لماذا إذن نعيش صدمة القيم هذه؟

عالم الاجتماع جوي روتشر (Guy rocher) يجيب عن السؤال بكون القيم تحيل على النظام الرمزي (l’ordre symbolique)؛ أي على مجموعة من العناصر التي تدعو إلى الاحترام وتعبر عن الانتماء بشكل شديد، هذا الجواب يعبر عنه تعريفه لمفهوم القيم كالتالي:

القيمة هي وسيلة للعيش أو التصرف يعتبرها شخص ما مثالية، وهي تجعل المساقات التي ترتبط بها محببة ومرغوباً فيها. إن اعتبار القيمة مثالية وموزعة بشكل مثالي بين أفراد مجتمع ما، أمر يوضح بشكل جيد المكونات الاجتماعية الأساسية للعيش المشترك. حسب روشي دائماً: الانتماء إلى قيمة ما لا ينتج بالضرورة عن تفكير عقلاني ومنطقي بقدر ما ينتج عن خليط من الحدوس التلقائية والمباشرة التي يلعب فيه الجانب الوجداني دوراً أساسياً، فالحمولة الوجدانية للقيم تمثل مصدراً مهماً للتحفيز والاستجابة. في هذا السياق، يتحدث كلاودي بكيوت (Claude paquette) عن القيم التفضيلية (les valeurs de préférence) والقيم المرجعية (les valeurs de référence)، ويعني بالأولى تلك التي تقال، فيما الثانية تلك التي تمارس، بالنسبة لبكيوت، فإن رهان المدرس هو تقليص الهوة بين القيم التي تسكن الخطاب، وتلك التي تتمظهر على مستوى الممارسة ... لقد حاول كثير من مجالات العلوم الإنسانية تحديد ما الذي نعنيه بالقيمة، ما يبين بوضوح طابع التعقيد الذي يهيمن على هذا الموضوع ذي الأهمية الخاصة بالنسبة للجنس البشري. وقد أفاد التعاطي مع هذا المفهوم في تحديد مدى فعالية القيم وعزله في توجيه السلوك الإنساني وقيادته على المستويين الفردي والجماعي.

القيم في المؤسسات التربوية وعلاقتها بالتنشئة الاجتماعية

لنبدأ بإزاحة سوء فهم أساسي: المؤسسات التربوية التي نتشبع فيها بالقيم لا ينبغي اختزالها في المدرسة. من خلال التعاريف التي قدمناها لمفهوم القيم، فإن العلاقة تبدو قوية بين القيم والانتماء إلى الثقافة والجماعة. والمكان الأول لتطوير ثقافة الانتماء هذه هو الأسرة وهو أمر معروف ومؤطر في مجتمعاتنا ... كما أن السوسيولوجيا تقدم أجوبة جيدة حول تطوير الانتماء في الإطار التربوي الأسري. حاملو القيم في الفضاء الأسري هم الأبوان والأقارب والعائلة الكبرى، إنهم هم الذين يقدمون التربية الأولى على القيم من خلال مواجهتهم للحياة اليومية، هكذا إذن تتحقق التربية على أساس استدماج مختلف مكونات الحياة اليومية وتعلم اللغة التي تقدم رؤية حول العالم وبنينة السلوكات المنتظرة من قبل الوسط المعيش. هذه السلوكات المكتسبة داخل الوسط الأصلي هي متجذرة، بحيث لا يسمح حتى بالاحتجاج عليها كما يحدث في حالة المراهقة مثلاً. حين يتحدث علماء الاجتماع عن التربية، فإنهم يستخدمون مفهوم التنشئة الاجتماعية (Socialisation)، باعتبارها سيرورة متواصلة تروم إدماج قيم المجتمع وقواعده واستدماجها، هكذا سيرددون أن التربية الأسرية تحدث تنشئة أولية، لهذا فإن الأطفال الصغار يعتقدون أن وسطهم المعيش هو العالم.

إلا أن الأسرة في العصر الحديث لا تشكل المجال الوحيد الذي يطبع بتأثيره تنشئة الأطفال الاجتماعية، فهم ومنذ صغر سنهم في علاقة مع تعددية وسطية يفرضها مثلاً تنوع سياقات الحضانة والأشخاص المكلفين بالإشراف على الأطفال في غياب الأبوين. لهذا، تستخدم السوسيولوجيا لفظ التنشئة الاجتماعية الأولية الجماعية (socialisation primaire plurielle) للتعبير عن هذه المرحلة. هذا التعبير يعني أن بعض مكونات التنشئة الأولية المروجة من قبل الأسرة يتم استدماجها، وأخرى لا تتوفر لها الشروط نفسها، أو أن بعض ما يتشبع به الأطفال في هذه السن منحدر من أوساط أخرى غير وسط الأسرة الضيق. في السياق نفسه، لا ينبغي أن نهمل مختلف الخطابات المروجة من قبل وسائل الإعلام التي تخترق حميمية المنزل الأسري، وإن كان علماء الاجتماع يصنفون تأثيرها في إطار التنشئة الاجتماعية الثانوية (socialisation secondaire)، كما هو الأمر بتلك الناتجة عن الدولة، والمدرسة، والصناعة الثقافية، ووسط الشغل، والتجمعات السياسية والدينية والجمعوية.

إن التنشئة الاجتماعية الأولية تسجل في عموميتها ضمن سياق وجداني خاص محمل بالعواطف، بينما التنشئة الاجتماعية الثانوية المرتبطة بالمدرسة تنفتح على فضاء اجتماعي أكثر عمومية يتجاوز ما ترغب فيه الجماعة الضيقة. هذا النمط من التنشئة لا يكتمل أبداً، فهو يبدأ من سلسلة التعلمات داخل فضاء المدرسة، ويستمر عبر وسط الشغل. وإذا كانت التنشئة الاجتماعية الأولية تنفتح على قيم بعينها خاصة بتصنيف انتمائي معين، فإن التنشئة الثانوية تنفتح على قيم مركزية يتقاسمها مجموع ساكنة معينة.

قيم المدرسة

نقول عن القيم إنها حاضرة بقوة في المدرسة، لكننا لا نحدد بالضبط أين توجد. بإمكاننا أن نعتقد أن شأنها في ذلك شأن القواعد، توفر معالم من أجل التنظيم المدرسي كما هو. فهناك قيم تؤسس للتربية، كأن نقول مثلاً أن المعرفة مرغوب فيها أكثر من الجهل. لكن، وحتى في هذه الحالة، فإن الأجوبة عن سؤال من نربي؟ تختلف باختلاف الزمن. في الوقت الحاضر، نعتبر أن كل فرد هو بحاجة إلى قدر أدنى من المعرفة والتشبع بالقيم من أجل أن يحيا حياة طبيعة مع نفسه ومع الآخرين، تحت هذا المعطى تتأسس الضرورة المدرسية وتتحدد مهمتها (التثقيف، التنشئة، التأهيل...) في إضفاء معنى مشترك على مختلف تدخلات المؤسسات التعليمية، حيث النتائج المرجوة والمنتظرات معلن عنها سلفاً، ومن أجل تحقيقها، فإن الغايات الكبرى منها مدمجة في برامج تكوين المدرسين، كما أن هؤلاء المدرسين يوظفون هذه الغايات نفسها لمساعدة متعلميهم على التطور وفق هذه الغايات التي تثير نقاشات كثيرة ... إن الأفكار السابقة توضح أن هذه البنيات والمسارات ترسل مجموعة كبيرة من القيم التربوية والاجتماعية. ومع ذلك، فبالإمكان النظر إلى الأمر من زاوية مختلفة؛ أي انطلاقاً من الأشخاص الذين يرتادون المدرسة.

بالنسبة للشباب الصغار، فإن مجموعة الأقران لها أهمية كبرى، وعن طريقها يتم اكتساب مجموعة من التعلمات الاجتماعية المرتبطة بمجال قيم الأجيال التي أنتجتها، هكذا يتطور لديهم الإحساس بالانتماء بدرجة كبيرة. من جهة أخرى، فإن للمدرسين دوراً معلناً في العملية التربوية، ومهما كان هذا الدور خاضعاً إلى قوانين التربية العمومية، فإن المدرسين يملكون لا محالة هامشاً موسعاً من القدرة على الحركة والتصرف في اشتغالهم من أجل تحقيق مهامهم. لكنهم ملزمون مع ذلك بالعودة باستمرار إلى غايات التربية وأهدافها بموازاة مع اتخاذ قرارات تهم الوسائل المنتهجة، والتصرف إزاء المواقف غير المنتظرة. بهذا المعنى، فإن قيمهم الشخصية والعملية والاجتماعية دائماً حاضرة.

إن المدرسة بعيدة عن أن تكون معفاة من النقد، فنحن نحاسبها على أنها لم تقم بما يكفي أو قامت بأكثر مما يكفي من هذا الأمر أو ذاك. خلاصة القول، إنها لا تعبر دوماً عن المثاليات التي ننتمي إلى مجالها، وهذا ما يوضح إلى أي حد هي رهان اجتماعي مهم لا يتوقف مدى تأثيره عند جانب التطور المعرفي المهاري. إن إسقاطات ما تحقق وما لم يتحقق ارتباطاً بوظيفة المدرسة، تترك بصمات لا تمحى أبداً.

إن مكانة القيم ووظيفتها في السياق المدرسي توضحان المعنى الحقيقي للمدرسة، والرهان الاجتماعي الذي تخوضه، إنها المكان الذي نتعلم فيه، وبعكس مجال الشغل الذي تعدّنا من أجله، إنها المكان الذي يسمح لنا فيه بارتكاب الأخطاء، ومعرفة الفشل مع القدرة على الانطلاق من جديد ... إن قيم المدرسة ليست فقط نسخة من قيم المجتمع المركزية، فهي كثيراً ما تقترح قيماً عالية ومثالية، فإذا كانت المدرسة ترسخ قيم التعاون والتكافل، فإن المنافسة شرط أساسي من أجل النجاح الاجتماعي، كما أن القيمة الأساسية لمجتمع ما بعد الحداثة هي الفردانية التي تمنح كل الأولوية للأنا في مقابل الآخر. من هنا، نفهم أهمية إدماج مكون التربية على المواطنة في المنظومة التعليمية من أجل تطوير وجودنا الاجتماعي.

محمد فاضل رضوان

باحث فسيولوجي من المغرب

الهوامش



1 دمينيكو ماسكيوترا (Dominico Masciotra) خبير في التربية وباحث بمرصد الإصلاحات في التربية (ORE) في جامعة كيبيك بمونتريال.

2 فرانس جوتراس (France Jutras)، أستاذة البيداغوجيا، كلية علوم التربية، جامعة شربروك – كندا.




بواسطة: غالية نوام
موسوعة التعليم والتدريب
http://www.edutrapedia.illaf.net/ara...ml?id=409&pg=3