شكراً لمجمع اللغة العربية بالقاهرة الذي أنقذ الجماهير العريضة من مثقفي العرب وعامتهم من اللوم على الوقوع في اللحن حين وافق على استخدام كلمة (فشل) بمعنى أخفق، أو لم يبلغ مراده، على الرغم من نص المعاجم اللغوية القديمة على أن (الفشل) هو الجبن أو الكسل أو الخوف أو الضعف، وليس الإخفاق أو عدم النجاح، كما هو شائع اليوم.
والشكر ثانية لمجلة (المعرفة) التي تحاول أن تساعد القراء على رسم صورة أكثر اكتمالاً لأشخاص لا يعرفون عنهم سوى جزء صغير من حياتهم أو من أشكال معاناتهم.


-أخفقت في تعلم العروض؛ وحين كنت طالباً في معهد الفتح الإسلامي بدمشق رسبت في تلك المادة، وفي الدور الثاني دخلت الاختبار ونجحت. وما زلت أعتقد أن أستاذ المادة قد نجّحني بغير حق؛ لأنني لا أشعر أنني أستحق أكثر من 20% من العلامة الكبرى، لكن أستاذي –حفظه الله- أراد أن يخفف على ما يبدو من قسوة نظام الاختبارات، فالرسوب في الدور الثاني في أي مادة –ولو كانت العروض- يعني إعادة السنة كاملة، وأظن أنه وجد من الصعب أو غير المقبول أن يضيع طالب -هو الأول على زملائه- سنة كاملة من أجل مادة طالما قال عنها ذلك الأستاذ أمام طلابه: إنها علم شهر وعلاك دهر!
وهكذا تكون قسوة النظام سبباً في تجاوز ذلك النظام، وفي ذلك عظة بالغة يمكن الاستفادة منها في كل مجالات الحياة.


- أخفقت في إنقاص وزني ليكون مثالياً أو قريباً من المثالي، وإني أعتقد أن معركة (الخسخسة) على وزن (الخصخصة) هي أقسى وأطول معركة يخوضها المبتلون بزيادة الوزن أو البدانة، والمهزومون في تلك المعركة أكثر بكثير من المنتصرين. وأكثر الذين تراهم في وضع جيد ليسوا منتصرين، وإنما لم يقدر لهم دخول الحرب، ولو دخلوها لما اختلف شأنهم كثيراً. قرأت مرة أن معظم الذين يلتزمون الحمية ينجحون في التخلص من أحمال الشحم واللحم التي على أكتافهم. ففرحت بذلك, وقلت: "هانت" ثم قرأت أن معظم أولئك المصابرين يعودون لما كانوا عليه من قبل، بعد مدة من الزمن حين يواجهون بإغراءات الطيبات و (عزومات) الأصدقاء؛ فحزنت لذلك، وأصابني ما يشبه اليأس. ثم قرأت أن معظم هؤلاء العائدين يحاولون مرة أخرى الحصول على الرشاقة، فانبعث في نفسي شيء من الأمل، والذي سيعني تكرار المحاولة وتكرار الهزائم، لكن ذلك سيظل خيراً من الاستسلام.
وأعتقد أن بعض الناس من أهل وأصدقاء يتحملون جزءاً من المسؤولية في هذا الإخفاق، فقد قال لي طبيب من أصدقائي. البدين أحسن من النحيف وأوفر حظاً. فقلت: كيف يرحمك الله؟ قال: لأن البدين يستطيع إنقاص وزنه، أما الهزيل فلا يستطيع زيادة وزنه، فأشعرني أن الأمور إلى خير، وأن هناك ما هو أسوأ، لكن صاحبي لا يعرف كل الحكاية!


-أشعر في بعض الأحيان أنني أكثر من الكلام في المجالس العامة وفي كل مرة أقول: هذا غير ملائم، وقد يكون فيه نوع من الهضم لحقوق الآخرين ممن هم قادرون على الكلام. وربما كان ذلك نتيجة إغراء بعض الحاضرين لي بأن أتكلم أكثر وأكثر من خلال تشجيعهم وتفاعلهم، ولكن هؤلاء دائماً قلة وأغلبية الخلق عندنا صامتون، وربما كان لهم رأي آخر, وأحياناً أتكلم بكلام يكون فوق مستوى الحاضرين، فتضيق عليهم الأرض بما رحبت، ويتلمسون مخرجاً مما هم فيه، وأعتقد أن أحوالهم باتت أحسن من السابق، والبركة في الجوال!

- أخفقت في تعلم اللغة الإنجليزية على الرغم من محاولاتي المتكررة، ويبدو أن ذلك يعود إلى عدم إدراكي في مقتبل العمر (وهو وقت تعلم اللغات) لأهمية معرفة لغة حية ومهمة للغاية في التضلع من المعرفة. وربما كان ذلك لأنني درست سنوات طويلة في معاهد شرعية، وهي في تلك الأيام على الأقل لا تشجع على تعلم اللغات الأجنبية.
ويضاف إلى ذلك أنني رجل يفتقر إلى الصبر والجلد على معاناة الحفظ والصم عن ظهر قلب (وهو ما يتطلبه تعلم أي لغة) فقد تعودت خلال مسيرتي العلمية أن ألتقط الفكرة العميقة، ثم أدخلها إلى مصنعي الخاص؛ لأجعل منها نموذجاً في خطاب أو عنصراً في تشكيل رؤية. وربما كان هذا هو السبب أيضاً في إخفاقي في حفظ القرآن الكريم. وإني إلى هذه اللحظة أشعر بندم شديد بسبب إخفاقي في هذا أو ذاك (وعلى الله العوض).


- أخفقت في أن أحب قراءة كتبي، بل في الرجوع إليها لأستخرج منها شيئاً أستخدمه في بعض ما أكتب إلا إذا ألجأتني الحاجة، واضطررت إلى ذلك اضطراراً ولست أدري لذلك سببًا سوى الشعور بأن ما فيها صار من الأمس الدابر، وأنه يمكن العثور في الجديد من النتاج الثقافي للآخرين على ما هو أنفع وأجود، فأنا رجل مشغوف بمعرفة الجديد إلى حد الوله. وأظن أن من الصعب علي أن أطالع في كتبي ولو سجنوني معها!


- أخفقت في الانتظام في ممارسة الرياضة، ومع أنني أجيد بعض فنونها إلا أنني لم أتمكن من الالتزام بأي منها مدة طويلة من الزمن على الرغم من شعوري بأهميتها القصوى لصحة البدن. وربما كان ذلك عائداً إلى الكسل تارة، وإلى الاعتقاد بأن هناك أشياء أهم يمكن بذل الجهد والوقت فيها، وأنا في هذا مخطئ ولكن...!

- أشعر أنني أخفقت أن أكون محاوراً ناجحاً، فأنا مع سعة صدري مع محاوري، إلا أنني لا أسوق حججي في كثير من الأحيان بشكل جيد، مع اعتقادي أن الحق إلى جانبي. فأنا أحياناً أدلي بها دفعة واحدة، فيأخذ محاوري أضعف تلك الحجج، ويرد عليه، ثم ينقلب الحديث إلى قضية فرعية أو مسألة أخرى دون أن يجيب على أدلتي القوية، وقد يتدخل في الحوار أحد الحاضرين ليقلب الأمور رأساً على عقب.

وأحياناً أقول في نفسي: الأفضل أن أترك أقوى البراهين لدي إلى آخر النقاش؛ حتى تكون أشبه بالضربة القاضية! لكن يخذلني أحد صغار المحاور ليقول له: (أمي تقول مشينا)، فأشعر آنذاك بنوع من الإحباط والهزيمة غير المسوغة.
- كنت أحلم من مدة بعيدة في أن يتاح لي فراغ مغطى بدخل كاف، حتى أملأ ذلك الفراغ بما أراه أهم وأنفع، وحتى لا أضطر إلى العمل من أجل الرزق في مجال لا يستهويني. ومن أجل تحقيق ذلك كنت كلما توفر لدي شيء من المال وضعته مع شخص أو جهة من أجل تثميره لعلي أبلغ ما أرجوه، لكن بعد مدة أكتشف أني ابتعدت عن الهدف خطوات عوضاً عن أن أقترب منه خطوة، وصرت مع الأيام أشعر بأنني واحد ممن تصح فيهم المقولة الحكيمة التي أطلقها أحد خبراء السوق:"في كل دقيقة يولد مغفل، ويولد اثنان للمتاجرة به".
وفي كل مرة أقول هذه آخر محاولة، فإذا لم تنجح فلن أحاول مرة ثانية، وتخفق المحاولة، لكن يبقى الطموح إلى النجاح في محاولة ثانية. وإذا أردت أن أحدس بالمستقبل من خلال خبرتي بالماضي، فليس هناك ما يشجع على التفاؤل!


- أخفقت في مقاومة (التسويف) وتأجيل بعض الأمور المهمة، فهناك دائماً أمور ينبغي إنجازها في أوقات محددة وإلا فات المرء خير كثير، لكني مع هذا أؤجلها، ولدي بصورة مستمرة الحجج التي أقنع بها نفسي بأنني مشغول بما هو أهم. وهذا لا يكون في كثير من الأحيان صحيحاً. ما من مرة شعرت فيها بالضرر الذي لحقني من وراء تأجيل شيء مهم إلا عقدت العزم على ألا أعود إلى ذلك، لكن بعد مدة يتكرر المشهد مرة أخرى، وكأن النصر معقود دائماً للطبع على التطبع!


هناك لا ريب إخفاقات أخرى في حياتي لا أذكرها الآن، أو لا أرى فائدة في ذكرها، لكن كل ما ذكرته، وكل ما لم أذكره هو من الأمور العادية والشائعة، والتي قد لا تستوقف أحداً، ولا تلفت نظراً؛ وذلك لأن نجاح الشخص حين يكون عادياً، فإن إخفاقاته لا تكون إلا كذلك.
وأسأل الله التوفيق لما هو خير وأبقى.



بقلم الدكتور/ عبدالكريم بكار