ليس جديداً ما يسمعه العديد من الناس من تمرد الاطفال على الذهاب للمدرسة ورفضهم للتعلم أو حتى التمارض وإيثار البقاء في المنزل بعيداً عن الجو المدرسي الصارم وإكراهات المعلم، غير أن أسباب كل ذلك تختلف من طالب لآخر.. تبدأ مظاهر الرفض هذه من الإنطواء على الذات داخل أسوار المدرسة إلى عدم الرغبة في التعلم إلى الصمت الدائم، إلى الخوف المستمر من مصدر مجهول أو وهمي.. أمام كل هذه المظاهر قد يقف الأب مدهوشاً لهذا السلوك لا يدري كيف؟ ولا لماذا؟ ولا ما هي الاسباب؟

واذا كان الإكتئاب كما يقول علم النفس يشمل مظاهر من الحزن والإحساس بالفشل وعدم الرضا، وتوقع العقاب، وكراهية النفس، والبكاء، والإنسحاب الإجتماعي (الإنطواء) واضطرابات النوم، وفقدان الشهية، فإن كل ذلك يعيشه طلاب المدارس من الجنسين في مدارسنا مع إختلاف في أشكال التعبير عنها.. هذا التحقيق يمثل محاولة للوقوف أمام هذه الظاهرة وانعكاساتها على القدرة التحصيلية على الطالب وعلى حياته وسلوكه العام..



قصص من الواقع المدرسي:

يشعر الطفل (علي) ذو السنوات الثمان بالإنطواء وعدم الرغبة في مخالطة زملائه الطلبة، يبدو شارد الذهن، قليل الكلام، ويبدي في الغالب عدم الإستجابة لكلام الآخرين معه وهو ما قلل من فرص احتكاكه بالمعلمين وزملائه الطلبة، الذي أخذوا ينظرون له كحالة خاصة تحتاج رعاية واهتماماً غير عادي.. اتضح ذلك من خلال الجلسات الإرشادية مع الإرشاد الإجتماعي بالمدرسة أنه يعاني من خوف شديد من احتمال قدوم أبيه له لأخذه من المدرسة، حيث أن والديه منفصلان عن بعضهما وثمة خلافات حادة عاشتها الاسرة، وظل الولد يعيش هواجس من الرعب الدائم ما أدى في النهاية إلى أن يرفض القدوم إلى المدرسة لأن فكرة قدوم أبيه له لـ(خطفِه) من المدرسة فكرة ظلت بإستمرار تغزو عقله الصغير وتفسد عليه حياته الهانئة..

أما (لؤي) طالب في المرحلة الاعدادية متميز في دراسته ويحظى بأعلى الدرجات في معظم المواد، قليل الاصدقاء، لا يتكلم اطلاقاً مع أحد ولا يشارك مشاركة شفهية في الفصل، يتفاهم مع معلميه ومن يحيط به بالكتابة فقد ابتلى بما يسمى بـ "الصمت القهري"، واتضح أن أسبابه ترجع إلى أنه عاش حياة قاسية مع والده بعيداً عن الوطن، بعيداً عن حنان الأم، وبعد رجوعه إلى البلد وبعد طول غياب كان يعتقد بفطرة الطفولة البريئة أن والدته ستحتضنه وستضمه بين جناحي أمومتها، إلا أن ما كان ينتظره كان يخالف ما داعب خياله، فقد تفاقمت المشاكل بين والديه ونال من والدته كل صد وجفاء، كانت المشاكل بين والديه فاقت كل الحدود المعقولة لبقاء عش الزوجية بينهما، ولم يكن غريباً أو مستغرباً أن يلجأ أحد أبناء العائلة إلى محاولة الإنتحار والتخلص من الحياة الكئيبة التي تعيشها أسرته، فقد أقدم بحرق نفسه وهي محاولة وقعت أمام نظر الطالب (لؤي).. هذا الجو العائلي الممزق انعكس بشكل مباشر على المظاهر السلوكية لـ (لؤي) فظل بإستمرار وحيداً ومنطوياً على الذات، هادئ الطباع وإن لم تغب ابتسامته الخجول أمام من يحترمه من معلميه.

الطالب (أحمد) فتى نحيف، لديه استعداد لا بأس به للتعلم والفهم والإستيعاب، إلا أن مظاهر التعب والرهبة والإنطواء تبدو واضحة عليه، قليل الكلام ويشعر بالعجز الواضح على مخالطة الآخرين ولا إندماج في الوسط الطلابي بالمدرسة. بعد محاولة الإقتراب من مشكلته من قبل أحد معلميه اتضح أن الطالب كما يقول المعلم يُستغل من قبل ابيه أبشع استغلال ويُحمّل فوق قدرته واستعداده، فأبوه يلزمه بالعمل معه من فترة ما بعد الظهر بالبيع معه أمام إحدى الحدائق العامة ويظل الطفل يغالب سأمه وتعبه وهو جالس تحت »فرشة المبيعات« ويبقى لساعة متأخرة في الليل لينهض في اليوم التالي إلى المدرسة وقد هدّه التعب وأعيته الحيلة..

وتبدو مشكلة الطالب (محمد) مختلفة نوعاً ما، فهو طالب يبدي استعداداً غير عادي لمادة الرياضيات كما يقول معلم المادة، إلا أنه يُفاجأ ذات يوم بعدم قدرته على "القراءة"!!
اتضح ذلك بعدما امره المعلم بقراءة سؤال لإحدى المسائل الرياضية، فتلعثم الطالب وتغيّرت ألوان وجهه، سأله المعلم بعد انتهاء الحصة عن علة صمته وتعلثمه وهو الطالب المتميز، فقال الطالب ذو الأحد عشر عاما: "إنني لا اعرف القراءة بسبب معلم (اللغة العربية) الذي علّمنا يوم أن كنت في السنة الثانية الابتدائية قبل أربع سنوات، فقد كان معلماً شديد القسوة على الطلبة، لم يضربني قط ولكني كنت أخشى دوماً بأن يأتي اليوم الذي أتلقى فيه نصيبي من الضرب والإهانة، كنت أعيش حالة من القلق الشديد، إلى الحد الذي كرهت فيه مادة اللغة العربية وأهملتها طوال هذه السنوات لإحساسي بأنها مادة بغيضة على النفس".

إلا أن الطالب (مصطفى) برزت لديه مشكلة أتعبته نفسيا ومنعت عليه لذته في مخالطة زملائه والمجتمع العام وهو يلج عتبة المراهقة إذ حدثت له تغيّرات كبيرة في درجة خشونة الصوت، جعلت منه يخجل من الحديث أمام الآخرين لإعتقاده بقبح صوته وهو الأمر الذي جعله دائم الصمت منصرفاً عن الإختلاط بالآخرين..

ولا يقل التأثير النفسي لمشكلة (محسن) على آدائه وسلوكه العام وتصرفه في المدرسة فهو دائم الصمت منطوٍ على نفسه، بسبب تجربة اعتداء جنسي عليه حصلت له قبل سنوات وهو ما أشعره بالعار وعدم احترام الذات.



مشكلة تربوية في الأساس:

ويشير رضا (المرشد الاجتماعي) إلى أن مشاكل سوء التكيّف المدرسي تبدو ذات مظاهر متعددة، ولا يمكن اقصارها على الاكتئاب فقط، غير أن المشكلة الاساسية تكمن في غياب دراسات نفسية متخصصة لتحديد حجم المشكلات النفسية التي يعيشها طلبة المدارس، وأشار رضا: المشكلة تتعدى المدرسة لتشمل البيت، فمع الأسف يعتقد كثير من الآباء أن واجبهم تجاه أبنائهم يقتصر على توفير الأحتياجات المادية للأبناء، فيما تعتقد الأمهات أن واجبهم يقتصر فقط على الحرص على نجاح أبنائهم في الدراسة فقط، وهنا تضيع المسؤلية النفسية وتوفير الحاجة إلى الحب والحنان والدفء العاطفي الذي يجب أن يتوافر في البيت لنشوء أسرة ناجحة.

فيما يرى سالم (مدرس) أن المشلكة لا تقتصر على الجو المدرسي بمقدار ما هي مشكلة تتعلق بطرق التربية وإتاحة فرصة إثبات الذات للطفل، وإعطائه الفرصة للثقة بنفسه والحديث في الوسط العائلي وإعداده ليكون شخصية ناجحة في الحياة وقادرة على إمتلاك ناصية الجرأة في الكلام أمام الآخرين، ما يحدث أن الطفل لدينا ينشأ على موانع عديدة وخطوط حمراء كثيرة لا يجب عليه أن يتجاوزها، فهو لا يستطيع وليس له الحق أن يتكلم كثيراً بحضرة الأب، لذا ينشأ أطفالنا وهم مكبوتون وشخصياتهم متلاشية في المجموع، من هنا تجد ان الطفل يخجل من الكلام في حضرة الكبار أو في محفل عام,, بخلاف أطفال بعض الدول العربية والأجنبية الأخرى الذين يُمنحون الفرصة لإثبات ذاتهم ويُشجَعون على الكلام منذ أن كانوا صغاراً,, لذا تجدونهم أطفالاً موهوبون في الغالب وجريئون في الكلام، وتفسيري أن العديد من مشاكل الاكتئاب مردها في المقام الاول إلى عائق إفتقاد جرأته في الكلام عن الطفل وهو ما يجعل الطفل يعيش دائماً حالة من الإنطواء على الذات لأنه لا يحسن الحديث عن مشكلته أولا ولا يملك الجرأة على الكلام حتى مع أبويه ومعلميه أحياناً.



وعي مجتمعي لإحتواء المشاكل:

من جهته يقول الباحث التربوي نادر الملاح: لضمان الحد من مظاهر الانحراف الاجتماعي والتمزق النفسي لابد من الرجوع لمفاهيم النظرية الاسلامية ومحاولة فهمها فهما صحيحاً بعيدا عن تأثير النظريات والافكار الغريبة ومن ثم تطبيق ما ورد فيها من بنود وقائية وعلاجية ناجعة. وللتعامل مع الواقع المعاش بشكل عام، لابد من اجراء مجموعة من الخطوات الفعلية أهمها: تصحيح الاوضاع المعيشية ورفع مستوى دخل الاسرة واعادة النظر في المناهج التربوية التي يتبناها المربون سواء كانوا أبوين او غير ذلك، ومحاولة التخلص من الاساليب غير السليمة، وتعزيز دور الارشاد النفسي والاجتماعي والمهني في المجتمع وتحقيق العدالة الاجتماعية وايجاد المراكز المتخصصة لإعادة تأهيل المنحرفين وتعزيز الوازع الديني والوعي الثقافي من خلال تكثيف الحملات الاعلامية سواء الرسمية او الاهلية لمواجهة أخطار الانحراف السلوكي والنفسي وجذب الشباب من الجنسين للعمل التطوعي لما له آثار ايجابية في مجابهة الانحراف وتقليص حجم البطالة ووضع الضوابط التي تضمن عدم عودتها او تضخمها بما يمكن ان يشكل ظاهرة اجتماعية خطيرة.