الأمراض النفسية تجتاح العالم وتوقع في شراكها أقوى العقول عبقرية وذكاء، فما بالك إذا أصابت عقول أطفالنا الصغيرة، فدمرتها وحولتها عقولاً سقيمة ونفوساً عليلة؟

وعبء المرض النفسي غالباً ما يقع على الأمّ التي تتحمل بصبر علاج طفل لها سقط بين فكي المرض بدون إنذار، فنجدها في المستشفيات والمصحات والعيادات، تجلس مهمومة وحزينة وتبدو أنَّها هي المريضة من قسوة المرض الذي أصاب صغيرها، وتحكي وتبكي قائلة : "أصاب ابني الصرع الذي اغتال طفولته ويهدد في كل لحظة حياته، فهو فجأة يسقط جثة هامدة في أي مكان وأي طريق". وتكمل أخرى جزءاً من القضية فتقول : "كان ابني "زي الفل" حتى أصابته كهرباء زيادة في المخ نتج عنها إفراط في الحركة، ومن يومها وحياتنا انقلبت رأساً على عقب! فطفلي الذي ربيته سنوات وسنوات يبدو أصغر من سنه بمراحل، ويتصرف على هذا الأساس.


وثالثة تضيف في القصة المأساوية : "ابني أصبح يمشي وهو نائم، ويعمل أشياء لا يدري عنها شيئاً عند الاستيقاظ، ويكذب ويصرخ ويهرب من البيت ومن المدرسة، وأصبح عنيفاً يضرب كل إخوانه حتى الأكبر منه، ويعتاد اللعب بالكبريت والنار، وأنا على الدوام قلقة عليه، فقد يتغيب باليوم واليومين، وأبحث عنه في الشوارع وفي البيوت، وعندما يعود كأن شيئا لم يحدث!".


الدكتورة "هبة عيسوي" ـ أستاذ الطب النفسي والأعصاب بكلية طب عين شمس بالقاهرة ـ تشير إلى أنَّ الأمّ أحسن من تعرف مرض طفلها ومشاكله النفسية؛ لأنَّها وثيقة الصلة به، فهي تعرف كل طباعه وخصائصه وسلوكه في كل موقف يتعرض له، فهي تعرف الاختلاف الذي حدث في سلوكه ما قبل حدث معين وما بعده ، فقد كان عصبياً ثم أصبح هادئاً، أو كان متميزاً في الدراسة ثم أصبح ضعيفاً أو كان خجولاً، وأصبح كثير الكلام، أو كان متوسط الحركة وأصبح مفرط الحركة، أو كان يري "فيلم الكارتون" حتى نهايته فأصبح يتململ!



فأي تغير يطرأ علي سلوك الطفل يجب أن يضيء علامة حمراء (وقد تكون أعراضاً لا تؤدي إلى مرض) ولكن مادام هناك اختلاف فهذا يعني وجود خلل ما أو علامة استفهام يجب أن نتوقف عندها؟
وإذا لاحظت الأم التغير دون أن تعطي الاهتمام، وتحاول أن تعطي لنفسها حلولاً.. فمن هنا يكمن الخطر.


ولكن عندما تتلازم مجموعة من الأعراض (عصبي ومندفع وتركيزه ضعيف، لا يستوعب...) ففي هذا الوقت فقط لابد أن تبدأ في زيارة طبيب الأطفال، الذي عادة لا يعير المرض النفسي الاهتمام اللازم، ويشخص المرض على أنَّه عضوي، ويأخذ العلاج فترة فيكون فيها المرض النفسي قد تزايد، وتبدأ المدرسة تشتكي أنَّ سلوكه قد تغير، وفي هذه الحالة تلجأ الأمّ الى الطب النفسي.
والطريقة الصحية لفحص الأطفال هي تجنب المباشرة في علاج الطفل، فهو ليس محورا منفرداً، فهناك البيت والمدرسة والعلاقات الاجتماعية.


48% من تلاميذ المدارس يعانون الاكتئاب، و8% منهم لديهم أفكار انتحارية!

فالأم تحكي تاريخ مرض الطفل، وهو في حجرة للعب بها مختلف الألعاب، ومعه اختصاصي اجتماعي يلاحظه ويلاعبه، والغرض إطلاق العنان للطفل؛ لأن الأساس مراقبة تصرفاته وسلوكه أثناء اللعب، ومن ثمَّ نقوم بقياس الحالة المزاجية والحالة القلقية والقدرة على الانتباه والإفراط الحركي، وقياس المخاوف، واختبار الذكاء، وقد يستدعي الأمر أن نذهب للطفل في مدرسته لمراقبته عن بعد، ونأخذ تقارير من مدرسيه عن سلوكه ومزاجه وعلاقاته الاجتماعية، وما إذا كان له سلوك حركي الى جانب معرفة مستواه الدراسي، وفي البيت يمكن مراقبته من جانبٍ ولمدة ساعتين؛ لمعرفة كيف يتصرف ؟ وبعد ذلك نحضر الأمّ والأب ونشرح لهما المرض الذي أصاب طفلهما، وكيفية التعامل معه؟

أمَّا بالنسبة للعلاج، فهناك نوعان من العلاج، وهما: إمَّا علاج نفسي من أجل تعديل السلوك.. أو علاج كيميائي متخصص لطب نفس الأطفال وننوِّه إلى أنَّ كثيراً ما يخاف الناس من إعطاء الأدوية للأطفال فتتفاقم الحالة فتصبح أشد..
الأبحاث العلمية تشير إلى تفشي الأمراض النفسية بين الأطفال، وهناك بحثٌ لأطفال المدارس في المرحلة الابتدائية أظهرت نتائجه أن (48%) من أطفال المدارس يعانـون الاكتئاب، و8% منهم لديـهم أفكـار انتحاريـة، و8% لديـهم قلـق وتوتـر، وأن (9% من 9-11) سنة لديهم إفراط في الحركة.


فالمرض النفسي ما هو إلاّ اختلال في المواد الكيمائية المفرزة في المخ مما يؤدي الى أمراض نفسية.
أما الدكتور "سعيد عبد العظيم" ـ أستاذ الطب النفسي في كلية طب القصر العيني ـ فيشير إلى أنَّ المرض النفسي عند الأطفال يختلف عنه لدى الكبار، فهو يأخذ شكلاً تعبيرياً وسلوكياً وحركياً، فيبدو أنَّه مكتئب، وجسمه مرهق، وبطنه تؤلمه، وعنده قيء، وينقلب في سلوكه، ويصبح قلقاً وعنيفاً، ويضرب ويشتم ويسرق ويكذب، ويتدهور مستوى تحصيله الدراسي، وقد يأخذ أشكالا أخرى منها: التبول اللاإرادى.. ويقضم أظفاره، ويمص أصابعه، ويشد شعر رأسه، وقد تأتي له نوبات صرع، أو يمشي أثناء النوم، وتنتابه الكوابيس المرعبة والاحلام المزعجة، أو قد يفقد شهيته للأكل، ويبدأ وزنه يقل، أو قد يصبح نهماً ويأكل كثيراً، وعلى الأم أن تتعرف على مشكلة طفلها وتنقلها للطبيب بدقة ..

وفي الغالب لا تكون مشكلة الطفل وحده، ولكن هناك مشكلة للأسرة كلها، فمثلاً هذا الطفل أعقبه طفل ثان، ومن الغيرة حدثت له انتكاسات، فيبدأ: يحبو، ويتبول على نفسه، ويُتَأْتِئُ مثل الرضيع، فالطفل ترمومتر لما يدور حوله، وقد يؤدي المرض النفسي إلى عيوب أخرى، فلا يستطيع الطفل القراءة أو الكتابة أو الحفظ، على الرغم من وجود قدر من الذكاء لديه، ولكنه يجد صعوبة كبيرة في كلِّ ذلك، وهذه مشكلة تواجه عدداً كبيراً من الأطفال، ولا أحد يدري عنها شيئاً، ويُتهم هؤلاء الأطفال الأبرياء بأنَّ فيهم (بلادة) ! وأنهم يحتاجون إلى مدارس ومدرسين متخصصين.



وهناك فئة كبيرة من الأطفال ـ تصل نسبتهم إلى حوالى 1,% من الأطفال عندنا ـ لديهم ضعف ذكاءٍ متدرج، يراوح ما بين 7, % إلى صفر. ومعظم التخلف العقلي أسبابه عضوية، وهي تكون إما لزيادة الهرمونات والأنزيمات أو نقصها، وإذا تم تشخيص هذه الحالات بعد الولادة مباشرة يمكن علاجها بسهولة إن شاء الله، والحد من تفاقمها، والطفل عادة ما يولد طبيعياً ثم يتحول.
والقسوة على الأطفال جسدياً أو الاعتداء عليهم جنسياً، تسبب لهم اضطرابات نفسية جسيمة؛ فالطفل الذي يؤذي بدنياً ونفسياً يشعر بالعجز وعدم القدرة على قهر الظلم. وهذا الطفل عندما يكبر سوف يكون عدوانياً وعنيفاً وغير متسامح ومحباً للأخذ بالثأر، الأمر الذي يوجد لديه حالة من البؤس واليأس وعدم الانتماء .


ومن أهم الأمراض التي تصيب الأطفال: الصرع، وقد لا يأخذ شكل التشنجات، ولكن تأتي نوبة الصرع في ثوان، فيفقد الطفل معها الانتباه مع المدرس، ويسرح ولا يركز فيعتبر مهملاً، ويضرب دون ذنب اقترفه. إنَّه مريض لا يعلم أحد شيئاً عن مرضه، وللأسف فإن بعض الأطباء الممارسين والعاديين ليس لديهم وعي بالأمراض النفسية.
وتقول الدكتورة "غادة عبد الرازق" ـ وهي مدرسة مسـاعدة للطب النفسي بطب عين شمس ـ: إنَّ معظم الحالات التي تتردد عليها تعاني سلس البول وتشنجات الصرع والفصام والاكتئاب والإعاقة الذهنية، والاضطرابات الشخصية، وإنَّ معدل تردد الأطفال وأهاليهم في ازدياد، وبخاصة في إجازة نهاية العام حيث يحاولون الانتظام في العلاج .

أما الدكتورة "شيرين محمد" ـ نائبة في قسم الطب النفسي بمستشفى قصر العيني ـ فتقول: إنَّ معظم من يتردد على العيادة يعانون التخلف العقلي، الذي يكتشفه الأهل عند دخوله الحضانة أو المدرسة، أو التبول اللارادي، أو زيادة النشاط الحركي مع نقص الذكاء، وكل هؤلاء يجب أن يعملوا رسم مخ لقياس ذكائهم قبل وصف العلاج.. وللعلم فإنَّ معظم هذه الأمراض ناجمة عن المشاكل الأسرية (طلاق وزواج وانفصال) أو عوامل وراثية.