ليست هناك معارف ميتة أو جامدة

في البنائية

أن نعرف معناه أن نتموقع على الأقل في ثلاثة مستويات:

الأول يتعلق بالحركة (ما أقوم به في الواقع)، والثاني يتعلق بالفكر (ما أعتقد أني أفعله والفهم الذي أحصل عليه)، أما الثالث فيتعلق بالانعكاس (ما أعتقد به حول أفكاري وفهمي). الحركة والفكر والانعكاس ليست في الترتيب نفسه، لكنها معاً تشكل أهم الأنشطة المعرفية.

لقاء مفتوح مع الباحثة التربوية بريت ميري بارث

من أجل تعليم ينهض على مفاوضة المعنى وبنائه

هذه الورقة هي محاولة تغطية للقاء مفتوح تم بين الباحثة التربوية المعروفة بريت ميري بارث (Britt- Marie Barth) ومجموعة من الفاعلين التربويين من مختلف المفوضيات المدرسية بمدينة مونتريال الكندية، اعتماداً على النص الأصلي للقاء كما نشرته دورية الحياة البيداغوجية (Vie pédagogique) في عددها رقم 143 الخاص بشهري نيسان وأيار 2007. أهمية هذا اللقاء من وجهة نظري، تكمن في أهمية الأسئلة المطروحة فيه وبعدها عن التنظير الأجوف باعتبار صدورها عن فاعلين تربويين يمارسون فعل التعليم والتعلم الميداني، كما أنها قد تكون مفيدة لإدراك بعض من انشغالات المدرسين في منظومة تعليمية تعد من بين أرقى المنظومات في العالم.

في افتتاح اللقاء عبرت الباحثة عن أن الهاجس المحرك لأعمالها وأبحاثها التربوية هو البحث في صيغ التفاعل التي تنتج نقاشات قد تساهم في حل القضايا والإشكالات التي يواجهها المعلمون باستمرار داخل فصولهم. إنها سيرورة مبنية في الآن نفسه على بناء المعرفة وتطوير الشخصية. في هذه السيرورة تتداخل وتتفاعل ثلاثة أبعاد بشكل جدلي: أداتية منهجية يعبر عنها سؤال: كيف نقوم بالأمر؟ إطار تفسيري بيداغوجي يعبر عنه سؤال: لماذا تسير الأمور على النحو التالي؟ اختيار لأسس نظرية بينمنهاجية (interdisciplinaire) من خلال طرح السؤال: وفق ماذا نقوم بالأمر؟ إن الأمر يتعلق بدراسة سيرورة التعليم و التعلم و تعريف مختلف العوامل المؤثرة في سير و عمل هذه السيرورة.

ماذا يعني التعلم؟ ما هو دور المدرس؟ وفق مقاربتنا، تقول بارث: من أجل أن يحصل المتعلم على المعارف الضرورية فهو بحاجة لتعلم آليات التفكير التي تمكنه من بناء معنى المعارف وضبطها، وبالتالي الاستفادة منها. هكذا يكون دور المدرس هو تسليح المتعلم من أجل أن يكون مهيئاً لمشاركة تقوده إلى مستوى معين من الفهم، مع منحه الثقة الكافية من أجل خلق الرغبة لديه للقيام بهذا الأمر. كل هذا يتطلب خلق ثقافة بالمدرسة تضمن تحقيق هذا التحدي. وفي عمق السيرورة التي أقترحها هناك مفاوضة المعنى (négociation du sens)، من أجل أن نفاوض معنى ما ونحاججه ينبغي على المتعلم أن يعرف ويميز بين مختلف المصادر التي تمثل إطاراً مناسبا للقيام بهذا الأمر على نحو جيد. إن المعرفة تبنى باطراد من خلال تجربة المحاججة (argumentation) المصاحبة لمفاوضة المعنى وتثبيته.

السؤال الأول: استخدمت طريقتك في المفهمة (conceptualisation)، ولكني لاحظت أنه من الصعب المحافظة على الانتباه، وبخاصة لدى المتعلمين ذوي الصعوبات، وتحقيق التفاعل الجماعي على امتداد فترة طويلة .. كيف أستطيع أن أبعث الحركة في من هو جامد؟ والانتباه في من هو غير منتبه؟ هل يجب المرور دوماً عبر الاشتغال بالمجموعات؟





مساهمة الجميع في التفاعل أمر مهم للغاية، فهو يؤدي إلى تطوير مدارك كل فرد على حدة، كما يمكّن هذا الأمر في الوقت نفسه المعلم من تكوين فكرة عما يفهمه المتعلمون. إن النشاط الذهني للمتعلم يمر عبر الأنشطة الفكرية للآخرين. فأحياناً، نلاحظ أن متعلماً ما قد انزوى بعيداً عن الآخرين وأصبح قليل الانتباه، لأن البنيات التفاعلية المنتهجة لا تمكن الجميع من المساهمة بالقدر نفسه. وحتى لو حاول، فهو في الكثير من الحالات لا يملك الأدوات اللازمة للقيام بذلك. من جهة أخرى، ينبغي عدم الخلط بين اللاحركة واللاانتباه، فمتعلم ما قد يظهر قليل الحركة، لكنه قد يكون مع ذلك حركياً على المستوى المعرفي، إذ ليست الأنشطة الملاحظة هي ما يجعلنا نفهم المشاركة الذهنية للمتعلمين بشكل منصف، فالمشاركة الفكرية والذهنية تتطلب أيضاً ممارسة فعل الاستماع وهو ما قد يقوم به بشكل جيد متعلم يصنف بأنه لاحركي. من الضروري إذن تنويع أشكال التدخل البيداغوجي وممارسة توزيع المهام والمسؤوليات، حتى نستطيع تعديل البنيات التنظيمية، لكننا نستطيع أيضاً ممارسة الوضعيات الأساسية التي نقترحها على المتعلمين.





حين تعرف قواعد اللعبة، فمن الأفضل ترك المتعلمين يعملون في مجموعات صغيرة، حيث يستطيع كل واحد التعبير. كما يجب أن نعطي الأمر الوقت الذي يستحقه، وترك المكان المناسب لكل التفسيرات، وتنويع خصائص كل مفهوم ومميزاته، والانفتاح على تعريف أكثر تعقيداً ... حين نكون بصدد الاشتغال، فإنه من الأسهل أن نكون حركيين، والحركية تعني أن نبحث مع الآخرين، أن نفكر أكثر ... إن على المدرس أن يضع في رأسه ما هو أساسي وأن يتفادى فعل كل شيء وإعطاء كل شيء في الآن نفسه.





السؤال الثاني: من أجل بناء مفهوم هل هناك من سبيل آخر غير اللغة الشفوية؟





من أجل بناء مفهوم ينبغي دائماً توفر لغة نعبر من خلالها عن المعنى، واحدة من طالباتي مثلاً بصدد القيام ببحث حول الأطفال الصم في إطار رسالتها لنيل الدكتوراه. من أجل ضمان تحقق التجريد لدى هؤلاء الأطفال، ينبغي تزويدهم بلغة تمكنهم من فهم الأفكار والتواصل معها ومن خلالها. قد أعلمنا هوارد غيردنر (Howard Gardner) بضرورة اللغات الرمزية من أجل تمكين أكبر عدد ممكن من الأطفال من الدخول في عالم التجريد (abstraction). أن نجرد معناه أن نختزل واقعاً معقداً في لفظ واحد أو في رمز واحد. حين ينطق الطفل الصغير لفظ "ماما" للمرة الأولى يكون قد دخل في مستوى التجريد. مهما كانت الكلمة، الحركة، الرمز ... فينبغي الحصول على لغة بإمكانها تحقيق فعل التواصل بين الأفراد. بالنسبة للمتعلم، فأن يستطيع الدفاع عن وجهة نظره عن طريق المحاججة، وأن يعبر عما يحس به، هي طريقة فعالة للدخول في محتوى المادة التي يدرسها. أما بالنسبة للمدرس فمن الضروري أن يعرف بشكل دقيق ما يدرسه من أجل النحو بانتباه متعلميه في اتجاه هذا المضمون أو ذاك. إن التعلم هو شيء آخر غير حفظ الأجوبة الجيدة للأسئلة المطروحة، يجب أن نعرف لماذا ... .





السؤال الثالث: هل بالإمكان تطبيق طريقتك على كل المتعلمين حتى الذين لديهم صعوبات أو إعاقات ذهنية؟





إنه سؤال البحث عن المعنى، وهو مهم جداً بالنسبة للمتعلمين ذوي الصعوبات، فعن طريق البحث عن الأمثلة والأمثلة المضادة يستطيع المتعلم إيجاد معنى للفظ الذي يستعمله. إذا لم يجد الكلمات المناسبة علينا مساعدته عن طريق ربطها بوضعيات يعيشها في حياته اليومية، إن الـ "في الآن نفسه" مهم جداً في هذه الحالة، فنحن عادة ما نقوم بالفصل بين اللفظ والمعنى، هذه الطريقة من الممكن تطبيقها في أي مكان ومن طرف أي كان. أن نقوم بالمفهمة (conceptualisation) والتصنيف (catégorisation) أمر معناه أن الألفاظ ستحيل على تمثيلات تختلف باختلاف الأفراد والثقافات. أنا لم أبتكر منهجاً في التفكير، لكني حاولت أن أترجم بطريقة عملية وجيدة ما يقوم به الفلاسفة والمفكرون. هل هذا الأمر قابل للتعلم؟ أعتقد أن الأمر يتعلق بطرق عقلية مكتسبة ثقافياً. من أجل أن نكون مسلحين بشكل جيد ينبغي تعلم طرق التفكير هذه، كما ينبغي أن تكون القدرة على ضبط آليات التفكير، ذلك أننا من خلالها نفكر.





في المدرسة تكمن المشكلة في كوننا لا نقوم بالمفهمة ... على نحو مناسب. كل واحد يضع معنى خلف كل لفظ، كما أننا نتواصل في الأغلب عن طريق ألفاظ، كما أن سوء الفهم بيننا لا ينكشف بسرعة. هكذا نصنع بسهولة مفاهيم خاطئة قد تصبح متداولة بشكل كبير، وبمرور الزمن يصبح من الصعوبة حتى تصحيحها.





البعض يردّ بأن الأطفال ما زالوا صغاراً للقيام بالمفهمة، تنقصهم المفاهيم نفسها، لكن هذه السيرورة هي ما يمنحهم هذه التعابير. إن الكلمات صائبة ما دمنا قادرين على ربطها بما نفعل وكلما بدأنا الاشتغال باكراً حول معاني الألفاظ، فإننا نيسر الدخول إلى اللغة، مع مرور الزمن، فإن الفرد يحتل مكانه ضمن مداركه، خاطئة كانت أم صائبة، فإن هذا يتعلق به وبما يعتقده.





كلما انطلقنا من وضعيات تعلم، فإننا نمكن المتعلمين من تثبيت المعنى الذي يعطونه لألفاظهم وتغييره إذا لزم الأمر ذلك، وبشكل جماعي نقرر مدى صدقية الألفاظ وجودتها حسب المهام المنجزة. لهذا، على المدرس توجيه الأسئلة بشكل جيد، وتقديم الأمثلة والأمثلة المضادة ليتأكد من أن كل المتعلمين يميزون الأهم والأساسي. من أجل هذا، فإن الوضعيات والأمثلة المنوعة تمكن كل فرد من توجيه المعنى كل بحسب وتيرته الشخصية, ويتطلب هذا الأمر الكثير من الصبر وتفادي الغرق في دوامة ما ينبغي فعله. شيئاً فشيئاً نقوم بتنويع الاختلاف عن طريق تقديم الأمثلة المضادة من أجل تفكيك المعلومات الخاطئة. إننا نقوم بمعنى ما بتربية الرؤية من أجل أن يستطيع أي فرد ممارسة حكمه الشخصي ضمن وضعيات مختلفة. بهذا المعنى، يصبح الطفل أكثر انتباها إلى أفكاره ومساراتها والأدوات التي يستخدمها من أجل خلق معانيه؛ أي أنه يتعلم الحكم على الأشياء.





السؤال الرابع: ما الذي ينبغي أن يقود المدرس في اختياره للمفاهيم التي ينبغي شرحها؟





إن ما يقودني في اختيار المفاهيم التي علي بناؤها هو معرفة ما يحتاجه طلبتي من أجل إتمام مهمة ما أو ممارسة مهارة بعينها. إن النقل المبحوث عنه (transfert recherché) هو ما ينبغي أن يقود عمل المدرس على هذا المستوى. عليّ أن أتعلم الاختزال وعدم فعل كل شيء في الآن نفسه، والانتباه للأشياء الأكثر أهمية. إذ إنه علينا أن نحدد سلفاً ما علينا تقاسمه مع متعلمينا. وليس المضمون وحده ما يهم، بل أيضاً الطريقة التي من خلالها يتشكل هذا المضمون في الذهن من أجل أن يشتغل لاحقاً. ينبغي إذن أن نمنح معنى لهذا المضمون من أجل أن يكون مفيداً في وضعيات أخرى. من المهم أن تأخذ المدرسة كل وقتها من أجل تحديد ما هو أساسي لمتابعة التعلم من سنة لأخرى وتفادي مراكمة المحتويات فوق بعضها البعض؛ أي أن تكون لدينا رؤية بعيدة الأمد وإدراك تام لما نروم تحقيقه.


بواسطة: غالية نوام
موسوعة التعليم والتدريب
http://www.edutrapedia.illaf.net/ara...ml?id=409&pg=1