بناء الطفل العقلي والفكري من جديد و قد تؤدي إلى عواقب وخيمة إن أسيء التعامل مع الطفل فيها ،ومما يساعد على نجاح الوالدين في الأخذ بيده إلى الصواب أن ( يبدآ معه من الطفولة المبكرة ،فعندئذٍ لن يجدا عناء كبيرا في هذه الفترة،لأنهما قاما بوضع الأساس الصحيح ،ثم أكملا إرواء النبتة حتى تستوي على سوقها...وهما الآن يضيفان إلى جهديهما السابق جهدا آخر،وسوف تؤتي الجهود ثمارها إن شاء الله)( 21)
ويمكننا أن نعرِّفهم بأسماء الله الحسنى ونشرح لهم معانيها،فالله رحمن، رحيم ، ودود ،عفو ،غفور، رءوف ، سلام، حنَّان، منَّان، كريم، رزاق ، لطيف ،عالم، عليم، حكم، عدل، مقسط ، حق ،تواب، مالك الملك، نور، رشيد، صبور...ولكنه أيضاً قوي ، متين،مهيمن، جبار، منتقم، ذو بطش شديد، معز مذل، وقابض باسط،وقهار ،ومانع،و خافض رافع،ونافع ضار،ومميت.
فلا يكفي أن نشرح لهم أسماء الجمال التي تبعث الود والألفة في نفوسهم نحو خالقهم، ، بل يجب أيضا ذكر أسماء الجلال التي تشعرهم بأن الله تعالى قادر على حمايتهم وقت الحاجة،فهو ملجأهم وملاذهم ،لأنه حفيظ قوي قادر مقتدر .
ومما يجدي أيضاً مع أطفالنا في هذه المرحلة : الحوار الهادىء الهادف،وليس( الحوار السلطويالذي يعني:"إسمع واستجِب"،ولا الحوار السطحي الذي يتجاهل الأمورالجوهرية ،أو حوار الطريق المسدود الذي يقول لسان حاله:"لا داعي للحوار فلن نتفق"،أوالحوار التسفيهي الذي يُصِرُّ فيه الأب على ألا يرى شيئاً غير رأيه،بل ويسفِّه ويلغي الرأي الآخر،أو حوار البرج العاجي الذي يجعل المناقشة تدور حول قضايا فلسفية بعيداً عن واقع الحياة اليومي ،...وإنما الحوار الصحي الإيجابي الموضوعي الذي يرى الحسنات والسلبيات في ذات الوقت، ويرى العقبات،وأيضا إمكانات التغلب عليها. وهو حوار متفائل - في غير مبالغة ساذجة- وهو حوار صادق عميق وواضح الكلمات ومدلولاتها وهو الحوار المتكافئ الذي يعطى لكلا الطرفين فرصة التعبير والإبداع الحقيقي، ويحترم الرأي الآخر ويعرف حتمية الخلاف في الرأي بين البشر، وآداب الخلاف وتقبله . وهو حوار واقعي يتصل إيجابيا بالحياة اليومية الواقعية واتصاله هذا ليس اتصال قبول ورضوخ للأمر الواقع، بل اتصال تفهم وتغيير وإصلاح؛ وهو حوار موافقة حين تكون الموافقة هي الصواب ومخالفة حين تكون المخالفة هي الصواب، فالهدف النهائي له هو إثبات الحقيقة حيث هي، لا حيث نراها بأهوائنا وهو فوق كل هذا حوار تسوده المحبة والمسئولية والرعاية وإنكار الذات ( 22)
(ولنأخذ مثلاً للحوار الإيجابي من التاريخ الإسلامي، وقد حدث هذا الحوار في غزوة بدر حين تجمع المسلمون للقاء الكفار وكانت آبار المياه أمامهم وهنا نهض الحبَّاب بن المنذر رضى الله عنه وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أهو منزِل أنزلَكَهُ الله أم هو الرأي والحرب والمكيدة ؟ فأجاب الرسول الكريم :" بل هو الرأي والحرب والمكيدة ". فقال الحباب : يا رسول الله ما هذا بمنزل، وأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوقوف حيث تكون آبار المياه خلف المسلمين فلا يستطيع المشركون الوصول إليها، وبالفعل، أخذ الرسول بهذا الرأي الصائب فكان ذلك أحد عوامل النصر في تلك المعركة .
وإذا حاولنا تحليل هذا الموقف نجد أن الحبَّاب بن المنذر كان مسلماً إيجابياً على الرغم من أنه أحد عامة المسلمين وكان أمامه من الأعذار لكي يسكت أو يعطل تفكيره فهو جندي تحت لواء رسول الله الذي يتلقى الوحي من السماء وهناك كبار الصحابة أصحاب الرأي والمشورة ولكن كل هذه الأسباب لم تمنعه من إعمال فكره، ولم تمنعه من الجهر برأيه الصائب، ولكنه مع ذلك التزم الأدب الرفيع في الجهر بهذا الرأي فتساءل أولاً إن كان هذا الموقف وحي من عند الله أم أنه اجتهاد بشري ، فلما عرف أنه اجتهاد بشري وجد ذلك مجالاً لطرح رؤيته الصائبة ولم يجد الرسول صلى الله عليه وسلم غضاضة في الأخذ برأي واحد من عامة المسلمين. وهذا الموقف يعطينا انطباعا هاما عن الجو العام السائد في الجماعة المسلمة آنذاك، ذلك الجو المليء بالثقة والمحبة والإيجابية وإبداء النصيحة وتقبُّل النصيحة .
وإذا كانت النظم الديمقراطية الحديثة تسمح للمواطن أن يقول رأيه إذا أراد ذلك، فإن الإسلام يرتقى فوق ذلك حيث أنه يوجب على الإنسان أن يقول رأيه حتى ولو كان جنديا من عامة الناس تحت لواء رسول الله عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام ، وهو أعلى المستويات من حرية الرأي ( 23)
ومن خلال الحوار الهادىء معهم يمكن أن نوضح أن التائب حبيب الرحمن،وأن الكائنات تستأذن الله تعالى كل يوم لتُهلك ابن آدم الذي يأكل من خير الله تعالى،ثم لا يشكره، بل ويعبد غيره!!ولكنه سبحانه يظل يقول لهم:"ذروهم إنهم عبادي،لو خلقتموهم لرحمتموهم"، وهو الذي قال في حديث قدسي أن البشرإ ن لم يخطئوا لذهب الله بهم وأتى بخلق آخرين، يذنبون فيغفر لهم؛ وهو الذي يهرول نحو عبده الذي يمشي نحوه، وهوالذي يتجاوز عن العبد ويستره، ويحفظه، ويرزقه، مع إصراره على المعصية، ويظل يمهله حتى يتوب ، وهو الذي كتب على نفسه الرحمة،وهو الذي سمى نفسه "أرحم الراحمين"، و"خير الغافرين"، وخير الرازقين"،وخير الناصرين" وهو الذي قال في كتابه الكريم:"إن اللهَ يغفرُ الذنوبَ جميعا"!!!
ويمكن في هذه المرحلة أن نحكي لهم كيف نصر الله أولياءه من الأنبياء والصالحين ( 24 ) ونخبرهم عن نماذج من الصحابة والصالحين الذين أحبوا الله تعالى فأحبهم وتولى أمرهم ،وذلك برواية قصصهم التي نجد أمثلة لها في كتب السيرة المعروفة،وأيضا في النصف الأخير من محاضرة "حب العبد لله" للداعية الإسلامي"عمرو خالد"( 25)
كما يمكن أن نستمع معهم إلى محاضرتي:"محبة الله أصل الدين" للشيخ راتب النابلسي( 26)، و"محبة الله" للأستاذ عمرو خالد( 27)
وينبغي أن نراعي حالته النفسية والإيمانية عند الحديث بهذا الشأن،فإذا رأيناه يحتاج إلى أمل في رحمة الله، رغَّبناه، وإذا رأيناه يحتاج إلى من يوقفه عند حده،خوَّفناه من عقاب الله.
5- متى وكيف نتحدث إليهم؟
لكي نضمن التأثير فيهم علينا أن نقتدي بمعلم البشرية ،رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يعلِّم أصحابه والمسلمين، ويوجِّههم بطرق كثيرة، منها على سبيل المثال لا الحصر:
1-التشويق بالسؤال ثم إجابته: كما قال صلى الله عليه وسلم:"أتَدرون من المُفلس؟"
2-إثارة الانتباه بالسؤال،باستخدام "ألا" الافتتاحية:كما كان يقول صلى الله عليه وسلم:"ألا أخبركم بخير الناس؟"ألا أنبئكم بأهل الجنة؟"،"ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا؟"...إلخ
3-رواية القصة ،كما روى صلى الله عليه وسلم قصة الرجل الذي سقى الكلب في خُفِّه فدخل الجنة،وقصة المرأة التي دخلت النار في هِرَّة حبستها.
4- أثناء الذهاب معه إلى نزهة أو أثناء الركوب في الطريق لمكانٍ ما،كما حكى ابن عباس رضي الله عنهما:"كنت خلف رسول الله يوما فقال:"ياغلام،إني أعلمك كلمات:إحفظ الله يحفظك...إلى آخر الحديث.
وهناك أيضاً حديث أبي ذر رضي الله عنه:"ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حماراً وأردَفَني خلفه،وقال:"يا أبا ذَر أرأيت إن أصاب الناس جوع شديد لا تستطيع أن تقوم من فراشك إلى مسجدك، كيف تصنع؟ قلت:"الله ورسوله أعلم،قال:"تعفف"
5- إنتهاز فرصة حدوث موقف معين،كما رأينا في الحديث الذي رواهعمر بن أبي سلمة رضي الله عنهما قال :" كنت غلاما في حجر رسول الله صلى الله عليه و سلم, و كانت يدي تطيش في الصحفة ,فقال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم : " ياغلام سَمِّ الله وكُل بيمينك ،وكُل ممَّا يليك"
6- رواية الأخبار،كما جاء في سنن الترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"جاءني جبريل ،فقال:" يا محمد إذا توضَّأت فانتضِح"
7- إخباره من حين لآخر أننا نحبه،كما قا ل صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل:"والله يا معاذ إني أحبك"
و لسعد بن أبي وقَّاص:"إرمِ سعد فداك أبي وأمي"
وفيما يلي بعض ما ييسر تحقيق هذا الهدف:
* لا يجب التحدث معه في هذا الموضوع وهو غاضب أو بعد عقابه لأي سبب،أو وهو يبكي،أوفي جو يسوده الكآبة، أو الحزن.
**وإذا كنا لا نريد تنفيذ شيء يريده،فلايجب نقول له" إن شاء الله"، حتى لا يتعلم من تكرارذلك أن هذه العبارة تعني:"لن أفعل"، بل يمكن أن نقول :"سننظر ، سأفكر،وفقا ًللظروف"،أو ما شابه ذلك من تعبيرات.
***كما أننا إذا أردنا عقابه فلا يصح أن نحلف بالله أننا سنعاقبه،ويكفي أن نقول:"سترى كيف أعاقبك" ،أو ما شابه ذلك ،حتى لا يرتبط اسم الله جل وعلا في ذهنه بالعقاب.
****ولاداعي أن نكرر على سمعه كلما أخطأ:"سوف يدخلك الله جهنَّم -أو النار- إن فعلت ذلك ثانيةً" حتى لا يرتبط الله عز وجل لديه بجهنم منذ صغره.
*****وإذا كنا نضربه مثلاً،أو أوشكنا على عقابه لأي سبب،فاستغاث بالله تعالى ،فيجب أن نتوقف فوراً، وأن نكظِم غيظنا ما استطعنا.
6-ماذا أفعل إن لم أكن قد بدأت مع طفلي؟
إبدأ فوراً،ولكن بخطوات متدرجة تتناسب مع عمره، وظروفه؛ واستعن بالله ولا تيأس، فإنه "لا ييأس من رَوحِ اللهِ إلا القومُ الكافرون" صدق الله العظيم.
7- من تجارب الأمهات:
تحدثت أم عن تجربة أبيها وأمها في توجيهها وإخوتها ،فقد كان الأب يعود بعد كل صلاة جمعة،فيوجه حديثه للأم قائلاً:"هذا ما قاله لنا اليوم خطيب المسجد..."،فيقص عليها الكثير من القصص، ثم يخرج منها بالمواعظ والنصائح،متجاهلاً أولاده الذين يحملقون فيه وقد أصغوا باهتمام شديد لحديث(الكبار)،تقول الراوية:" فلما كبِِرتُ وتذكرت ما كان يقصه أبي، علمت أن بعض حديثه لا يمكن أن يكون قد قاله خطيب المسجد،وإنما كان موجهاً إلينا أنا وإخوتي،والعجيب أننا تاثرنا كثيراً بهذا الحديث غير المباشر،وكنا نحترم ربنا كثيراً، ونحبه، ونخاف من كل ما يمكن أن يقال عنه أنه "حرام"لأنه يغضب الله عز وجل،وأنا الآن أتبع نفس الأسلوب مع أولادي"
وتحدثت أم أخرى عن طفلتها التي كانت أصغر إخوانها،وكانوا لا يكفون عن مضايقتها طوال الوقت،فكانت تصحبها معها- وهي ابنة ثلاث سنوات- للدروس بالمسجد حمايةً لها منهم، فشبت هذه البنت- دوناً عن إخوتها- وهي تحب الله عز وجل وتخافه في السر والعلن، وتحفظ المعلومات التي سمعتها بالمسجد، بل وتحرص على الصلاة والصيام والتصدق بطيب نفس !!!
وقالت أم ثالثة:" كان أولادي يرفضون النوم في غرفتهم بمفردهم،فصرت أجلس معهم بعد ذهاب كل منهم إلى فراشه،وأحكي لهم قصة هادفة ،ثم أطفىء نور الغرفة وأترك نورا خافتا يأتي من الردهة المجاورة،ثم أقوم بتشغيل شريط لجزء "عمَّ" يتلوه شيخ ذو صوت ندي،وأترك الغرفة،فكان الأطفال يستمتعون بصوته،وينامون قبل انتهاء الوجه الأول منه...ومع الوقت لم يعودوا يخافون من النوم بمفردهم،فبمجرد تشغيل الشريط كانوا يقولون لي: "إذهبي إلى غرفتكيا أمي،فنحن لسنا بخائفين"،والأهم من ذلك أنهم أصبحوا يسألون عن الله تعالى،ويشتاقون لرؤيته، ويستفسرون عن معاني كلمات الآيات التي يستمعون إليها، بل و يحبون الحديث في الدين ويتقبلون النصح بنفوس راضية "
وختاماً:
فإن موضوع "حب الله عز وجل"لا تسعه المجلدات…وماهذه العُجالة إلا محاولة على الطريق عسى الله أن يمن علينا وإياكم بتوفيقه لنعين أطفالنا على الشعور بحبه تعالى،فيترتب على ذلك فلاحهم في الدنيا والآخرة إن شاء الله.