لقد أكّدت الدراسات والابحاث النفسية الاخلاقية أنّ الصحّة النفسية هي مصدر سعادة الانسان واستقرار المجتمع وحفظ النظام فيه.

فالمجتمع الذي يتمتّع أفراده بالصحّة النفسية، وبالسلوك السوي يبني نظاماً اجتماعياً تندر فيه الجريمة والانحطاط والمشاكل والازمات السياسية والاقتصادية والامنية، ويسلم من السلوكية العدوانية. والانسان يستطيع بالتربية والارادة وظروف العلاج والرياضة النفسية أن يتخلّص من الحالات المرضية، كالانانية والحقد والكبرياء والغرور والاعجاب بالنفس والجشع...الخ. وهو كما وصفه القرآن الكريم معرّض للاصابة بمرض الكبرياء والظلم والاستعلاء على الاخرين، ولكي تتضح الصورة فلنقرأ جانباً من تشخيص القرآن وتحليله، قال تعالى:
(ما أصابَ مِن مُصيبة في الارض ولا في أنْفُسِكُمْ إلاّ في كتاب من قَبلِ أنْ نَبْرأها إنّ ذلك على الله يسيرٌ* لِكَيلا تأسوا على مافاتَكُمْ ولا تَفْرَحوا بِما آتاكُمْ والله لايُحِبّ كُلْ مختال فخور). (الحديد/22 ـ 23)
(وأمّا الذينَ استنكفوا واستكبروا فَيُعذّبُهُمْ عَذاباً أليماً ولا يَجِدونَ لَهُم من دونِ اللهِ وليّاً ولانَصيرا). (النساء/173)
(إنّ الذينَ يُجادِلونَ في آياتِ الله بِغير سُلطان أتاهُم إن في صُدُورِهم إلاّ كِبْرٌ ما هُم ببالغيه فاسْتَعِذ بالله إنّهُ هو السميعُ البَصير). (غافر/56)
(إنّا جعلنا ما على الارضِ زينةً لها لنبلوهُمْ أيُّهُمْ أحْسَنُ عَمَلاً). (الكهف/7)
(وما الحَياةُ الدّنيا إلاّ مَتاعُ الغُرور* لتُبلونّ في أموالكُمْ وأنْفُسِكُمْ). (آل عمران/185 ـ 186)
(وأيّوبَ إذْ نادى رَبّهُ أنّي مَسَّني الضُرُّ وأنْتَ أرْحَمُ الراحِمين* فاسْتَجبنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وآتيناهُ أهلَهُ ومِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً من عِنْدِنا وذِكرى للعابِدين). (الانبياء/83 ـ 84)
(الذينَ إذا ذُكِرَ الله وجِلَتْ قُلوبُهُمْ والصابِرينَ على ماأصابَهُمْ والمُقيمي الصلاة وممّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقون). (الحج/35)
(الذي خَلَقَني فَهو يَهْديني* والذي هو يُطْعِمُني ويَسْقيني* وإذا مَرِضْتُ فَهو يَشْفيني). (الشعراء/78 ـ 80)
وهكذا يتحدّث القرآن عن حقائق كبرى في عالم الانسان، نستطيع أن نذكر أبرزها كالاتي:
1 ـ إنّ النفس البشرية عرضة للاصابة بالمرض النفسي، كالتكبّر والاستعلاء والغرور والطغيان، نتيجة الاحساس بالقوّة والاستغناء عن الله والناس، ولتغطية حالة الشعور بالنقص المترسّبة في أعماق العقل الباطن.
فكثير من المتكبّرين والمتغطرسين يعانون من عقدة الشعور بالنقص، لذا يلجأون وبشكل لا شعوري إلى ممارسة سلوك المتكبّر.
إنّ تلك الامراض التي تنعكس على شكل سلوك اجتماعي يظهر في التعامل والعلاقات الانسانية بشتّى صورها الاجتماعية والسياسية، وانّ هذه الامراض النفسية والاخلاقية هي محنة الانسان الكبرى، ومصدر شقائه وعذابه في الدنيا والاخرة، لذلك شخّصها القرآن بقوله:
(كلاّ إنّ الانسان ليطغى* أنْ رآهُ استغنى). (العلق/6 ـ 7)
(ولا تمشِ في الارضْ مَرَحاً إنّك لَنْ تخرقَ الارضَ وَلَنْ تَبلغ الجِبال طولاً). (الاسراء/37)
(وأمّا الذينَ استَنْكَفوا واسْتَكْبَروا). (النساء/173)
(ان في صدورهم إلاّ كِبَرٌ). (غافر/56)
(فأمّا عادٌ فاسْتَكْبَروا في الارضِ بِغيرِ الحَقِّ وقالوا مَنْ أشدُّ مِنّا قوّة). (فصلت/15)
وهكذا كانت تلك العقد هي مصدر الكفر والظلم والفساد الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، كما هي مصدر الانحراف في السلوك الفردي.
2 ـ إنّ الابتلاء بشتّى أنواعه، ومنه الامراض الجسدية، هو أحد الوسائل التربوية والتأديبية الرادعة التي تُشعر الانسان بضعفه وحاجته إلى بارئه. كما تسلك كعقوبة للمجرمين والمتكبّرين والطاغين. ثمّ هي درس وموعظة للاخرين الذين يشاهدون الطاغي والمتكبّر والمغرور وقد فتك به المرض، وأذلّه وأفقده نعمة الصحّة والاستمتاع بالحياة. وقد أفاض علماء العقيدة والاخلاق الاسلاميون في دراسة الامراض وأثرها في تكامل النفس وتهذيبها فقسّموها إلى قسمين:
أ ـ قسم منها هو عقوبة وانتقام وتأديب وردع للمجرمين.
ب ـ وقسم منها تربية وكفّارة للذنوب، وتصعيد للسير التكاملي لدى الانسان.
فالمرض يوحي للانسان بالاحساس بالضعف أمام خالقه، وحاجته الى رحمته وعفوه وإحسانه، وإشعاره بالعطف والرحمة على الاخرين، والحيلولة بينه وبين حالات الغرور والطغيان وظلم الاخرين الذي يولّده الاحساس بالقوّة والاستعلاء عليهم.
3 ـ دعا القرآن الكريم الانسان الذي تلم به المحن والمصائب ومنها المرض إلى الصبر والشكر على المصيبة، ومواجهتها بعزيمة وإرادة قوية، وعدم اليأس من الشفاء، فانّ الشفاء بيد الله سبحانه، وما الدواء والعلاج إلاّ وسيلة تحتاج إلى توفيق ومشيئة إلهيّة.
4 ـ إنّ الله يعوّض الصابرين على ماأصابهم من محن وبلاء في أجسادهم. ولقد عرض القرآن نموذجاً فذّاً للابتلاء بالمرض الجسدي وللصبر واستحقاق الرحمة والعوض، عرض محنة النبي أيوب (عليه السلام)وتحدّث عن قصة مرضه وطول بلائه.
ومن هذه التجربة النبوية يتعلّم الانسان الصبر على المرض والاتّجاه إلى الله بالدعاء الذي يسير بقوى النفس نحو التكامل، ويركزّ مفهوم التواضع والعبودية والاتّجاه إلى خالق الوجود مفيض الخير والنعم.
5 ـ كشف القرآن عن حقيقة غائبة عن الكثيرين من بني الانسان الذين يتعاملون مع الحوادث والوقائع تعاملاً ساذجاً وسطحيّاً، فينظرون إلى كل ما يؤلمهم وتكرهه أنفسهم أو يعاكس أهواءهم أنّه شرٌ يجب التخلّص منه. يصحح القرآن هذا الخطأ، ويؤكّد أنّ كثيراً مما يحسبه الانسان شرّاً هو خير له. ويعرض هذا الفهم مساوقاً لفهم الطفل لمرارة الدواء ورفضه لتناوله. وبهذه القاعدة التربوية والفكرية العامّة يوضّح القرآن الحكمة من المرض وفلسفته في الحياة فيفهم الانسان أنّ وجود المرض ظاهرة طبيعية وضرورية في الحياة البشرية، وهي خير بوضعها القانوني العام، كالقتال بوضعه القانوني العام، وكالعقوبات القضائية بوضعها القانوني العام.
لقد أوضح القرآن هذه الحقيقة بقوله:
(كُتِبَ عليكُمُ القِتالُ وهو كُرّهٌ لَكُمْ وعَسى أن تَكْرَهوا شيئاً وهو خَيْرٌ لَكُمْ وعَسى أن تُحِبّوا شَيئاً وهو شَرٌ لكُمْ والله يَعْلَمُ وأنْتُم لاتَعْلَمون). (البقرة/216)
وكما أوضح فلسفة العقوبات القضائية بقوله:
(وَلَكُم في القِصاصِ حياةٌ ياأُولي الالباب). (البقرة/179)
فعلى الرغم مما في القتال والعقوبات القضائية من آلام وكراهة نفسية فهي إحدى وسائل الامن والسلام في المجتمع البشري، وبالتالي فهما من أبرز مصادر السعادة والطمأنينة. وعلى هذه القاعدة تبنى حكمة المرض الجسدي الذي يسلك كرادع للمرض النفسي وأداة للتربية والتأديب، لذلك نجد الايضاح لحكمة المرض تتجلّى في العديد من الاحاديث والبيانات النبوية والاخرى الصادرة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) التي تتحدّث عن المرض كأداة للابتلاء والاختبار، والاخرى تتحدث عن المرض كوسيلة للتكامل وتطهير الذات والوجدان من الامراض النفسية فمن الطائفة الاولى نقرأ:
روي عن الرسول (صلى الله عليه وآله) قوله:
(قال الله عزّوجلّ: ما من عبد أريد أن أدخله الجنّة إلاّ ابتليته في جسده، فإن كان ذلك كفّارة لذنوبه، وإلاّ ضيّقت عليه في رزقه، فإن كان ذلك كفّارة لذنوبه، وإلاّ شدّدت عليه الموت حتى يأتيني ولا ذنب له، ثمّ أدخله الجنّة)
وروي عن الامام الصادق (عليه السلام):
(ما يمرّ بالمؤمن أربعون يوماً وما يعاهده الله، امّا بمرض في جسده، أو بمصيبة يؤجره الله عليها)(.
وروي عنه قوله أيضا:
(انّه ليكون للعبد منزلة عند الله فما ينالها إلاّ بإحدى خصلتين، امّا بذهاب ماله، وامّا ببليّة في جسده)().
ويتحدّث الامام علي بن الحسين، السجاد (عليه السلام) عن المرض فيقول:
(إني لاكره في الرجل أن يعافى في الدنيا فلا يصيبه شيء من مصائبها)().
ويوضّح الرسول (صلى الله عليه وآله) القيمة التربوية والاثر الاصلاحي للمرض الجسدي ولما يصيب الانسان من بلاء، يوضّح أثر ذلك على تصميم المسار السلوكي وعلاج الحالات النفسية المرضية، وتصعيد حركة النفس التكاملية بشكل يفوق الاثار الاصلاحية التي تتركها أعمال البر الاخرى نظراً لما يترك الابتلاء من إحساس نفسي عميق وتفاعل فعّال في أعماق النفس، يوضّح الرسول (صلى الله عليه وآله) كلّ ذلك بحكمته الرشيدة فيخاطب أصحابه قائلاً:
((«من يحبّ أن يصح فلا يسقم»، فابتدرنا فقلنا: يانبي الله فعرفنا ما في وجهه، فقال: «أتحبّون أن تكونوا كالحمير الضالّة»؟ فقالوا: لا يانبيّ الله، فقال: «ألا تحبّون أن تكونوا أصحاب بلاء وكفّارات فوالذي نفسي بيده إنّ الله لايبتلي المؤمـن بالبلاء مايبتلي إلاّ للكرامة عليـه، إنّ الله قد أنزله منزلاً لم يبلغه بشيء من عمله دون أن ينزل به من البلاء ما بلغ به ذلك المنزل
ونقرأ تحليلاً دقيقاً للامام محمد الباقر (عليه السلام) لحكمة المرض وآثاره التي تعمل على تقويم النفس وتصحيح مسارها السلوكي، وعلاج حالاتها المرضية، فهو يوضّح أنّ مرض الجسم يعالج مرض النفس. روي عنه ذلك البيان بالنص الاتي:
(الجسد إذا لم يمرض أشر (ولا خير في جسد يأشر).
وهكذا تضع نصوص القرآن والسنّة تحليلاً علمياً لاخطر قضية تواجه الانسان في حياته، وهي قضية المرض الجسمي والنفسي. والكشف عن مسألة غامضة في هذه القضية، وهي أنّ كثيراً من حالات المرض الجسمي هي علاج للمرض النفسي. وانّ مرض المؤمن الذي يقع عليه من الله سبحانه، لا من تقصيره هو لصالحه، بل وحتى المرض الذي يحدث للانسان نتيجة التقصير يكسبه تجربة التوقّي من المرض، ويشعره بنعمة الصحّة التي أنعمها الله عليه. فالمرض كما تفيد النصوص هو تربية للانسان المؤمن، وتصعيد لحركة التكامل النفسي عنده، لما ينتج من الصبر على الالم، وتقوية الارادة، والرضا بقضاء الله وقدره، وكبح لجماح النفس، ومقاومة لنوازع الكبرياء والغرور والاستعلاء والبطر...الخ. وهو بعد ذلك كفّارة للذنوب، فالمرض النازل بالمؤمن بقضاء من الله سبحانه هو ألم، ولهذا الالم عوض إلهي.
وهذا العوض هو المغفرة والعفو الجميل، ولا يعني هذا الفهم طلب المرض أو الخضوع له، بل أوجب الاسلام على الانسان حماية نفسه من كلّ ضرر، وحرّم الاضرار بها، كما أوجب عليه العلاج من المرض الذي لايزال إلاّ بالعلاج. لذا اعتبر الفقه الاسلامي علاج الزوجة جزءاً من النفقة الواجبة على الزوج. بل وصوّر لنا كتمان المرض وعدم البوح به للطبيب ليتمّ التشخيص والعلاج خيانة للجسم. فقد ورد عن الامام علي (عليه السلام) قوله:
(من كتم الاطباء مرضه فقد خان بدنه).
ويتعامل التوجيه الاسلامي مع الحالات النفسية للمريض بإيجابية وتحليل علمي موجّه النتائج، منها أنّ بعض المرضى يشعر بالخطأ والتقصير تجاه نفسه وخالقه ومجتمعه غير أنّه سرعان ماينسى هذه الموعظة، وينسى فضل الله عليه عندما يزول عنه المرض وتعود إليه الصحّة، لذا تعامل معه بالتوعية والتذكير وتصحيح المواقف والسلوك، لانتشاله من هذه المشكلة السلوكية. جاء هذا التوجيه في وصية للامام علي (عليه السلام) قال فيها:
(لاتكن ممن يرجو الاخرة بغير العمل، إن سقم ظلّ نادماً، وإن صحّ أمن لاهياً، يعجب بنفسه إذا عوفي، ويقنط إذا ابتلي).