اكتئابات الولادة


وعندما تنزلق امرأة ما بعد الولادة في حالة اكتئابية، فإنها غالباً ما تلقى الصد والرفض وعدم التفهم من المحيط، إذ أن التصور هو صورة الأم السعيدة بطفلها.
فالطفل المنتظر قد ولد أخيراً ويتوقع الجميع من الأم الخارجة للتو من المخاض أن تكون سعيدة إلى أقصى مدى. أما أن تحزن الأم أو تكتئب بعد الولادة، فهذا لا يتناسب على الإطلاق مع التصور الشائع حول الأم. مع أن الدراسات تشير إلى أن حوالي 80% من النساء يعانين بعد الولادة من أعراض اكتئابية لأوقات محددة. ولدى 10 حتى 20% منهن ينطبق عليهن تشخيص "اكتئاب ما بعد الولادة".
يمكن لصيرورة الأم أن تشكل خطراً ممكناً على المرأة، ذلك أن هذا الحدث يمكن اعتباره حدثاً متطرفاً، سواء من الناحية الجسدية أم من الناحية النفسية. ويعد وقت التحول إلى أم وقت التحولات الكبيرة في حياة المرأة. فحياة المرأة كلها تقلب رأساً على عقب، وعليها أن تعيد تحديد هويتها (تماهيها) كأم وأن تتقبل هذا الدور وتمارسه. ومن هنا فليس من المفاجئ لنا أن نلاحظ ظهور "ذهانات النفاس" أو "اكتئابات ما بعد الولادة" تتكرر بعد ولادة الطفل الأول بالتحديد، حيث تشكل هذه النسبة حوالي 75% من الحالات.
أما الأمهات اللواتي يسعدن بمهمتهن الجديدة كأم، فإنهن يجدن أنفسهن فجأة أمام توقعات ضخمة، في أن يكن أمهات كاملات. فكل الفضائل والصفات التي يتوقع للأم أن تتمتع بها بما في ذلك الصبر والسهر وتحمل انتقادات الآخرين (الأخريات صاحبات الخبرة في التربية والتعامل مع الأطفال؟؟!!) لا بد وأن تتصف بها بشكل بديهي. ولكن ما يحدث في الواقع أن كثير من النسوة يشعرن – وبشكل قد يثير فيهن الرعب- بدلاً من هذه المشاعر في أعماقهن بنمو مشاعر الرفض والعدوانية تجاه الطفل في أعماقهن. الأمر الذي يقود لديهن إلى مشاعر الذنب، بسبب غياب الإحساس بذلك الحب العظيم المتوقع تجاه الطفل.
إنها مجموعة كبيرة من العوامل، الجسدية والهرمونية والبيوكيماوية والنفسية والاجتماعية تلك التي تشكل هذه الحالة المعقدة من المشاعر. فما هي بعض هذه العوامل؟



وقت "النفاس" أصبح مقنناً


يتوقع كثير من الناس من المرأة اليوم أن تقف على قدميها بعد أسبوع من الولادة على أبعد تقدير وتعود لممارسة نشاطاتها المعتادة. أما الفترة التي تطلق عليها فترة النفاس والتي كانت تستمر لأربعين يوماً" فلم تعد تولى أية أهمية، وأصبحت مجرد ممارسات لا معنى لها من مخلفات الماضي.
يحتاج العبور الفاعل نحو الأمومة إلى الوقت والدعم. وكثير من المجتمعات، منها مجتمعاتنا الريفية، ما زالت تدلل الأم بعد الولادة، إنها عملية اكتسبتها مجتمعاتنا القديمة بالفطرة والخبرة و جعلت لها طقوساً تتم رعايتها وصيانتها. وهي ليست عديمة المعنى على الإطلاق. وما تمت ممارسته لأجيال عديدة بصورة طبيعية يعاد اكتشافه وتصديره وتسويقه من جديد. ففي هذا الوقت تتم رعاية الأم بشكل "أمومي"، ذلك أنها قد عانت الكثير أثناء الحمل والولادة. ولا بد من الاعتناء بالأم وتدليلها إن صح التعبير، يُطبخ ويُغسل لها وتُطعم…الخ، وعليها طوال اليم ألا تفعل شيئاً سوى الاعتناء بطفلها والتعرف إليه وإلى حاجاته، وتتآلف مع دورها الجديد في الحياة. وفي هذه المجتمعات يندر للمرأة أن تعاني من الاكتئاب بعد الولادة.
غير أن الموقف يختلف كلية في المجتمعات الصناعية والمدن الكبرى. فالولادة تتم في المستشفى، حيث يندفع الجميع بعد الولادة لزيارتها في المستشفى دون أن يتركوا لها مجالاً للراحة والتأمل، ويتم فصل طفلها عنها لفترة زمنية تطول أو تقصر، تتوالى أثناءها الممرضات رعايته، وبعد الخروج من المستشفى يغلب أن تقضي الأم غالبية الوقت لوحدها مع طفلها، في حين يكون الزوج مهتماً بشؤونه الخاصة. فتجد نفسها فجأة وحدها دون خبرة، خائفة وحريصة على حياة رضيعها، تثقل كاهلها مخاوف الفشل، مما يدفعها بسرعة إلى أزمة وحتى اليوم لا يوجد أي جيل من النساء استطاع أن يتغلب على هذه المخاوف وحده. أما في الليل فقلما تجد الهدوء والسكينة، إذ عليها الاستيقاظ مراراً من أجل إرضاع طفلها أو تغيير ثيابه المبللة. ويشكل النوم المتقطع إذا استمر لفترة زمنية طويلة شكلاَ من أشكال التصفية الجسدية والنفسية. فليس من المفاجئ أن الأمهات الشابات يبدأن ضمن هذه الظروف بالشك في أنفسهن و أن يصبحن فاقدات الرغبة ومرهقات وتعبات ومتوترات، ويصبح مزاجهن متقلباً ويعانين من صعوبات في التركيز، والأرق.



تغيرات هورمونية أيضاًَ

بعد الولادة يحدث انخفاض سريع وشديد لهرمون الأستروجين و البروجيستيرون. وهما من الهرمونات التي يتم طرحها بكثرة في أثناء فترة الحمل. والغياب المفاجئ لهذه الهرمونات، وبشكل خاص البروجيسترون الذي يمتلك تأثيراً مضاداً طبيعياً للاكتئاب، يسهم في نشوء الاكتئابات في مرحلة بعد الولادة. ففي الحالة الطبيعية وعندما لا يحدث أي تدخل طبي في مجرى الولادة الطبيعي، يتشكل أثناء الولادة هرمون الحب المسمى (الأوكسيتوتسين)، الذي يلعب دوراً مهماً في نشوء الارتباط الأولي بين الأم ورضيعها. فالإيقاع الحيوي بين الأم والطفل يعمل في هذه الحالة بصورة آلية وبشكل مثالي جداً. ولكن ماذا يحدث إذا تم التدخل اصطناعياً في هذا المجرى؟ المشكلة اليوم تتمثل في أنه قلما توجد ولادة دون استخدام الأدوية أو الآلات أو إعطاء المحرضات الهرمونية الاصطناعية للولادة. فمن أجل تسهيل عملية الولادة يتم اليوم حقن مادة مخدرة في الحبل الشوكي، بل حتى كثير من مستشفيات التوليد تروج لنفسها بأنها تضمن الولادة دون ألم؟؟!!. ومن خلال هذه الحقنة في الحبل الشوكي يتم كبح الإحساس بالألم في النصف الأسفل من الجسد. غير أن هذا الشكل من التدخل الطبي لا يخلو من العواقب، إذ أن قطع مسارات الألم يؤدي إلى عدم قيام الدماغ بإصدار الأوامر المتعلقة بعملية الولادة ومن ثم لا يقوم بتحرير المواد الضرورية للولادة أو لما بعد الولادة. وكلما ازداد التدخل في عملية الولادة سواء في أثناء الولادة أو حتى قبل ذلك في أثناء الحمل، ازدادت المشكلات. وتشير الدراسات إلى أن الولادات الطبيعية التي تتم دون تدخل طبي يندر لها أن تعاني من الاكتئاب بعد الولادة. كما أن مشاعر القيمة الذاتية تكون أشد لدى النسوة اللواتي مررن بتجربة الولادة الطبيعية، اللواتي يشعرن أنهن أنجزن عملاً صعباً ومرهقاً. وتبرهن دراسات أجريت في هذا المجال أن التدخلات الطبية الشديدة كاستخدام الشفط أو الملاقط أو العمليات القيصرية يمكنها أن تسهل حدوث اكتئابات بعد الولادة. كما أن الولادة في المنزل تعد عاملاً مضاداً للاكتئاب. بالإضافة إلى أنه عندما يتم كبح الألم أثناء الولادة فإن طرح الأندروفينات لا يتم بشكل كاف. والأندروفينات هي مضادات الألم الطبيعية وهرمونات السعادة والفرح. وفي دراسة ألمانية على 13 مجموعة من مجموعات المساعدة الذاتية للولادة أشارت المفحوصات إلى أن خبراتهم كانت سيئة مع الأطباء، حيث شعرن أن الأطباء لم يتفهموا حالتهن النفسية. وعندما كن يطرحن الأسئلة على الأطباء كانت الإجابة الغالبة، إن ذلك أمراَ طبيعياً…سوف يزول ذلك قريباً…وتشير أنيتا ريشير روزلر من المعهد المركزي للصحة النفسية في مانهايم بألمانيا إلى أنه قلما يتم تشخيص أعراض اكتئاب ما بعد الولادة بشكل صحيح والانتباه لها من قبل الأطباء، بسبب الخجل ومشاعر الذنب من أن يتم اتهام الأم بالفشل في مشاعرها الأمومية من جهة ، وبسبب قلة الاهتمام من الأطباء بهذه الأعراض
من جهة أخرى. وفي كل الأحوال يتم التأكيد على الوقاية من خلال تعاون أطباء التوليد والمتخصصين النفسيين والأطباء النفسيين. ومن ضمن إجراءات الوقاية دعم الأمومة اجتماعياً ونفسياً، وعدم تحميل المرأة وحدها مسؤولية مشاعرها والتحرر من الفكرة القسرية الملحة، أنه على الأم أن تكون "أماً صالحة" أو "أماً مثالية".