عضو مميز
- معدل تقييم المستوى
- 24
السعادة الحقيقية
شروع اليوم سيعجبكم كثيرا لأنه سيكشف لنا حقائق جميلة.........
فقد كان هناك شاب غادر بلدته الصغيرة المظلمة معظم شهور السنة الى الدنيا الواسعة.. ولم يحتمل البقاء فى بلدته الكئيبة التى لا تعرف الشمس ولا يدخلها زوار كثيرون.. والحياة فيها راكدة ومملة, فتسلل من الفندق الصغير شبه المهجور الذى تملكه أمه بغير وداع ورأى اخته الطفلة الصغيرة تلعب فى الفناء فلم يتوقف لوداعها خوفا من ان يضعف, ومضى الى محطة القطار , كان عمره 18 عاماً.. وكان ابوه قد رحل عن الحياة منذ خمس سنوات وقرر أن يحقق طموحه بعيدا عن اسرته.. فركب القطار الى الميناء البعيد.. وركب الباخرة من الميناء الى قارة بعيدة تشرق فيها الشمس معظم شهور السنة..
ولاطم امواج الحياة ولاطمته.. واستقر فى النهاية فى احدى المدن وحقق فيها نجاحه.. وتزوج من فتاه احبها واحبته وصنع ثروة كبيرة.
ومضى على زواجه خمس سنوات سعيدة ثم توقف فجأة وسأل نفسه ماذا ينقصنى؟
واجاب على سؤاله:
أنا سعيد.. لكن السعادة وحدها ليست كل شيئ.. فهناك ايضا واجبات لابد من ان يؤديها البشر كى ينعموا بسعادتهم.. وواجبى الان هو أن اجد أمى واختى وان يكون لى وطن لأن الانسان لا يستطيع أن يعيش فى النفى الى النهاية..
فقرر ان يعود الى القارة التى هاجر منها.. والبلدة التى غادرها منذ عشرين سنة .. يبحث عن امه واخته ويحمل معه الاحلام والثروة والسعادة.
ورافقته زوجته فى رحلته الطويلة وطوال الطريق وهو يفكر كيف يكون سيكون لقاءه الاول مع امه واخته..
وكيف يقدم نفسه لأمه .. هل يقول لها هانذا قد عدت.. انا ابنك!
أم ينتظر ان تتعرف هى عليه وتسارع الى عناقه.. واخيرا قرر أن يعدّ لها مفاجأة وأن يقيم فى فندقها الصغير كأى نزيل عادى ويرقبها عن قرب ويرى هل ستتعرف عليه أم لا؟ ثم يحاول التقرب منها والحديث اليها طويلاً ,فيبيت ليلته فى فندقها الصغير وفى الصباح وعلى مائدة الافطار يلقى أمامها بالمفاجأة ويعدها بالسعادة وتحقيق الاحلام.
ولكى ينفذ خطته طلب من زوجته انتظاره فى فتدق بعاصمة المقاطعة وسافر وحيدا الى البلدة الصغيرة, ودخل الفندق فرأى السيدة العجوز التى تقف خلف طاولة الاستقبال فتقدم اليها بتهيب وتفحصها طويلا , ثم طلب منها غرفة بالفندق وكوبا من الجعة فقدمته له مع مفتاح الغرفة..
وتحدثت اليه قليلا , ثم جاءت ابنتها وحاول ان يتحدث معها بلهفة فعاملته بتحفظ وجفاء وطلبت منه الا يتجاوز حدود ما سمته " لغة الزبائن " لكنه أصر على أن يواصل اللعبة حتى نهايتها , فاختفت المرأتان فى الداخل.. ففوجئ بزوجته وقد لحقت به لأنها لم تطق البعد عنه بعد خمس سنوات لم يفترقا خلالها ليلة واحدة , واقنعها بصعوبة شديدة بأن تعود من حيث جاءت حتى لا تفسد لعبته الاخيرة فانصرفت الزوجة كارهة , وصعد غرفته وبعد قليل جاءته اخته التى لا تعرفه بكوب من الشاى.. فدهش الرجل فهو لم يطلبه.. واعتذرت الفتاه بأن خادم الفندق قد فهم خطأ أنه يريد شايا وأبدت استعدادها للعودة به , لكنه خجل من ان يدعها تنصرف حاملة صينية الشاى فطلب منها تركها على المائدة آملا ان يخفف ذلك من نفورها منه .. فتركته وانصرفت , واحتسى الشاى مجاملة لأخته التى لا تعرفه.
وبعد قليل شعر برغبة فى النوم.. فنهض ليتجه الى فراشه.. لكنه لم يصل اليه فقد سقط على الارض , ففتحت المراتان باب الغرفة ودخلتا , وتعاونتا على حمله وإخراجه من الباب الخلفى للفندق الى شاطئ الترعة القريبة.. ثم القياه فيها , وعادتا الى غرفته تبحثان عن نقوده وأوراقه وساعته!
لقد كانتا هما ايضا تحلمان بمغادرة هذه البلدة المظلمة الكئيبة.. وتريدان جمع المال الذى يمكنهما من الهجرة والحياة فى مدينة على شاطئ البحر , يستمتعان فيها بالشمس والضوء بعيدا عن هذه البلدة المهجورة.
لكن وسيلتهما الى السعادة اختلفت عن الوسيلة التى حقق بها الابن المهاجر سعادته.. نعم فلقد اختار ان يهاجر ويكافح ويصنع نجاحه وثروته.. أما هما فلقد اختارا الجريمة.. ونفذتاهما من قبل فى بعض نزلاء الفندق القليلين, وكانت مواصفات الضحية دائما واحدة , هى ان يكون نزيلا وحيدا وغنيا وقد انطبقت الشروط على هذا النزيل الجديد , فقررتا ان تكررا قصة الجريمة وان تكون المرة الاخيرة.. فلقد قارب المبلغ على الاكتمال.
وكانت الجريمة الاخيرة فعلا.. فلقد عرفت الاخت شخصية شقيقها من جواز سفره.. واطلعت امها على الكارثة.. فأسرعت الام الى شاطئ الترعة والقت بنفسها وراءه لتغرق معه, اما الاخت فلقد قررت أن تنهى حياتها داخل غرفتها .. وقد فقدت الاحساس بكل شيئ حتى الحزن.. ثم جاءت زوجة الابن تستفسر عن زوجها فصدمتها اخته بالحقيقة المروعة بهدوء قاتل وتركتها لتنفذ اخر جرائمها وتغتال نفسها....
هذا هو ملخص مسرحية للكاتب الفرنسى الذى بجائزة نوبل قبل مصرعه " البير كامى"
وقبل أن تشعر بالارتياح لأنها مجرد قصة من نسج الخيال وليست واقعا مفزعا.. أبادر بأن أقول لك عزيزى أن كامى قد بنى هذه المسرحية على حادثة حقيقية وقعت فى إحدى قرى "تشيكوسلوفاكيا" ونشرتها الصحف وقتها , والاختلاف بين مسرحية كامى والقصة الحقيقية هو فى مصير القاتلين , ففى الجريمة الواقعية شنقت الاخت نفسها فى غرفتها فور علمها بالحقيقة, اما الأم فقد أصابها لوثة من الجنون المؤقت فاعترفت بكل شيئ وبجرائمها السابقة وحوكمت , لكن كامى اختار للاثنين أن ينتحرا بأيديهما ربما تنزيها للأم عن أن تقبل الاستمرار بين الاحياء بعد أن عرفت أنها قتلت ابنها الشاب الذى عاد ليسعدها وينتشلها من حياتها المملة..
ويرى البير كامى أن قتل الابن قد حدث بسبب سوء تفاهم يتحكم فى المصير الانسانى وهو فى رأيه قانون يسود العالم!
ذلك أن احد أسباب شقاء البشر فى رأيه أنهم لا يعبرون عن انفسهم ببساطة وانهم يفضلون غالبا أن يحيطوا انفسهم بالغموض..
فلو أن هذا الابن قد نطق بكلمة واضحة وصريحة لما وقعت هذه الجريمة..
وعلى أية حال فإن المسرحية تجسيد غريب لشوق الانسان الدائم الى السعادة فى عالم يريد كامى ان يقول لنا.. أنه لم يخلق موطنا للسعادة!
وسواء اتفقت معه فى ذلك أو لم تتفق فلا شك ان من اهم أسباب سوء التفاهم الانسانى الذى يجلب الشقاء هو ان وسائل الافراد لتحقيق سعادتهم الخاصة قد تتعارض أحيانا مع وسائل الاخرين للوصول الى السعادة أو الاحتفاظ بها.. فاللص الذى يصرق مال غيره قد يرى فى حصوله عليه سعادته لكنه فى نفس الوقت يشقى من سلبه مال بنفس القدر , والرجل الذى يتطلع الى امرأة غيره يرى فى نجاحه فى الفوز بها سعادته لكنه يُشقى بهذه السعادة المزيفة آخر بنفس الدرجة وربما اكثر , والمرأة التى تحلم باقتناص زوج غيرها ترى سعادتها فى تحقيق هدفها.. لكنها تُشقى آخرى بناجحها هذا فى نفس اللحظة, والموظف الذى يحفر تحت مقعد غيره بالدسائس والنميمة لكى يتهاوى المقعد ويفوز هو بمنصب صاحبه يرى فى نجاحه فى ذلك سعادته.. لكنه ايضا يُشقى بذلك غيره.. وهكذااااااا......
ولكن السعادة فى تقديرى ليست طريقا محفوفا بالاشواك الى هذا الحد , دائما والسعادة فى البداية والنهاية استعداد شخصى.. فاذا توفر هذا الاستعداد عند انسان ما فإن عوارض الحياة الطارئة من ثروة ونجاح ومرض وازمات إنما تزيد أو تقلل من سعادته , وإن لم يتوفرهذا الاستعداد فإن هذه العوارض نفسها إنما تزيد أو تقلل من شقائه لأن الاصل عنده هو الشقاء وليس العكس .
وعند المفكر الفرنسى "مونتسكيو" فإن الاشقياء نوعان :
الاول مصاب بفشل الروح الذى يجعل من المستحيل أو من الصعب على أى شيء فى الحياة من ثروة أو نجاح أوجمال أن يحرك روح الانسان ويشعر بقيمة الاشياء وجمال الحياة..
والثانى: هو النوع المصاب بعذاب الرغبة فى كل شيء.. وفيما لا تؤهله قدراته للوصول اليه ,
وامثال هذا النوع فى رأيى هم الذين يجرون دائما وراء أهداف متحركة لا يصلون اليها ابدا , وكلما اقتربوا منها ابتعدت عنهم بلا نهاية...
والسعداء فى رايى فهم ايضا نوعان:::
الاول: يرغب فى اشياء بسيطة تؤهله امكاناته وقدراته للحصول عليها.
والثانى: نوع جهازه الانسانى منضبط بدقة على التوافق مع الظروف المحيطة به ويرضى دائما بحياته وبكل ما تحمله اليه الحياة.
فالرغبة يا عزيزى فيما لا تؤهلنا الحياة لنيله هى دائما بداية الطريق الى المعاناه , لكن الحياة من ناحية اخرى بلا هدف مشروع يتوافق مع قدرات الانسان ولا يتصادم بقدر الامكان مع اهداف الاخرين هى الجحيم بعينه!
فكل النماذج التى اشرت اليها لا تسعى الى سعادة حقيقية دائما , لأن السعادة الحقيقية هى التى لا يحس الانسان معها بوخز الضمير لأنه اغتصب حق غيره.. أو لأنه أقام سعادته على إنقاص سعادة الاخرين لأنه استخدم وسائل غير مشروعة فى تحقيقها ..
كما انها ليست عسيرة المنال كما يصورها لنا كامى .
فلكل إنسان سعادته الخاصة التى لا يدرك أحد سرها والتى تتفاوت من شخص لأخر.. كما انه ليست هناك على وجه الارض سعادة كاملة من كل الجوانب.. نعم فلكل انسان دائما من حظه بعض ما يسعده ومن همه بعض ما يشقيه , والانسان السعيد حقا وبدون زخرفة كلمات هو الذى يرضى بأقداره ويسعى لتغيير ما يستطيع تغييره من ظروفه ويتقبل مالا يستطيع تغييره منها ويتواءم معها.
المفضلات