عضو مميز
- معدل تقييم المستوى
- 24
امتلك العقول.. تمتلك المستقبل
امتلك العقول.. تمتلك المستقبل
صهيب جاسم
يحمل القرن المعلوماتي الذي نعيش فيه الآن في طياته نذر سباق محموم على امتلاك العقول. وما يحدث في آسيا يعد مثالا واضحا على ذلك.. وهو السباق الذي ينذر بأزمة جديدة لن تكون مالية أو سياسية بحتة.. وقد تنبهت العديد من الدول الآسيوية إلى أن العالم يعيش في بداية ثورة معلوماتية شبيهة ببدايات الثورة الصناعية، وأن من لا ينضم لذلك السباق الرقمي مبكرا فستفوت عليه فرصة تاريخية أخرى، وسينضم لنادي الدول الفقيرة بالمعايير التقنية.
الدول انقلبت إلى شركات
وقد حوّل التنافس الدول الآسيوية إلى شركات لتكنولوجيا المعلومات، نتيجة يقينها بأن امتلاك البنية التحتية والاستقرار السياسي والاقتصادي لن يكفي؛ فلا بد من توفر "العقول" المحققة للأحلام التقنية، وأن الدولة التي ستعاني من قلة الأيادي الماهرة في مجال تكنولوجيا المعلومات لن يمكنها تحقيق التقدم المنشود.
وقد أصبح حصول الشباب الآسيوي وغير الآسيوي على شهادة في أحد تخصصات تكنولوجيا المعلومات يسهّل لهم الحصول على تأشيرات للدخول والعمل في الدول الغربية، الأمر الذي كان سببا في موجات هجرة مهنية جديدة في السنوات القليلة الماضية؛ وهو ما تسبب في خسارة الجامعات والمؤسسات التعليمية الحكومية البارزة التي تشير إحصاءاتها إلى أنها لا تقبل سوى الطلاب المتفوقين، نتيجة لتوجه 60-70% منهم إلى الخارج وعدم خدمتهم لبلادهم.
طلب السوق أكثر من عرض الجامعات
ورغم إقبال الشباب على التخصصات الخاصة بتكنولوجيا المعلومات إلا أن السوق ما زالت في حاجة إلى أعداد ضخمة من هذه التخصصات، فالجامعات السنغافورية على سبيل المثال لا تخرج سوى 2500 ماهر في تكنولوجيا المعلومات سنويا، مقابل حاجتها السنوية إلى 10 آلاف منهم، وتحتاج كوريا الجنوبية إلى 100 ألف من هذه العقول الشابة كل عام، لكن جامعاتها لا تخرج سوى 48 ألفا سنويا، أما العملاق الياباني فإنه يحتاج إلى 200 ألف من الأيدي العاملة المعلوماتية سنويا، فيما تقول إحصائية غير رسمية بأن الاقتصاد الياباني بحاجة إلى ما بين 300 ألف إلى نصف مليون سنويا للبقاء على قيد الحياة الاقتصادية، وبمعنى آخر مليون إلى مليوني ماهر معلوماتي جديد حتى عام 2005!
ورغم كل تلك الأعداد التي تحتاجها السوق تشير الإحصائيات إلى أن أبرز 20 جامعة في شرق آسيا وجنوب المحيط الهادي (أستراليا ونيوزلندة) لا تخرج إلا 50 ألفا سنويا في تخصصات تكنولوجيا المعلومات، إلا أن هذا "الذعر الوظيفي" لم يندلع في أوساط الشركات بعد؛ حيث ما تزال معظم الشركات متوسطة وصغيرة، وهو ما ينذر بإمكانية تزايد مظاهر الأزمة في الأعوام القادمة.
وبينما تحاول الدول الآسيوية زيادة عدد المعاهد وتوسيع عدد المقاعد التي تتحملها الأقسام التقنية في الجامعات لتزيد عدد الخريجين بما يتناسب مع حجم السوق،, فإن أفضل الخريجين يتوجهون إلى الشركات الغربية للعمل هناك وتحصيل رواتب أفضل وترقية سيرهم الوظيفية في مقابل قناعة الأكثرية الباقية ممن ليسوا على مستوى عال من الكفاءة بالبقاء في بلادهم أو في دول آسيوية مجاورة، وهو ما يبرز مشكلة الانتقاء النوعي الذي ولّدته أنشطة الاقتصاد الجديد، حيث الحاجة إلى مزيج من خبرتين أو أكثر في الشخص الواحد؛ فهونغ كونغ مثلا تحتاج سنويا إلى 4000 موظف معلوماتي جديد غير أن 60% من الشركات تقول إنها لا تجد الشخص المناسب وخاصة في مجال البرمجة؛ ولهذا تحاول الحكومة الإقليمية في هونغ كونغ تأسيس بنية تحتية مناسبة لتدريب الخريجين من الأقسام التقنية بعد توظيفهم في محاولة لرفع كفاءتهم، فيما يشير بعض المحاضرين في الجامعات إلى ضرورة تغيير المناهج وطرق التدريس لتتلاءم ومحتوى المواد الجديدة.
اليابان والهند.. نقيضتان
ولعل اليابان في مقابل الهند تمثلان نموذجين متناقضين في ظل مناخ التنافس على العقول، ففي قمة الدول الثمانية الكبار التي عقدت في أوكيناوا اليابانية العام الماضي تعهدت اليابان -على ما تعاني منه من أمراض اقتصادية- بأن تساهم في علاج الفارق الرقمي والتقني بين الدول بـ15 مليار دولار، تنفقها في السنوات المقبلة على تعليم وتدريب الشباب الآسيوي، وفي نفس الوقت جمعت الحكومة اليابانية مجموعة من كبار رجال الصناعة والمال والعلماء في مجلس لرسم خطة لجعل اليابان قوة عالمية في تقنية المعلومات وتخطي منزلة الولايات المتحدة مع حلول عام 2005، وكان على رأس إجراءات الخطة جذب 30 ألف ماهر تقني من الخارج سنويا حتى ذلك العام.
وهكذا تساعد اليابان فقراء آسيا ليتعلموا ثم تجذبهم ليفرغوا علمهم عندها بدلا من أن يعينوا بلادهم التي هي بأمسّ الحاجة لهم، وهو بالطبع سلوك متوقع من دولة غنية مع ما تجابهه من "سباق تقني" يدفع إلى تقدم الغني والمتقدم صناعيا على جيرانه الضعفاء في هذه المجالات.
ويتكرر نموذج اليابان عند الحديث عن الولايات المتحدة وألمانيا وأستراليا وسنغافورة وهونغ كونغ وتايوان لحد ما، غير أن بعض الأساتذة الجامعيين الآسيويين يرون أن توجه أفضل شبابهم المتعلمين إلى اليابان أفضل من توجههم إلى دول غربية؛ لما لليابان من دور إيجابي وما تمليه العلاقة بين الشعوب الآسيوية من إمكانية تعاون شركاتهم ودولهم تقنيا.
وقد بدأ بالفعل اليابانيون في تنظيم دروس ودورات في فيتنام ولاوس. وتستعد ماليزيا وتايلاند كذلك لاستقبال أساتذة يابانيين، فيما طلبت لاوس ـ وهي من أفقر دول المنطقة ـ من طوكيو مساعدتها في رسم خطة لسياستها التقنية.
كما تقوم اليابان حاليا بدراسة وضع معايير موحدة في دول شرق آسيا لتقييم المهنيين في تكنولوجيا المعلومات؛ حتى تسهّل معادلة شهاداتهم المتفاوتة وتسهيل توظيفهم في أية دولة آسيوية، ونتيجة لذلك فقد حصل 5000 هندي على فرص عمل في اليابان مباشرة، وهذا ما يعكس الصورة المتناقضة التي تعيشها الهند؛ فبينما يتقدم 150 ألف شخص سنويا للدراسة في 6 معاهد تقنية يُقبل منهم 3500 طالب فقط -وهم بالطبع الأكثر تفوقا- ويتجه الباقون للمعاهد الخاصة، لا يبقى منهم في الهند سوى أقل القليل.
وهكذا يبقى الأمل في أن يتشجع المهني في تكنولوجيا المعلومات على الرجوع إلى بلاده بعد أخذ الخبرة في الخارج عندما يرى وطنه أكثر استقرارا وترحيبا به وأقدر على مكافأته.
المفضلات