تداعيات أزمة الديون الأوروبية ألقت بظلالها بشكل كبير على الأسواق الأوروبية والعالمية (رويترز)
لندن: «الشرق الأوسط»
منذ أقل من 4 أعوام، مع تعرض النظام المالي العالمي لخطر الانهيار، تمكنت البلدان الكبرى من التجمع في مسار منسق أدى إلى تفادي حدوث ركود عالمي. فقد قامت البنوك المركزية بضخ مبالغ نقدية ضخمة داخل النظم الاقتصادية، وتم تقديم برامج إنقاذ مالي للبنوك، مع تعهدات بإخضاعها لضوابط تنظيمية أكثر صرامة.

ومع أوائل عام 2009، كانت الأزمة قد وصلت إلى منتهاها، وبدأت الأسواق المالية في التعافي بقوة. أما النظم الاقتصادية فقد اتبعتها بسرعة أبطأ، وحتى العام الماضي، بدا أن النمو ببطء هو النمط السائد في العالم، مما أحيا الأمل في أن تكون الأزمة قد ولت ومضت.

ولكن في غضون الأسابيع القليلة الماضية، بحسب تحليل للخبير فلويد نوريس نشره في «نيويورك تايمز»، بدا أن قدرا كبيرا من هذا الأمل قد تبدد. ففي أوروبا، اتخذت الأمور مسارا أسوأ، وليس أفضل، وازدادت حدة الخلافات بين زعماء أوروبا، في ظل مؤشرات توحي بأن معظم أجزاء القارة العجوز قد انزلقت إلى حالة ركود جديدة. وفي الصين، يظل النمو قويا بالمعايير الغربية، لكن القلق يتصاعد بشأن احتمال نهاية الانتعاش العقاري الذي كان قد ساهم في حدوثه نشاط الاقتراض والإنفاق الذي كانت تقوم به الحكومات المحلية.

وفي الولايات المتحدة، التي كانت واحة من الهدوء النسبي تشهد تنامي الاقتصاد وزيادة معدلات التوظيف، وصل حجم النمو في الوظائف خلال شهر مايو (أيار) الماضي، الذي تم الإعلان عنه يوم الجمعة الماضي، إلى مستوى متدن بلغ 69 ألف وظيفة جديدة فقط. ومما زاد النظرة المستقبلية تشاؤما تخفيض الأرقام التي كانت معلنة في السابق، ليكون هذا التقرير هو الثالث ضمن سلسلة من التقارير الشهرية المخيبة للأمل.

وبالإضافة إلى ذلك، يبدو أن هناك استعدادا - أو ربما قدرة محدودة - لدى البلدان الكبرى في ما يتعلق بتوحيد الجهود مرة أخرى، حيث ازدادت النزاعات في ما بينها، وما زالت بعض البلدان تعاني من ضائقة مالية، بينما تواجه بلدان أخرى مشكلات داخلية خانقة. وتتعرض البنوك لضغوط كبيرة في كثير من البلدان، وذلك لمجموعة متنوعة من الأسباب، حيث لم تحقق رؤوس أموال بالقدر الذي كان من الممكن أن تحققه حينما كانت الأسواق أكثر نشاطا العام الماضي. وفي بعض الحالات، بدا أنها كانت متباطئة في الاعتراف بالخسائر التي تكبدتها من القروض العقارية.

لكن العامل الأكثر أهمية ربما يكون ضعف الحكومات الوطنية، من جميع الجوانب الممكنة. فلا شك أن بعض البلدان غير قادرة على توفير حزم إنقاذ مالي لبنوكها مرة أخرى، بل أصبح بعضها يعتمد حاليا على تلك البنوك نفسها في الحصول على قروض كي تستمر تلك الحكومات في تسيير أمورها، في وقت صار المستثمرون من القطاع الخاص غير مطمئنين بشأن جدارتها الائتمانية. وقد اقترح رئيس البنك المركزي الأوروبي، ماريو دراغي، الأسبوع الماضي، نوعا من الضوابط التنظيمية الأوروبية المشتركة بخصوص ودائع البنوك وشركات التأمين، ولكن لا يبدو أن هناك إجماعا حول هذه المقترحات.

وقد قام الناخبون الغاضبون بتغيير كل الحكومات الكبرى تقريبا في أوروبا حينما جاء موعد الانتخابات، وكان آخرها في فرنسا، ولم تكن هذه مسألة تيار يساري في مقابل تيار يميني. والزعيم الكبير الوحيد الذي أعيد انتخابه منذ عام 2008 هو المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، غير أن انتخابات الولايات الأخيرة فاز بها حزب المعارضة، كما أن الاقتصاد الألماني نفسه يبدو أنه قد بدأ يفقد قوته.

والوضع الانتخابي الأكثر إثارة للقلق هو ذلك الذي نراه في اليونان، التي يبدو أنها عالقة في ركود دائم وغير قادرة على الالتزام بمطالب التقشف المتشددة التي يريدها شركاؤها الأوروبيون. ومع وصول الانتخابات الوحيدة التي أجريت هناك إلى طريق مسدود بين مجموعة متنوعة من الأحزاب، فسوف تحاول اليونان مرة أخرى يوم 17 يونيو (حزيران). ويخشى الكثيرون من أن تكون النتيجة هي خروج عشوائي لليونان من منطقة اليورو، بينما يرى الآخرون أن هذا قد يؤدي إلى نهاية اليورو تماما.

وبالنسبة للحكومات التي تحتاج إلى اقتراض الأموال، فإما أن يكون هذا هو التوقيت الأفضل وإما أن يكون الأسوأ على الإطلاق، فمن الصعب تصور مدى تدني أسعار الفائدة في ألمانيا والولايات المتحدة، حيث يتراوح العائد على أذون الخزانة الأميركية التي يبلغ أجلها عامين حول ربع في المائة، بينما يبلغ عائد نظيرتها الألمانية واحدا من الألف في المائة. وبهذا السعر، تستطيع الحكومة أن تقترض مليون يورو، وتسدد عليه فائدة تبلغ 100 يورو سنويا. غير أن البلدان الأخرى تعاني من صعوبات في اقتراض الأموال من الأساس، وتسدد أسعار فائدة أعلى بكثير من أجل الحصول على أي أموال يمكنها الحصول عليها. فالأمر ليس أن يرى أحد أن العائدات المتاحة على السندات الحكومية الألمانية والأميركية جذابة، بل إن المستثمرين الخائفين يعتبرون تلك السندات آمنة.

وإذا كان نثر الأموال على المشكلة هو الحل للأزمة المالية الماضية، فإن الكثيرين اليوم يعتبرون أن ذلك هو السبب في المشكلات الراهنة. فقد كانت اليونان تنتهج سياسات إنفاق سارت بها إلى المأزق الذي تعاني منه حاليا، بينما لم تكن تحرص على تحصيل الضرائب المستحقة لها، وكانت تخفي المشكلة عن بقية أوروبا. أما إسبانيا فقد كانت تحقق فوائض في الموازنة، قبل أن تنفجر الفقاعة العقارية الموجودة بها وتترك الحكومة تترنح. ومع ذلك، فإن كل البلدان المتعثرة تتلقى نصائح - في الغالب من ألمانيا - بأن تلتزم بسياسة تقشف قاسية. وفي ظل وجود عملة مشتركة، فمن الصعب معرفة كيف تستطيع بعض البلدان أن تعود إلى التنافسية على المستوى الدولي.

وفي الولايات المتحدة، لم تؤد سهولة الاقتراض إلى أن تصبح زيادة وتيرة الإنفاق أسهل سياسيا، بل صارت هناك، بدلا من ذلك، احتمالية حدوث «كارثة ضريبية»، بمعنى أن يؤدي عدم استعداد الساسة للارتضاء بحلول وسط إلى مزيج من التخفيضات الكبيرة التلقائية في الإنفاق وزيادات مقابلة في الضرائب في عام 2013، مما قد يدمر النمو الاقتصادي تماما. وكل هذا يحدث وسط حملة انتخابية يتوقع لها الكثيرون أن تكون الأكثر خطورة وتعقيدا على الإطلاق.

وعلاوة على ذلك، فقد تبخر الإجماع الذي كان موجودا على ضرورة تعزيز الضوابط التنظيمية المالية وتوحيدها. ففي أوروبا والولايات المتحدة، تقول البنوك إن المؤسسات الأخرى عبر المحيط الأطلسي تتمتع بمزايا غير عادلة، كما تشكو الجهات التنظيمية من أن القارة الأخرى لم تتخذ الخطوات المطلوبة.

وفي الولايات المتحدة، فربما تكون الضغوط القوية التي تمارسها البنوك من أجل تخفيف القواعد التنظيمية قد تأثرت كثيرا بخسائر التداول التي تكبدها بنك «جي بي مورغان تشيس» والتي تجاوزت مليارات الدولارات أو ربما لا، لكن الكثيرين في الكونغرس، وبشكل أساسي من الجمهوريين، عادوا إلى الاعتقاد القديم بأن إفراط الحكومة في فرض الضوابط التنظيمية هو ما خلق هذه المشكلة.

ومن الممكن أن ينقشع هذا التشاؤم المتفشي بنفس السرعة التي تراكم بها، حيث سيكون هناك أثر إيجابي في حالة ظهور بعض الأنباء الاقتصادية الجيدة بشكل مفاجئ في الولايات المتحدة والصين. والشيء الأكثر أهمية هو أن يتوصل زعماء أوروبا إلى اتفاق على برنامج عمل يبعث على الأمل في حدوث تعاف في أشد المناطق تضررا داخل القارة، مع ضمان حصول النظام المالي المشترك على دعم المؤسسات المشتركة عند اللزوم. وقد سبق أن تمكنت أوروبا من التجمع على موقف واحد حينما كانت الكارثة تلوح في الأفق، وربما يكون في استطاعتها أن تفعل ذلك مرة أخرى. فمن الممكن أن تقرر ألمانيا - البلد الذي عليه أن يتحمل القدر الأكبر من فاتورة إنقاذ جيرانه - أن عدم إنفاق الأموال قد خلق مزيدا من المخاطر. ومن الممكن أن تعثر الولايات المتحدة على سبل لتقديم المساعدة، رغم الضغوط المالية ورغم معارضة الكونغرس للمساعدات الأجنبية. ومن الممكن أن يظهر إجماع جديد على فرض ضوابط تنظيمية مصرفية مشتركة. ولكن في الوقت الراهن على الأقل، تبدو النظرة المستقبلية أكثر تشاؤما مما كانت عليه قبل شهرين فقط.