لما كانت المبادرة صفة محمودة ذكرت في القرآن الكريم في عدة مواقف ولعلي أقف الآن على موقف ربما أدهش الكثير لغرابته ولروعته، ذلك الموقف هو موقف النملة المبادرة صاحبة القرار والمسؤولية التي صاحت في معشر النمل قائلة : (يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا..) ولعل بقية النمل شاهد نفس الموقف ولكن ردة الفعل اختلفت.. فكانت هي المبادرة التي تحملت المسؤولية فاستحقت بذلك أن تذكر في القرآن الكريم .
كن مبادراً.. تعني أن حياتك يجب أن تكون نتاج قراراتك، قراراتك التي تتحمل أنت، وأنت فقط مسؤولية اتخاذها.
كن مبادراً.. تعني أن حياتك يجب أن تكون نتيجة قيم أنت تؤمن بها، ولديك اليقين الكامل فيها وتعيش حياتك وفقاً لها، ولديك الاستعداد أن تموت من أجلها، ألم تسمعوا قصة بلال بن رباح رضي الله عنه ( أحدٌ أحد ) ؟
وعلى سبيل المثال، من كان الصدق يمثل قيمة عالية عنده، فهو يعيش حياته وفقاً لذلك ، ولا يكذب مهما كان الأمر، ومهما كان الصدق مراً، ولأنه إنسان مبادر فإنه يقول الصدق مهما أحيط بمجتمع كاذب .
أن تكون مبادراً يعني أنه لا يجب بأي حال من الأحوال أن تكون حياتك نتيجة لقرارات انفعالية ، تخضع للمزاج أو المشاعر أو ما يريده أو ما قد يقوله الآخرون ، أن تكون مبادراً يعني أن تنبذ قوانين الفيزياء في التعامل مع البشر، بمعنى أن قاعدة (( لكل فعل رد فعل مساوٍ له في القوة ومضاد له في الاتجاه (( تنطبق عند التعامل مع الآلة، ولا تنطبق البتة في التعامل مع البشر، بل يجب أن تخضع لقوانين الفعالية العالية، وأولها أن تكون مبادراً، فكم شخصاً قام بتصرفات وأعمال وهو غير راض عنها وندم عليها لاحقا؟، ولكنه قام بها حتى لا يشذ عن الجماعة أو حتى يحقق تطلعات الآخرين، وأحيانا يشعر بالغضب والحنق لأنها لا تتفق مع مبادئه، ولكنه يستسلم لعملها، لهذا نقول أن حياتك يجب أن تكون مبنية على قرارات خاضعة للمبادئ لا لما يريده الآخرون ، فإن كان ما يريده الآخرون يتفق مع المبادئ ، فالحسَن زاد حُسناً ، وإن لم يكن فـ ( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني..) .
كن مبادراً.. ابحث في حياتك عن أمور تحتاج إلى تغيير وتقويم، لا تنتظر أحداً يأتي من الخارج ليغيرك، لا تنتظر صدمة أو حادثة توقظك، بل بادر بتغيير حياتك للأفضل ثم طور ما غيرته ليكون أفضل ما يكون .
إن مما يؤسف جمود بعض الناس في روتين قاتل دون تغيير أو مراجعة أو محاسبة فهؤلاء دينصورات العصر الحديث لا يتأثرون ولا يتغيرون ولا يتطورون ولا يتكيفون ولا يلاحظون المتغيرات الكثيرة من حولهم . ولا عجب إن قلت لك أن هناك من هم أسوأ من ذلك.. إنهم من يتغيرون ولكن للأسوأ.. إما بتقليد أعمى أو لمجرد لفت الأنظار أو في محاولة لإثبات الوجود ؛ بتقليعات غربية أو شرقية لا تمت لديننا ولا قيمنا بصلة .
كن مبادراً.. فكر في أمر يهمك ويهم مجتمعك، كن متميزاً في مجال يجذبك ويستهويك.. اعرضه على ميزان الشرع والعقل والقيم والأخلاق والبيئة فإن وافقها فهو مما يجدر بك الاستمرار بل والتميُّـز فيه .
كن مبادراً.. ابحث عن هواياتك أو تعلم هوايات سامية.. اقرأ كتاباً نافعاً .. احضر دورة مفيدة.. جالس المفكرين وأصحاب الرأي والمشورة والتفكير.. استخدم طاقات عقلك لإيجاد حلول مختلفة لمشاكل معاصرة .. فكر في تحسين وضعك الديني والمادي والوظيفي والأسري.. اكتب أهدافاً تود تحقيقها قصيرة وبعيدة المدى.. اجعل أهدافك نصب عينيك.. بادر في التحرك خطوة للأمام نحو تحقيق أهدافك .
كن مبادراً.. كن اليوم أفضل من أمس.. وغداً أفضل من اليوم .
كم أعجبني بيت المتنبي عندما أدركت عمق وقوة معناه وبُـعد ما يرمي إليه وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام .