التَّربِيةُ بَينَ المَعرفيّ والقِيَميّ

ترجمة: محمد فاضل رضوان

في سياق انهماكنا بموضوعات التربية، وأسئلة الثقافة والمجتمع، وفي أثناء محاولتنا الاطلاع على تجارب الآخرين ومساءلتهم الدائمة للمعرفة ومدارسها، نقدم هذه المواد الثلاث لخبراء وأساتذة في الجامعات الكندية، جمعها وترجمها الزميل محمد فاضل بحكم تواجده في كندا لغاية استكمال الدراسة، ما يمكّنه من الاطلاع على ما يجري فيها من بحوث ودراسات وتجارب تطبيقية، نرى معه أهمية ترجمتها للغتنا وتقديمها للتربويين الفلسطينيين والعرب، لنوفر أساسات معرفية نعيد على هديها مساءلة معرفتنا والتأمل في ممارساتنا التربوية.





وبحكم انشغالنا بالمعرفة كمعرفة أولاً، إلا أننا نقدمها هنا في سياق أن نعرف أولاً، ولكن نعرف لنسأل ونختبر ونبحث، فما نقدمه في هذا السياق هو مساحة إضافية لتعميق الحوار وتنمية فضاء الممارسة، ولذلك كانت هذه الترجمات متداخلة ومتنامية تبدأ من النظرية البنائية كخلفية معرفية، تبحث في التعلم كنسق بنائي مشروط بمقولات المعايشة والاختبار والحوار بين ما نعرف وما نختبر، ما يؤسس لحوار آخر حول إشكاليات التعليم كبناء للمعنى ومفاوضة دائمة له، لجعل التعلم سيرورة من المحاججة والنماء، ومن هذا الربط بين بناء المعنى ونمو الشخص جاء البحث الأخير عن مكانة القيم ودورها الوظيفي في الفعل التربوي.

النظرية البنائية بمصطلحات بسيطة

دمينيكو ماسكيوترا1

إن الرؤية البنائية كوضعية إبستمولوجية تبين إمكانية أن يطور الشخص ذكاءه ويبني معارفه عن طريق الانخراط في الحركة ونتائجها. في هذه الحالة سيدمج الشخص المعني ويفهم الوضعيات الجديدة من خلال ما كان يعرفه سابقاً، كما يقوم بتعديل معارفه الداخلية من أجل التكيف مع المعارف الجديدة. هذا التكيف مع الوضعيات الجديدة من شأنه توسيع شبكة المعارف الداخلية التي يملكها الشخص وإثراؤها. كما أن النمو المتواصل لشبكة معارفه سيمكنه من معالجة الوضعيات الأكثر تعقيداً.

إن البنائية هي نظرية الـ "أن نعرف" (connaître) الفاعلة والإيجابية أكثر مما هي نظرية المعرفة (la connaissance) السالبة والعدمية، فهي نظرية لا في كيفية المعرفة بشكل عام، بل هي في الكيفية الفاعلة والإيجابية لعملية "أن نعرف"، من منطلق أن الحركة هي ما يقف وراء التطور المعرفي. بهذا المعنى، فإن البنائية تهتم بالمعرفة ضمن الحركة (action) وبفعل الـ "أن نعرف" (connaître).

وعن سؤال: ما معنى أن نعرف؟ فإن البنائية تجيب كالآتي: أن نعرف معناه أن نتكيف مع الجديد، إنها مسألة ذكاء الوضعيات الجديدة، لأن وظيفة الذكاء هي تحقيق التكيف مع هذه الوضعيات الجديدة، فشخص ما يتكيف حين يعيش التجربة الفاعلة والإيجابية لبيئته.

أهمية التجربة الفاعلة

هناك دراسة شهيرة لهايلد وهين أنجزت العام 1958 توضح بشكل جيد الفرق بين التجربة الفاعلة للبيئة والتصور العدمي لهذه الأخيرة. لقد قام الباحثان بوضع مجموعة من القطط الحديثة الولادة في الظلام لأسابيع عدة، بعد ذلك تم إخضاعها لتجربة بصرية في ظروف مراقبة.

تم تقسيم القطط الصغيرة إلى مجموعتين، سمح للأولى بالتحرك بحرية، فقامت بإنجاز التجربة البصرية في البيئة بفعالية كبيرة، بينما تم وضع المجموعة الثانية في عربة ونقلها في الفضاء نفسه، بحيث لم تستطع سوى المشاهدة السلبية لهذا الفضاء. بعد التجربة تمت إعادة المجموعتين إلى الفضاء نفسه، وأجبرتا على التحرك، تصرفت قطط المجموعة الثانية كما لو كانت عمياء، فلم تكن قادرة على التحرك في الفضاء، إذ كانت تصطدم بمختلف الحواجز والعراقيل وتسقط، بعكس المجموعة الأولى التي عبرت الفضاء بسهولة.

حسب فاريلا (1993): "هذه التجربة تعتمد الأطروحة التي تقول إن الإدراك البصري لا يتم بفضل التقاط المعلومة من الوسط الخارجي بقدر ما يتم بفضل القيادة البصرية الذاتية للحركة"، فلأن قطط المجموعة الأولى تحركت في الفضاء بالاعتماد على إدراكها البصري، فقد استطاعت بناء هذا الفضاء وتعلمت كيف تتنقل فيه، أما قطط المجموعة الثانية العدمية فإنها ظلت حبيسة نظرة جامدة لم تساعدها على التنقل في الفضاء.

في هذه التجربة، يمر كل شيء كما لو كنا نطلب من القطط العدمية أن تعرف الوسط الخارجي وأن تلاحظ بصرياً بيئتها وأن تتمثلها، ثم بعد ذلك نطلب منها أن تطبق ما تعلمته في الواقع. الشيء نفسه كان يطبق على الإنسان حين كان يتم تعليمه السباحة أولاً خارج الماء، إذ يتم ربط المتعلم فوق مستوى الماء برباط وعدم السماح له بالنزول إلى الماء إلا بعد أن يُتم بشكل سليم الحركة التقنية المصاحبة للسباحة. في هذه الحالة، يكون فيها هذا المتعلم في حالة مشابهة للقطط المنقولة في العربة.

في بعض التطبيقات البيداغوجية يكون المتعلم بشكل ما عدمياً، ومن نماذج هذه البيداغوجيا العدمية أنه من أجل تدريس التبادلية (la commutativité) في الرياضيات، فإننا نباشر القيام بتمارين روتينية من هذا النوع (3+2=5 إذن 2+3=؟) و (5+4=9 إذن 4+5=؟) ... وهكذا دواليك.

يتم تكرار نماذج من هذه التمارين لفترة من الوقت، بعدها يخبر المدرس المتعلم أن الترتيب الذي تجري في إطاره عملية الجمع لا يلعب أي دور، وأن هذا الأمر يسمى تبادلية الجمع، كما أن الراشدين قد يتعلمون تبادلية الجمع من خلال التعليم المبرمج (انظر الجدول التالي):