في العقل والعقلانية:

“كذب الظن لا إمام سوى العقل مشيرا في صبحه والمساء”
أبو العلاء المعري
ميزة الإنسان أن كائن عاقل وهذه العقلانية تؤهله للسكن في العالم وتنظيم حياته وعلاقاته مع نفسه وغيره ودرء المفاسد وجلب المنافع ولذلك نراه يستعمل عقله في كل كبيرة وصغيرة ويبذل كل ما عنده من جهد من أجل عقلنة وجوده والظفر بفهم معقول للواقع الذي يحيا فيه.
وقد يسيء الإنسان استخدام عقله فيوجهه ضد نفسه وضد مبادئه فينتج نوع من المعقولية المضادة للعقلانية وتصبح عقلانيته من الأمور اللامعقولة ويعلن عجز العقل عن الدخول إلى دوائر عديدة مثل الغيبيات وعالم العاطفة والوجدان واللامنطوق واللامنقال مثل عالم الصمت والسكوت وينتصر إلى الدين والتصوف والحواس والتجربة والغرائز ويكشف عن محدودية العقل في إدراك الكل وفي الوعي بمصادراته وفي عقل نفسه ويضع شغل العقل جنبا الى جنب مع وسوسة الشيطان وينفر من الحجج العقلية لكونها بالغة التعقيد ومرهقة للنفس ومذهبة للصحة والاعتدال ويصيح: كفانا اختناقا بالعقل فربما غيابه أفضل بكثير من حضوره والحياة ربما تكون سهلة عندما يزهد الناس في استعماله.
في المقابل هناك اشادة بدور العقل في حياة الإنسان نظرا لأنه أساس التكليف ومصدر القيم والمعان والحقائق وهو قوة تجريد وجوهر بسيط وقدرة تمييز منزه عن المادة من جهة ولكنه مقارن للجسد في الفعل يتضمن مجموعة من المبادئ والقوانين ويختص في إدراك المعاني وتصور حقائق الأشياء.
ان المشكلة ليس في العقل في حد ذاته بل في طرق استعماله، إذ هناك الاستعمال اليومي للعقل من أجل مواجهة المشاكل والتغلب على الصعوبات التي يواججها الإنسان في الحياة اليومية وهنا ينحط العقل إلى مرتبة الوسيلة الذرائعية من أجل تحقيق الرغبات وإشباع الحاجات، وهناك استعمال عمومي للعقل ويتمثل في الدور السياسي والحقوقي الذي يلعبه العقل في تنوير الحشود وتثقيف الجمهور وهناك يعجز العقل عن الارتقاء إلى مرتبة الفكر ويظل مجرد ملكة تعنى بالتشريع للشأن العام. أما الاستعمال الثالث فهو الاستعمال النقدي له وهو النظر إليه بوصفه مملكة للغايات الجوهرية للإنسانية جمعاء وهنا يتحول إلى فعل تواصلي وحديقة لتحقيق نعمة الحرية.
إن القوة العاقلة هي التي تجعل الإنسان إنسانا عن الحقيقة وتجعله يرتقي من الناحية الأخلاقية عن المرتبة البهائمية من جهة كونه يمنح الكائن البشري درجة الشخص ويؤمن له العديد من الوظائف الابستيمولوجية والأكسيولوجية والأنطولوجية.
يعني العقل ثلاثة أشياء: أولا النظام والرابطة والصلة والملجأ الذي نعتصم به
وثانيا الملكة التي يستخدمها الإنسان من أجل الإدراك والتشريع والتنفيذ على الصعيد العملي
وثالثا هو قانون العالم ومنطق التاريخ ومبدأ الوجود.
تعني العقلانية الإقرار بأولوية العقل على التجربة والحواس من جهة وأهميته بالمقارنة مع الدين والأسطورة من جهة ثانية وبحثه المتجدد على الإبداع والنقد والتحرر من كل أشكال القصور والتبعية والوصاية والإقدام على التوجه نحو مناطق اللامفكر فيه من أجل سبر عالم المعنى والاغتراف من منابع الحقيقة التي لا تتحجب. “ألم يقل تولستوي:”إن الحقيقة هي أجمل شيء في العالم بأسره”؟
إن العقلانية هي أحد سمات الحداثة وذلك عندما تحول العلم من جهة الصياغة الرياضية والتثبت التجريبي إلى معيار صلوحية القول الفلسفي وعندما ارتبطت المعرفة الحقيقية بالنسق الشامل والنظرة الكلية الموسوعية . ربما يكون لايبنتز هو من أسس الحداثة الفلسفية على مبدأ العقلانية عندما أضاف إلى المبادئ المنطقية الثلاثة للعقل :الهوية وعدم التناقض والثالث المرفوع مبدأ رابعا هو العلة الكافية بقوله أن لكل شيء سبب معقول فجعل العقل لوحة تفسيرية للعالم والإنسان سيدا على الكون.
يمكن أن نميز في هذا الصدد بين التصور والتفكير والتعقل، التصور هو التخيل وحصول صورة الشيء في العقل وهو إدراك الماهية دون الحكم عليها بالنفي أو بالاثبات، والتصورات هي المعاني العامة المجردة، أما التفكير فهو عمل عقلي عام يشمل التصور والتذكر والتخيل والحكم والتأمل يرتبط بالعودة الى الذات وبالوجود في العالم وبإقامة علاقة مع الآخر ويقال:”فكر في الأمر تفكيرا أي أعمل العقل فيه ورتب بعض ما يعلم ليصل به إلى المجهول”. ويقال أيضا:” فكر في المشكل أي أعمل الروية فيه ليصل الى حل”. بقي التعقل وهو وسط بين الإفراط والتفريط وقوة في التمييز وجودة الروية والتعقل في اللغة هو تكلف العقل وفي الاصطلاح هو فعل العقل ويذكر ابن سينا في النجاة ما يلي:” إن تعقل القوة العقلية ليس بالآلة الجسدية…فالواجب الوجود الذي في غاية الجمال والكمال والبهاء والذي يعقل ذاته بتلك الغاية في البهاء والجمال وبتمام التعقل وبتعقل العاقل والمعقول على أنهما واحد بالحقيقة يكون ذاته لذاته أعظم عاشق ومعشوق”.
كما يمكن أن نميز بين العقلانية والمعقولية والتعقلية، العقلانية Rationalisme مذهب عام واحد ونظرية فلسفية تجعل من العقل أساس كل معرفة ممكنة وتبعا لذلك تعتبره المبدأ الوحيد الذي يحمل في ذاته إمكانية التعرف على الأشياء قبل تدخل التجربة والإدراك الحسي والنصوص الدينية والتصورات المعرفية الشائعة لدى عامة الناس.
أما المعقوليةRationalité فهي ما يجعل الشيء والعالم والعقل معقولا وترتبط بالعلوم ولذلك جاءت في صيغة الجمع والكثرة ولذلك نراها تعني جملة المقاييس المنطقية التي توجه في الفكر في حواره مع العالم وتكيفه مع الطبيعة وتجعل منه أمرا معقولا. هكذا يسمى معقولا كل نشاط علمي سواء كان ذهنيا أوى عمليا من حيث ارتباطه واتفاقه مع المبادئ المنطقية والتجريبية التي تتدخل في تكوينه.
في حين أن التعقلية Raisonnabilité هو مفهوم جديد قديم يعبر عن توجه اتيقي للعقل قريب من مفهوم الفرونيسيس الأرسطي ومفهوم التعقل عند الفارابي وهو أداة تفكير عملي الغاية منه تدبير أمور المدينة وتنظيم شؤون الجمهور في الفضاء العمومي من أجل أن يحيوا في توافق مع الطبيعة.
بيد أن المعضلة الكبرى بالنسبة إلى الإنسانية لحظة عصر العولمة وفي مجتمع الفرجة ليس اعتماد العقل وكثرة المعقوليات العلمية القطاعية وغياب نسق فلسفي توحيدي ومعقولية شاملة تضع حلولا نهائية لمعظم الإشكاليات العالقة والتحديات المطروحة وإنما تحول ملكة التعقل لدي الإنسان إلى عقل حسابي وعداد آلي للوسائل السهلة من أجل تحقيق أكبر المنافع وهيمن مبدأ المردود وكوجيتو البضاعة وتفضيل منطق النجاعة على نسق القيم والتشبث بالأوهام واليوطوبيا وايثارها على اليقين والحقيقة، ومثل هذا الحال يدعونا الى النقد وذلك بالعودة للتفكير في رسم حدود للعقل ووضع ضوابط إتيقية والتشريع لعقل تواصلي يعتمد آليات الحوار والتفاوض والنقاش العمومي من أجل الوصول إلى درجة مقبولة من الإقناع والتوافق، فبأي معنى تكون العقلانية النقدية التواصلية هي الأفق الإتيقي الذي سيتوجه نحوه الفكر البشري اذا ما حاول استئناف النظر في مسألة الوجود مستقبلا؟ واذا كانت المعقولية قد عمقت أزمة العقلانية الأداتية وجلبت العدمية والنسبوية فهل تقدر التعقلية الاتيقية على انقاذهما معا من الفوضوية والانحسار والتراجع؟