هل تعرف ما هو معنى هذه الكلمة اليونانية التي تُسمى "الكاريزما"؟ إنها تعني الموهبة الإلهية، أو بمعنى أدق هي الجاذبية الشخصية التي يتمتع بها القائد، ولكنها توحي للوهلة الأولى أنها موهبة يُولد بها الواحد منا، بينما يرى "نابليون" غير ذلك حين يقول مفسرًا سر قدرته القيادية؛ فيقول: (إن قوتي تعتمد على مجدي، ومجدي على انتصاراتي، وستنهار قوتي إن لم أبنها على مجد أكبر وانتصارات أكبر وأكبر).
ولذا؛ فإن هذه الكاريزما القيادية هي التي تمكنك من قيادة الأتباع، الذين يمثلون أحد دعائم القيادة نحو الهدف، حيث يصفهم "وارين بلانك" بأنهم: (الحلفاء الذين يمثلون الوجه الآخر والضروري لعملة القيادة).
ولكننا نرى أن هذه الجاذبية الشخصية للقائد كما أنها كغيرها من صفات القائد، يمكن تعلمها وممارستها والتدرب عليها، ولكن في ذات الوقت تعد الموهبة القيادية التي يولد بها شخص ما، أو تلك النجاحات التي حققها عامل يسرع من قدرته على القيادة، ويرفع من كفاءته فيها، ولكن إن لم يكن هناك صقل لهذه الموهبة واستثمار لذلك النجاح، وبذل للجهد في سبيل التعلم والتدرب؛ فلن يكون لهذه الموهبة وتلك النجاحات أي أثر في قدرة القائد على جذب الآخرين وقيادتهم.
خارطة الطريق:
وانطلاقًا من كون الجاذبية الشخصية للقيادة أو "الكاريزما" مهارة يمكن للمرء اكتسابها، تعالوا بنا نجول في ثلاثة أمور تساعد على تكوين تلك الجاذبية؛ وهي:
1. احرق سفن العودة:
لقد سطَّر تاريخ البشرية كثيرًا من القصص التي تحكي عن قادة عسكريين أحرقوا سفن جيوشهم، ففسر البعض ذلك بأنهم يقطعون الطريق على جنودهم من أجل التراجع أو الاستسلام، ولكننا نظن أن ذلك هو السبب الظاهري، أما جوهر هذا الفعل أنه إعلان واضح وصريح من تلك القادة أنهم ملتزمون بتحقيق الأهداف مهما كان الثمن المدفوع في تحقيقها.
وعلى هذا المنوال هناك عديد من الوسائل والأساليب التي يمكن من خلالها للقائد أن يظهر هذا الالتزام تجاه مقوديه، ومنها الإقدام على اتخاذ الإجراءات الشجاعة المبتكرة وغير المعهودة، والتضحية والمخاطرة، وتسخير جميع الموارد الشخصية من جهد ووقت في خدمة الأهداف والمرئوسين، ومنها أيضًا الإصرار والعزيمة والمثابرة في السعي نحو الهدف.
مهمة الرواد:
وكيف لا يمتطي القادة صهوة جواد الإصرار والعزيمة والمثابرة وهم الرواد الذين يصف الدكتور عبد الكريم بكار دورهم في بناء الأمم وقيادة البشرية؛ فيقول: (أما الرواد، فمهتهم شق الطرق في الأماكن الوعرة حتى يمضي خلفهم الكبار والصغار، وبالإخلاص والصدق والمثابرة والعزم يمكن للمرء أن يجد نفسه بينهم).
ولذلك يقول "روجر أليس" وهو المستشار الإعلامي لكثير من منظمات التجارة والاقتصاد: (إن جوهر "الكاريزما" هو إظهارك للحماس والتفاني في تنفيذ أفكارك وأهدافك).
في غزوة أحد مثال وعبرة:
وكفى بالقائد الأعظم والنبي الأكرم r قدوة وأسوة في التزامه بما اتفق عليه من الأهداف، ففي غزوة أحد أشار النبي r على الصحابة رضوان الله عليهم أن يقاتلوا الكفار من داخل المدينة المنورة، ولكن كان رأي بعض من صحابته على عكس ذلك؛ فنزل النبي r على رأيهم، ولما همَّ بالخروج أشار الصحابة عليه بالمكث في المدينة خوفًا عليه من شر المشركين وكيدهم؛ فأبى النبي r إلا أن يلتزم بما اتفق عليه مع المسلمين، وقال: (ما ينبغي لنبي لبس لأمته أن يضعها، حتى يحكم الله بينه وبين عدوه) [زاد المعاد، ابن القيم، (3/172)].
شرط بشرط:
ولكن من المستحيل أن تُظهِر للآخرين التزامًا بتحقيق الأهداف وحماسة في أدائها دون أن تكون متحمسًا بالفعل؛ لأن مقوديك سوف يكتشفون حقيقة ما بداخلك، وحينها تكون قد أتيت على الأهداف من قواعدها؛ فأصبح تحقيقها ضربًا من المحال.
2. أضئ شموع الأمل ومصابيح الأحلام:
فالقائد يمتلك نفسًا لا ترضى بسفاسف الأمور وتوافهها، وإنما هي نفس تأبى إلا أن تحمل بين أضلعها أحلامًا عظيمة وطموحات كبيرة، فهو يعلم أن الأهداف البسيطة يُطلب لها الرجيل، أما الأهداف العظيمة فهي مطمح الرجال والقادة.
فُتحت فارس ... فُتحت الروم:
ولذلك؛ لابد للقائد أن تكون أهدافه عظيمة، وأن يصوغ تلك الأهداف العظيمة ويحفز أتباعه لها، ولك مع النبي r موقف عظيم لقائد استطاع أن يصنع تلك الأحلام العظيمة حتى في أحلك فترات التضييق.
ففي يوم الأحزاب، يوم أن كانت قبائل العرب تضرب حصارًا خانقًا على المدينة، يوم أن تآمر اليهود على النبي r ونقضوا العهد والميثاق، وفي ظل ذاك الجو المشحون والضيق الشديد، استعصت على المسلمين صخرة عظيمة وهم يحفرون الخندق، فهرعوا يستنجدون بالنبي r، فقالوا: (يا رسول الله، إنا وجدنا صفاة لا نستطيع حفرها).
فقام النبي r وقمنا معه، فلما أتاها أخذ المعول فضرب به ضربة وكبَّر، فسُمعت هدة لم يُسمع مثلها قط، فقال: (فُتحت فارس)، ثم ضرب أخرى فكبَّر فسُمعت هدة لم يُسمع مثلها قط، فقال: (فُتحت الروم)، ثم ضرب أخرى فكبَّر فسُمعت هدة لم يُسمع مثلها قط، فقال: (جاء الله بحمير أعوانًا وأنصارًا) [السيرة النبوية، ابن كثير، (3/193)].
فانظر إلى صناعة الحلم، وبناء الآمال والطموحات العظيمة، حتى في ذلك الموقف العصيب، يصنع النبي r لهم الهدف العظيم بفتح بلاد الفرس، والروم، واليمن.
3. تدرب ... تدرب ... تدرب:
فأداء القائد لواجباته وأعماله بشكل سلس يسير يجعل الناظر يظن أنه يؤدي واجبات عظيمة دون بذل مجهود، ولكنه لم يدرك كم بذل هذا القائد من المجهود في التدريب والتعلم من أجل أن يؤدي مهامه بتلك الطريقة اليسيرة.
جنرال في الثلاثين من عمره!
في موقعة "تشيبو" في حرب عام 1812م بين الجيش البريطاني والأمريكيين، كان الجنرال البريطاني "فينيس رايال" يقود قوات قوامها 1700 جندي، بالإضافة إلى 700 من الميليشيات الهندية والكندية.
وزحف هذا الجنرال بقوة لمواجهة الفرقة التي يقودها "وينفيلد سكوت"، وكان الجنرال يصف هذه الفرقة بأنها غير نظامية لما رأى من أزيائهم الرمادية، وكان "وينفيلد سكوت" هو قائد هذه الميليشيا، وكان لا يزال شابًّا صغيرًا في العقد الثالث من العمر.
لكن ما لا يعلمه "رايال" هو أن "سكوت" كان قد تدرب كثيرًا في فصل الشتاء السابق للمعركة، فقد كان يواصل تدريب فرقته حتى كادوا يسقطون من الإعياء، لكنهم من خلال هذه التدريب عرفوا قدارتهم الحقيقية وإمكانياتهم، وكل ما يجب عليهم فعله في المعركة، فنظموا خطوطهم بمنتهى اليسر رغم نيران "رايال" المفتوحة عليهم، وتقدموا بنظام دقيق وكأنهم في عرض عسكري.
وقد اندهش "رايال" بهم، وعبَّر عن إعجابه بقدرات "سكوت"، وأقسم أن هؤلاء جنود نظاميون، واستطاع "سكوت" أن يدفع "رايال" إلى الانسحاب بعد أن مُني بخسائر فادحة، وأصبح "سكوت" جنرالًا قبل أن يتم عامه الثلاثين، ثم أصبح كبير جنرالات جيش الولايات المتحدة الأمريكية، لكن ما أداه من تدريب وعمل شاق قبل موقعة "تشيبوا" كان السبب الرئيسي وراء نظرة الناس له كشخصية جذابة تتمتع بالكاريزما.
وختامًا:
تذكر ـ عزيزي القارئ ـ دائمًا أن القادة يتولون مسئولية التغيير، ويبثون روح المغامرة في نفوس الآخرين، حيث يبحثون عن طرق لتغيير الوضع الراهن بصورة جذرية، ويمسحون البيئة الخارجية من أجل الوصول لأفكار حديثة وطريفة، ويبحثون عن فرص من أجل الوصول لطرق تنفيذ ما لم يتم تنفيذه من قبل.