لقد كانت حياته صلى الله عليه وسلم مثالًا لصانع الرؤية الملهمة بحق، ولعل من أعظم تلك المواقف هو موقف الخندق:
فها هو النبي مع أصحابه في المدينة محاصرين، تكالب عليهم الأعداء من كل جانب، فهذه قريش وغطفان قد جمعت الآلاف، وعسكرت على مشارف المدينة تنتظر الأمر بالهجوم الضاري.
ومن جبهة اليهود تأتي خيانتهم كالعادة سيفًا يطعن في ظهر المسلمين، بتعاونهم مع كفار قريش ضد النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه، ليصبح جنوب المدينة المنورة ثغرة يمكن للكفار النفاذ منها.
وهكذا صار المؤمنون يتهددهم خطر عظيم، فقد(زادت جيوش الأحزاب في تشديد الحصار على المسلمين بعد انضمام بني قريظة إليها، واشتد الكرب على المسلمين، وتأزم الموقف)[السيرة النبوية، د.الصلابي، (3/328)].
بعد ذلك كله يأتي فريق أظهروا إيمانًا وأبطنوا كفرًا، إنهم فريق المنافقين الذين انسحبوا من الجيش بحجة أن بيوتهم عورة، ليتركوا أهل الإيمان وحدهم إلا من توفيق الله لهم وعزيمتهم الصلبة، ولم يكتفوا بالانسحاب بل راحوا يخذلون صفوف المؤمنين، حتى قال واحد منهم يدعى معتب بن قشير: (كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط!)[السيرة النبوية، ابن كثير، (2/346)].
وفي خضم تلك الأمواج المتلاطمة من المحن، يعترض طريق المسلمين في حفر الخندق صخرة عظيمة، لم يقدروا على إزالتها، فيهرعون إلى النبي صلى الله عليه وسلم مستنجدين به في إزاحتها، فيشمر عن ساعد الجد، ويضرب الصخرة ثلاث ضربات، تتحول بعدها إلى فتات متناثر.
ومع كل شرارة يحيي النبي صلى الله عليه وسلم الأمل في نفوس أصحابه ويرسم لهم معالم الرؤية المشرقة لمستقبل الإسلام، فيقول في الأولى: (الله أكبر، أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمراء الساعة)، ثم الثانية: (الله أكبر، أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن أبيض)، ثم الثالثة: (الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذه الساعة) [السيرة النبوية في ضوء مصادرها الأصلية، مهدي رزق الله، ص(449)].
فكانت كلماته صلى الله عليه وسلم صانعة لرؤية عظيمة، أذكت همم الصحابة، فانطلقوا يرتجزون[السيرة النبوية، د.الصلابي، (3/323)]:
اللهم لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا



فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا



إن الأعادي قد بغوا علينا وإن أرادوا فتنة أبينا



ثم تتحقق الرؤية، ويتحول النموذج المصغر إلى حقيقة واقعة بعدها بسنوات قلائل، فيفتح الله على المسلمين حصون كسرى وقيصر واليمن.
قصة كفاح:
أراك تقول: تحدثنا عن النبي وصحابته وهم الأفذاذ في العظمة والفاعلية، وهؤلاء لن يباريهم أحد في ذلك المضمار لأنهم جيل رباني صنعه الله على عينه؟!
وربما يكون في كلامك شيء من المنطق، ولكن ما بالك بشخص عادي، مثلي ومثلك، استطاعت الرؤية أن تصل به إلى القمة؟!
إنها قصة الشيخ زكي عثمان، أحد أساتذة الأزهر الشريف، النشأة كانت في محافظة قنا عام 1953م، والده إنسان بسـيط متدين، ولديه أربعة أشقاء وثلاث شقيقات، عاش حياة يخيم عليها الهدوء، لكن حين أصبح عنده عامان ونصف ساقه القدر إلى تحدي صعب واختبار مرير، فقد أصابته حمى شديدة أصيب على إثرها بشلل الأطفال وفقد البصر.
وتحول سكون الأسرة وهدوئها إلى غدو ورواح ينقبون عن طبيب حاذق يصف لها دواء لحالته، فقد كان هذا هو شغلهم الشاغل، لكن الأطباء الذين بذل وقته الطويل في زيارتهم قد أجمعوا على أنه لا علاج له وأن حالته ميؤس منها.
وكان لهذا التشخيص وقع الصدمة على أهله وأحبائه، فكم آلمهم رؤية الابن الناشئ طريح الفراش فاقد البصر، بينما يلعب الأولاد من حوله ويمرحون، وفي ظل هذه المعاناة انقسمت الآراء داخل العائلة بين فريق يرى في نهاية النفق المظلم أشعة ضوء تحاول أن تجد لها موضعًا، وفريق آخر يرى أن لا أمل لهذا الطفل في الحياة، ولكن الوالدين رفضا الاستسلام لتلك الظروف، وأعلنا التحدي، وبدأ كل منها يساعد هذا الصغير في رسم لوحة حياته.
كانت الخطوة الأولى أن ألحقوه بالكتاب حيث حفظ القرآن الكريم كاملًا، وظل حتى عمر 16 عامًا دون الالتحاق بالمدرسة.
ولكن أحلام الشاب زكي عثمان لم تتوقف عند الحفظ فحسب، بل تعدته لكي يؤدي زكاة هذا الحفظ، أن يكون خطيبًا وإمامًا وواعظًا، ولم يقنع بإتقانه للغة العربية وآدابها، بل اللغة الإنجليزية أيضًا؛ مما دفعه إلى تعلم تلك اللغة عبر جهاز الراديو حتى أتقنها.
ورأى الشاب اليافع أن يستكمل دراسته المدرسية، فالتحق مباشرة بالصف الأول الإعدادي في معهد عثمان ماهر الأزهري، وهو ابن ستة عشر عامًا، واستثناه القائمون على إدارة المعهد من المرحلة الابتدائية لأنه كان يحفظ القرآن كاملًا.
والتحق بعدها بمعهد القاهرة الثانوي، ومكث هناك أربع سنوات، وكانت رحلته إلى المعهد كل يومًا كفاحًا بكل ما تحمل الكلمة من معنىً، فكيف لمصاب بالعمى وشلل الأطفال أن يقطع الطريق لمعهده؟! تخيل ـ عزيزي القارئ ـ كان يذهب يوميًّا إما محمولًا على الأكتاف أو زاحفًا على الأرض، وإن كان الأمر في شهور الصيف يسيرًا نوعًا ما، فما بالك بشهور الشتاء حين تغمر الأمطار الأرض، فيزحف ذلك الرجل الهمام بين الطين والماء، دون كلل أو ضجر؟!
وتأمل ـ عزيزي القارئ ـ حينما سقط الشيخ البطل على الأرض في يوم من أيام الشتاء، فينتشله أحد العابرين بجواره، ويحمله رغم تلطخ يده بالطين ويضعه في الأتوبيس ويطلب من السائق أن يهتم به.
أربع سنوات من الكفاح المتواصل، لم تقف فيها أمطار الشتاء عائقًا ولا حرارة الصيف، ولم يفت ألم الشلل في عضده، حرم من نعمة البصر، ولكن لم يحرف من بصيرة ورؤية ثاقبة لم تغب عن عينه قط.
أربع سنوات نجح بعدها في الالتحاق بكلية أصول الدين، وحصل على درجتي ليسانس من ذات الكلية، إحداهما في الدعوة عام 1979م، والأخرى في التفسير عام 1983م، ثم حصل بعدها على درجة الماجستير، وكان عنوان رسالته لنيل تلك الدرجة هو "منهاج الإسلام في التنمية الاقتصادية"، ثم حصل على درجة الدكتوراه في موضوع "الدعوة الإسلامية في القرن السادس الهجري" بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى.
وبدأ الشيخ مرحلة توظيف ما تعلمه لخدمة هذه الأمة فعمل متحدثًا في الإذاعة، وتدرج في كلية أصول الدين حتى صار رئيس قسم الثقافة الإسلامية، فتعلم المسلمون من كلماته الإذاعية واستفاد تلامذته من علمه وفقهه حيث أشرف على 17 رسالة للدكتوراه، وصاغ للأمة 24 مؤلفًا في فروع مختلفة من الفقه والشريعة [أيقظ قدراتك واصنع مستقبلك، إبراهيم الفقي، ص(60-65)، بتصرف].
ولد فعاش ثم مات:
في مقابل قصة الكفاح تلك، فإن هناك مئات بل آلاف من قصص الفشل وإهدار المواهب تتكرر يوميًا في عالمنا العربي والإسلامي إنها قصة شاب ولد ونشأ في كنف أبيه وأمه، حتى صار عمره الخامسة أو السادسة، فالتحق بالمدرسة الابتدائية ثم الإعدادية فالثانوية، وحينما تخرج منها، قالوا له: مجموعك يؤهلك إلى الكلية الفلانية، فدخلها وهو مغمض العينين، ثم تخرج منها، ليلتحق بوظيفة في تخصصه، ثم تقدم لشغلها فوافقوا عليه.
عاش متنقلًا بين البيت والعمل، حتى قالوا له: حان الوقت للزواج، فقد بلغت كذا وكذا من السنوات، واختاروا له زوجة، فتزوجها وأنجب أولادًا وبناتًا، كرر معهم نفس قصته، ومر العمر سريعًا ليجد نفسه على فراش الموت، لم يعرف لحياته معنى، ولا أحدث أثرًا في تاريخ أمته.
هكذا هي حياة البشر دون رؤية واضحة مرسومة، حياة لا طائل من ورائها ولا فائدة، يكون نصيب أحدهم من سجل التاريخ: ولد فعاش ثم مات، دون أن يضع بصمته في الحياة، أو يترك أثره فيها ... فلك الاختيار عزيزي القارئ بين تلك الحياة وبين حياة العظماء والناجحين ... فماذا تختار؟!