موقف وحوار
ها هو سرحان يستقل سيارته عائداً إلى بيته، بعد أن أمضي يوماً طويلاً في عمله، وقد ضاعف من طوله ذلك الملل الشديد من وظيفته الذي بدأ ينتابه مؤخراً، فقد أخذ هذا الشعور الجارف يعصف به حتى أذهب عن محياه البسمة، وخلق حوله عزلةً قاسية في مكان عمله وفي بيته على السواء! وبينما هو في طريق العودة قرر أن يجري حواراً صريحاً مع نفسه، ليسبر أغوارها، ويداوي جراحها، فكان هذا الحوار:
-
سرحان: سؤالي الأول لك يا نفس هو: ما الذي دهاكِ يا نفس؟ كيف وصلتِ إلى هذه الحالة من الملل الشديد من وظيفتك الممتازة التي لطالما سعيتِ إليها؟
- نفس سرحان: يا له من أمر محير! ربما كان الأمر متعلقا بالراتب؟ أو بالمسمى الوظيفي؟
- سرحان: طبعا لا! فأنت تعرفين جيدا أن الشركة التي أعمل فيها تدفع أفضل الرواتب في السوق، كما أن مسماي الوظيفي مسمىً عالٍ ظفرت به بعد جهودي المتميزة لسنوات طوال.
-
نفس سرحان: إذا ما المشكلة يا تُرى؟ هل يكون مصدرها بعض المرؤسين المماطلين الذين يحتاجون جهوداً مضنية ومضاعفةً .. أو لعلها تكمن في مكائد بعض الحاسدين والمنافسين؟!
-
سرحان: لا .. لا أعتقد ذلك أبدا، فقد مررت في مثل تلك المواقف مراراً وتكراراً في حياتي الوظيفية، وأجزم أن خبرتي كبيرة في التعامل معها .. لا يعقل أن يكون ذلك مصدر مللي! فلطالما اعتبرت مثل هذه التحديات بمثابة توابل الطعام ومشهياته!
-
نفس سرحان: حيرتني معك يا سرحان! أخشى ما أخشاه هو أن يكون البطر وكفران النعمة هما مصدر ضيقك؟؟
-
سرحان: آه .. آه ما أشد وأقسى هذا الملل! وما أغرب تلك السآمة! لقد وصلت بي الأمور إلى درجة لم أعد راغباً معها في أي شيء! لقد فقدت الدافعية ولم يعد لدي أي حافز للمضي قدماً! هل سأضطر يا تُرى للاستقالة من وظيفتي حتى أطرد هذا الضيق الخانق من صدري؟
وفي هذه اللحظة أطلقت السيارات التي كانت تقف خلف سرحان العنان لأصوات أبواق التنبيه الخاصة بها، فقد أصبحت إشارة المرور خضراء بينما لا يزال سرحان سارحاً في معضلته .. وهنا يتوقف الحوار بينما يبقى الملل مسيطراً على سرحان، والحيرة تخنقه!

والأسئلة المطروحة هي

ما هو سر ذلك الفتور الذي يمر به سرحان؟ هل هو بسبب فقدان الحافزية؟ وما هي الحافزية وأنواعها حتى يكون لها كل هذا الأثر في المشاعر؟ وأخيرا كيف لسرحان له أن يستعيد دافعيته من جديد؟


أما رأي الاستشاري

هناك الكثير من نظريات التحفيز في عالم الإدارة والموارد البشرية، منها ما يركز على الحاجات
(Needs)، ومنها ما يتصل بالأهداف (Goals)، ومنها ما له علاقة بتحقيق الذات، والقيم الشخصية (Self Determination & Values)، ومنها ما له امتدادات في مجالات أخرى.
وهذه النظريات لها ما لها وعليها ما عليها، ولكن الملاحظة العامة في عالم التحفيز أن هناك حاجة ملحّة لاستخدام المنظار الإسلامي لبحث هذا الموضوع، فهو منظار غني له تجلياته الفريدة وتطبيقاته الرائعة، لذا فهذا ما سنحرص عليه في هذا المقال.

تتكون عناصر عملية التحفيز من أربعة عناصر وهي:

1-
الشخص المحفّز، حيث أن لكل إنسان مفتاح تحفيز خاص به يختلف عن الآخر، فمن الناس من تحفزه الكلمة الطيبة، ومنهم من تحفزه المكافأة المالية، ومنهم من يجد كل الدافعية في المسمى الوظيفي.
2-
المقصد المحفّز إليه من سلوك أو موقف أو فعل أو قول، فقد يتم تحفيز الموظف لمزيد من الأداء الحسن، وقد يتم تحفيزه للتعاون بشكل أكبر مع زملاء العمل، أو قد يُحفّز الموظف إلى التعامل بإيجابية والتفاعل وتقديم الاقتراحات، إلى غير ذلك من المقاصد.
على العموم فإن كل ما قد يُحفّز إليه البشر من مقاصد في شريعتنا الغرَاء يعود إلى قسمين اثنين، قسم خالص لله وقسم لغير الله. يقول رسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه"، فشتّان شتّان بين المحفّز إليه الربّاني وغير الربّاني.

3-
وسيلة التحفيز المتبعة، أكانت مادية كالهدية، أم معنوية ككتاب الشكر، أو كانت إيجابية كالترغيب في خير، أم سلبية كالتحذير من شر. وننوه هنا إلى أن حكم وسيلة التحفيز كحكم المحفّز إليه، فلا مكان في شرعنا للميكيافلية القائلة بأن الغاية تبرر الوسيلة، فعندنا أن الغاية تقرر الوسيلة، فكل محفّز إليه رباني يجب أن تكون وسيلة التحفيز المتبعة إليه ربانية كذلك. ومعنى الربانية هنا باختصار هو ابتغاء وجه الله وموافقة شريعته في المقصد والوسيلة.
4-
مصدر التحفيز، قد تصدر وسيلة التحفيز من البيئة الخارجية المحيطة بالشخص المحفّز، ومثل ذلك الوظيفة الممتازة، والراتب المرتفع وغير ذلك، أو قد ينبع التحفيز من داخل النفس، ومثل ذلك ما يجري في النفس من حديث داخلي، أو ما يرسخ فيها من مبادئ أو قيم أو معتقدات، وبالطبع فإن من كان تحفيزه من داخله كانت دافعيته أعلى ممن كان تحفيزه من البيئة الخارجية.
ومما سبق وبأخذ العناصر الثلاثة الأخيرة في الحسبان وهي المقصد المحفّز إليه، ووسيلة التحفيز المتبعة، ومصدر التحفيز، نخرج بالمصفوفة التالية التي تبين أهم أنواع الحوافز التي تنتشر بين البشر:

1-
(مصدر وسيلة التحفيز: من داخل النفس، والمحفز إليه ووسيلة التحفيز: ربانيان) وهذا هو أفضل أنواع الحوافز إذ أن فيه الفعّالية والاستمرارية وهو في الاتجاه الصحيح، ومثاله شخص محفّز داخليا، نتيجة شعور عميق، وعقيدة متاصلة تسمو إلى المعالي وتأنف من الكسل، ويحفزه فوق ذلك حديث الرسول صلى الله عليه وسلم "إن الله تعالى يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه". وطبيعة هذا الشخص هي أنه دائم السعي إلى مراتب وظيفية أعلى يقدم فيها خيرا أكثر لنفسه وأسرته وأمته.

2-
(مصدر وسيلة التحفيز: من داخل النفس، والمحفز إليه ووسيلة التحفيز: غير ربانيين) والحافز هنا فعّال ومستمر ولكن في الاتجاه الخاطيء، ومثاله ذلك الموظف البسيط الذي يضع نصب عينيه هدف أن يصبح مديرا للمرقص الذي يعمل فيه موظفا بسيطا، وتراه كلما ارتقى في وظيفته احتفل وكافأ نفسه والعياذ بالله بزجاجة خمر!
والمثال هنا فاقع اللون وذلك من أجل توضيح الصورة، ولكن الحاصل في عالم الواقع أن النوايا والمقاصد المحفّز إليها وكذلك وسائلها غالبا ما تلتبس ربانيتها من عدمها على أصحابها، كما أنها لا تتموضع في العادة إلا في المنطقة الرمادية المحيرة، ومن هنا وحتى يستطيع الواحد منا تحديد موقعه من التحفيز وعناصره فيجب أن يواجه نفسه بحسم ووضوح وصراحة تامة ليتم له ذلك.

3-
(مصدر وسيلة التحفيز: من البيئة الخارجية المحيطة، والمحفز إليه ووسيلة التحفيز: ربانيان)والحافز هنا في الاتجاه الصحيح ولكن تعوزه الفعّالية والاستمرارية، وقد يكون سرحان نفسه مثالاً لهذه الفئة، حيث بدا في حواره مع نفسه أن أكثر ما كان يحفزه هو المسمى الوظيفي والراتب والمكانة والتحديات الإدارية، وهذه كلها محفزات تنتمي إلى البيئة الخارجية، وبالرغم من كونها غير متعارضة مع شرع الله، إلا أنها لم تعد كافيةً لتشعل في نفسه جذوة الحماس! فالعجيب والغريب في طبيعة الحوافز الخارجية أن وجودها يصبح كعدمها حينما تتوافر وتتواصل، وذلك راجع لكون النفوس التي يغلب عليها الاستجابة للتحفيز الخارجي غالبا ما تعتبر تلك المحفزات المستمرة بمثابة مسلمات مملوكة في اليد إلى الأبد ولا تؤدي إلى أي دافعية! وبالتالي فلا يصبح لهذا النوع من المحفزات الخارجية أي أثر إلا حينما يغيب أو يُفتقد!

4-
(مصدر وسيلة التحفيز: من البيئة الخارجية المحيطة، والمحفز إليه ووسيلة التحفيز: غير ربانيين) والحافز هنا هو أسوأ أنواع الحوافز فهو غير فعّال ويعوزه الاستمرارية كما أنه في الاتجاه الخاطيء، ومثاله ذلك الموظف الذي فقد الحافز الداخلي، وإذا حصل أن قدمت له البيئة الخارجية بعض المحفزات، فهو لا يتحفز إلا لغير الشرعي منها، كما أن الوسائل التي تحفزه هي غير شرعية كذلك.

ومسك الختام

يقول رسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه "لكل عمل شرة ولكل شرة فترة فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك"، والتحدي المطروح هنا هو كيف ينتقل سرحان إلى منطقة التحفيز الداخلي، والمحفّز إليه الرباني، ووسيلة التحفيز الربانية، وهذه هي باختصار سنة المصطفى التي أشار إليها حديثه الشريف، هذا ويتلخص الحل في أربع خطوات ينتفع بها سرحان وكل من أصابه الملل الوظيفي:

1-
تجديد النية لله، واحتساب الأجر من رب العالمين في كل ما يقوم به من عمل أو وظيفة، يقول الله تعالى "قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162)" (الأنعام)، وهذا بحد ذاته خير محفِز.
2-
عدم ازدراء نعمة الله الغامرة، واستشعار الفقر إلى الله، وأن كل ما نملكه لا نملكه إلا ملكيةً مؤقتةً، أما الشعور بالاستغناء فهو أقصر الطرق إلى الطغيان، يقول الله تعالى "كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7)" (العلق).
3-
العناية بالجانب الروحي وتزكية النفوس للخروج من دوامة الكآبة وانعدام الحافزية، يقول الشاعر:
يا خـادم الجسـم، كم تسعى لخدمـتـه ...... أتطلب الربح فيما فيه خسران؟!

أقبل على النفس واستكمل فضائلها ...... فأنت بالروح لا بالـجسم إنسان
4- القيام بمهام جديدة وبطرق مختلفة، والانفتاح على آفاق وإبداعات أوسع لمواجهة تحديات متجددة في نفس الموقع الوظيفي، فمعادلة النجاح والانجاز تقول أنه بعد الاتقان يأتي دور الابتكار، لذا فليس من الضرورة بمكان أن يستقيل سرحان لكي يخرج من قمقم الملل، ودهليز الفتور