الصوم.. فرصة للإقلاع عن التدخين



يأتي رمضان كعادته كل عام، وفيه نتوقف عن الطعام والشراب، منذ الفجر وحتى موعد الإفطار، ساعات طوالاً، يبتعد فيها المدخن عن تدخين السيجارة، ولكن ما إن يأتي موعد الإفطار إلا وتكون الأخيرة في وضع الإستعداد للإشتعال بين أصابعه، حتى قبل تناول الطعام. من هنا، فإنّ السؤال الذي يطرح نفسه هو التالي: إذا كان المدخن إستطاع أن يتوقف عن التدخين لمدة 16 ساعة تقريباً، أليس هو بقادر على الإمساك عنه حتى ساعات الفجر، والإقلاع تماماً عن هذه الآفة المدمرة التي مات بسببها ما يقارب 100 مليون شخص خلال القرن الماضي؟ التفاصيل في السطور الآتية.
- حياة جديدة:


تعدى محمد منقذ الحاج حامد (موظف) الستين من العمر، ويدخن السجائر والشيشة منذ منذ 43 عاماً. وفي شهر رمضان الماضي، كان قراره بالإقلاع عن التدخين نهائياً، فقد ودع التدخين إلى غير رجعة، ومنه نعرف الحكاية. يتحدث محمد عن اللحظة الفارقة في حياته، والتي تزامنت مع شهر رمضان الماضي، حيث ذهب إلى إحدى العيادات ومع الدكتور إبراهيم جابر، كانت خارطة الطريق التي انتهت بإقلاعه عن التدخين. وعن هذه اللحظة يقول محمد: "أمضيت 43 عاماً من عمري وأنا أدخن السجائر والشيشة، كنت أدخن ما بين 3 و4 علب سجائر يومياً، أي 60 أو 80 سيجارة تقريباً في اليوم الواحد، إضافة إلى الشيشة، كنت أمسك السجارة بيد والشيشة باليد الأخرى، واستمرت حالي على هذا المنوال حتى اقتربت من الستين من العمر وبدأت صحتي في التراجع، فقررت الاقلابالشارقة في رمضان 2010،

وبعد جلسات عدة مع المتخصصين، كان قراري بالتوقف عن التدخين، وكان شهر رمضان فرصة جيِّدة لإتخاذ القرار". أشياء كثيرة تغيّرت في حياة محمد منقذ، الذي يقول: "كل شيء في حياتي تغير تقريباً، النوم، راحة النفس، رائحة الفم والجسد". ويضيف: "بتّ أشعر وكأني إنسان آخر وما زلت غير مصدق لما حدث، كما أني ما عدت أستطيع الجلوس إلى جوار المدخنين الآن، لدرجة أني كدت أترك المكان الذي أصلي فيه بسبب وقوف شخص مدخن إلى جواري، لم أستطع تحمل رائحته الكريهة". ويشير إلى أنّ "هذا الموقف جعلني أسأل نفسي في تلك اللحظة، عما إذا كنت أسبب الإزعاج للآخرين إلى هذه الدرجة؟". ويقول: "الله يسامحني على ما كنت أسببه للآخرين من إزعاج وروائح كريهة". ويتابع: "ثمّة فرق كبير بين الأمس واليوم، فرائحة سيارتي ورائحة ملابسي وغرفة نومي، وكل متعلقاتي أصبحت رائحة جميلة ومحببة للنفس بعد أن كانت مليئة بالروائح الكريهة".


- السفر في الإرادة:


ويضع محمد منقذ عامل الإرادة "كعامل أساسي في جعل المدخن يتخذ قراره بالتوقف عن التدخين"، موضحاً أن "كل مدخن يرغب في التوقف عن التدخين يستطيع أن يفعل ذلك لو كانت لديه الإرادة القوية". ويلفت إلى أن "من يصل إلى هذه المرحلة عليه ألا يفكر نهائياً في الإقتراب من السيجارة مرّة ثانية". مزايا كثيرة تحققت لمحمد بعد أن أقلع عن التدخين، منها: العامل المادي، حيث يقول: "كنت أدخن 4 علب سجائر يومياً، أي أنني أستهلك سجائر فقط بنحو 24 درهماً في اليوم الواحد، هذا عدا عن الشيشة". ويدعو محمد منقذ المدخنين إلى التوقف عن التدخين وانتهاز فرصة شهر رمضان، مذكراً إياهم بأنّ "المشكلة تكمن في أوّل يوم فقط".

ويضيف: "أخي المدخن، لو اتخذت القرار بالإبتعاد عن السيجارة واستطعت التغلب على الفترة الأولى، فلن تعود إليها مرّة ثانية"، مشدداً على "أهمية الإبتعاد عن أصدقاء الماضي الذين يدخنون". ويقول: "لي صديق أعتبره من أقرب الناس إليّ ويسكن إلى جواري منذ عشرات السنين، ولكنه يدخن، فكان قراري بعدم الجلوس معه. وحالياً، نحن نتواصل فقط، لكن جلسات الأمس لم تعد صالحة لليوم". ويختم ضاحكاً: "ألم أقل لكم إني أعيش الآن حياة جديدة؟".

- محاولة فاشلة:
على الرغم من نجاح محمد منقذ في الإقلاع عن التدخين بعد 43 عاماً، إلا أنّ المستشار القانوني الدكتور عبدالرحمن الصادق، الذي يدخن 4 علب سجائر يومياً منذ 40 عاماً، يعترف بأنّه حاول في رمضان الماضي الإقلاع عن التدخين، ولكنه فشل، وهو يرجع سبب الفشل إلى "عدم وجود الإرادة الكافية". ويقول: "لقد عقدت العزم على أن يكون رمضان الماضي هو بداية إقلاعي عن التدخين. وبالفعل، بدأت مع اليوم الأوّل من رمضان، وبعد مرور ساعة على الإفطار لم أمسك خلالها السيجارة بيدي، وجدت نفسي في حالة فرح لا توصف،

ومع مرور ساعتين زادت حالة الفرح، ومع دخول الساعة الثالثة لم أتمالك نفسي من الفرح، وما بين ساعة وأخرى كنت أخبر زوجتي وأبنائي بمرور ساعة على إبتعادي عن السيجارة، ومع تكرار ذلك، شعرت زوجتي بأن حالتي وأنا أدخن أفضل كثيراً من التوقف، فصرخت بأعلى صوتها: "السيجارة بجوارك تناول واحدة وأشعلها، لأن ذلك سيكون أفضل من الجلوس وإحتساب الساعات، وهذا ما كان، حيث أشعلت السيجارة بعد العاشرة مساء ولم أتوقف حتى اليوم، ويبدو أن محاولاتي كلها ستفشل مهما فعلت".
- الإرادة القوية:
تقدر "منظمة الصحة العالمية" أن "من بين كل 4 مدخنين يرغب 3 في الإقلاع عن التدخين". وقد تبين أنّ الدعم الذي يوفره الطبيب يلعب دوراً محورياً في مساعدة المرضى على إتّخاذ قرار الإلتزام بالتوقف عن التدخين، وما هو يؤدي إلى تحسين فرصة الإقلاع. وبحسب "منظمة الصحة العالمية" "تبين الدراسات أنّ النصائح القصيرة التي يقدمها المتخصصون في الرعاية الصحية، من الممكن أن تضاعف نسبة الأشخاص الراغبين في الإقلاع عن التدخين إلى 30%".

- البيئة الراعية:
ويشدد الدكتور جابر على "دور البيئة المحيطة بالشخص الذي اتّخذ قراراً بالإقلاع عن التدخين"، لافتاً إلى أنّه "حتى يحافظ على الإنجاز الذي نجح في تحقيقه، ولضمان عدم حدوث إنتكاسة، على أهل بيته التحلي بالصبر وأن يعوا ضرورة أن يشكلوا بيئة داعمة له، حيث إن صوت الولاعة عند المدخنين هو بمثابة نوع من الإدمان، كما أن موقع علبة السجائر في جيبه هو أيضاً نوع من الإدمان". ويؤكد أن "من المهم كذلك جلوس المدخن مع أصدقاء غير مدخنين، وأن يبتعد عن أصدقائه المدخنين، حتى لا يعود إلى التدخين مرّة أخرى، فدور البيئة الراعية مهم جداً لإستمرار الإقلاع عن التدخين".

- دور الأسرة:
أهمية البيئة الداعمة ودور الأسرة، يؤكده أيضاً الدكتور محمد إبراهيم الدسوقي، أخصائي قسم برامج خدمات صحة المجتمع، حيث يشير إلى أنّ "دور الأسرة مهم جداً، وعلى الأشخاص المحيطين بالمدخن التعاون معه في مرحلة التوقف وتقبل تصرفاته، حيث إنّ مزاجه يتغير في الأسابيع الأولى، فيثور بسرعة ويحاول إيجاد وسيلة أو مبرر للرجوع إلى التدخين بشكل تلقائي". ويضيف: "عليهم تحمله حتى تنتهي فترة الإنسحاب والتي تتراوح ما بين أيام وأسابيع،

ولا تزيد على بضعة أسابيع، فتعاون البيئة المحيطة ودعمها لهما دور مهم جدّاً، بينما ردود الأفعال الغاضبة من الأشخاص المحيطين بالمدخن، من الممكن أن تكون ذريعة له للعودة مرّة أخرى إلى التدخين"، لافتاً إلى أنّ "الأسرة تشارك الطبيب في عملية العلاج، بينما الأدوية تساعده على تجاوز فترة الإنسحاب فقط، حتى يتهيأ نفسياً لتقبل الواقع الجديد وهو ممارسة كل أنماط حياته بشكل مختلف تماماً عن فترة ما قبل الإقلاع عن التدخين".


ويحذر الدكتور الدسوقي بعض المدخنين، الذين يحاولون مرّة ومرّات ويفشلون، وينصح هؤلاء بالعودة إلى العيادة مرّة أخرى لمراجعة الطبيب المختص والإفادة من مشورته، والذي قد يقترح وسائل أخرى تساعد على الإقلاع عن التدخين، فالمرء في كل الأحوال، حتى وإن توقف لفترة محدودة، يكون قد كسب بعض الوقت الذي ابتعد فيه عن السيجارة وما تسببه من أمراض، وجرب الحياة من دون دخان".
- رمضان فرصة:


ويؤكد د. الدسوقي "إمكان التوقف عن التدخين في شهر رمضان المبارك"، موضحاً أنّه "في رمضان يتوقف المدخن عن التدخين منذ أذان الفجر وحتى أذان المغرب، وهو ما نحاول أن نفهمه للمدخنين الذين يرغبون في التوقف عن التدخين في رمضان، فإن كان المرء يستطيع الإبتعاد عن السيجارة، والعادات اليومية المرتبطة بالتدخين، فلا شك في أنّه قادر على المضي قدماً في ذلك بعد إنتهاء شهر رمضان". ويشدد الدكتور الدسوقي على "أهمية كسر العادات التي تعود عليها المدخن في الأيام الأولى من رمضان، فهو لا يدخن مع الشاي أو القهوة أو عند قراءة الجريدة،

أو عند مشاهدة مسلسل أو فيلم، وهنا تصبح السيجارة منعزلة إنعزالاً تاماً عن كلّ الأنشطة التي يقوم بها المدخن". ويواصل الدكتور الوسوقي حديثه قائلاً: "إنّ السيجارة نوع من الإدمان، إدمان إجتماعي، حيث يتعود المدخن على التدخين في المناسبات العامة كنوع من الوجاهة، وهناك أيضاً الإدمان الفيزيائي، حيث يعتمد الشخص على النيكوتين في نشاطه وحيويته ولا يركز إلا بعد تناوله السيجارة، في حين أنّ الإدمان السلوكي مرتبط بسلوك الشخص بأحداث معيّنة كحالة الفرح أو الغضب. إلا أن أخطرها جميعاً هو الإدمان الفيزيائي، لأن درجة النيكوتين في الجسم تكون مرتفعة، فهو يصحو من النوم ويده على علبة السجائر مباشرة".

- عزيمة:


تعتبر رئيسة قسم برامج خدمات صحة المجتمع الدكتورة حنان عبيد، أن "وجود العزيمة شيء ضروري ليستطيع المدخن أن يتخذ من رمضان فرصة جيِّدة لكي يبتعد عن السيجارة وعن التدخين بكل أشكاله لفترة طويلة جدّاً، ما يساعده على التوقف تماماً عنها. فبعد أن كان قد تعود عليها صباح كل يوم، هاهو يبتعد عنها لفترة قد تتجاوز 14 ساعة". وتقول: "دورنا في الرعاية الصحية الأولية هو دعم هؤلاء الذين يرغبون في التوقف عن التدخين". وتضيف: "من أجل هذا، نقوم بعمل حملات توعية في المدارس والهيئات الحكومية، إضافة إلى المشاركة في المعارض والتجمعات العائلية، ومن يرغب في التوقف عن التدخين نقدم له خدمة إستشارية من خلال الدعم النفسي وتعريف المريض بأفضل الطرق التي يرغب في اتباعها للإقلاع عن

التدخين".

- تاريخ للتوقف:


ويبدو أن تحديد تاريخ للتوقف عن التدخين، هو بمثابة نقطة مركزية في حياة المدخن تشدد عليها الدكتورة حنان، التي تشير إلى أن "على المدخن أن يحدد من الآن مثلاً أنّه سيتوقف عن التدخين في شهر رمضان، وأن يخبر أهله وأصدقاءه والمحيطين به بقراره، وأن يخفي أو يستغني عن كل الأشياء التي تذكره بالتدخين، ولا بأس إذا حاول وفشل، فمن الممكن أن يلجأ إلى عيادات الإقلاع عن التدخين لطلب المشورة والمساعدة، والعلاج يكون عن طريق الدعم النفسي بداية". وتضيف: "إذا كان الشخص غير قادر على تخطي هذه المرحلة، يلجأ هنا إلى الدعم الدوائي، ويكون ذلك عن طريق لصقات النيكوتين وأدوية أخرى".



- حقائق:
من ناحيته، يقول إستشاري الأمراض الصدرية والمتخصص في عيادة التدخين في دبي، الدكتور باسل السفاريني: "إنّ شهر رمضان هو بداية مناسبة للمدخن إذا قرر التوقف عن التدخين، فساعات الصيام فرصة جيِّدة له لكي يبتعد عن السيجارة تماماً". ويضيف: "توجد أدوية مساعدة خاصة في مرحلة ظهور الأعراض الإنسحابية للتدخين، والتي تختفي مع تناول هذه الأدوية الحديثة، حتى لا تنتابه التوترات والتشنجات ونقص النوم والعصبية المفرطة، مع أهمية جلوس المدخن لمدة ساعة مع الطبيب النفسي والطبيب المتخصص في العلاج، لتوضيح الحقائق العلمية المرتبطة بالتدخين بالكلمة والصورة، وذلك حتى يقتنع تماماً بالمخاطر التي تسببها السيجارة".


ويركز الدكتور السفاريني على "أهمية توضيح مجموعة من الحقائق عن التدخين للأشخاص المدخنين، منها أن تدخين 20 سيجارة في اليوم يجعل المدخن عرضة للإصابة بسرطان القصبة الهوائية والرئة 20 ضعف الشخص غير المدخن، كما أنّه معرض للإصابة بجلطات القلب والدماغ 15 ضعف الأشخاص الآخرين، كما أن ثلث أمراض السرطان التي تصيب الجسم، بما فيها سرطان الدم والبنكرياس والغدة الدرقية، لها علاقة مباشرة بالتدخين، وأنّ السيجارة الواحدة تقصّر من عمر الإنسان نحو 8 دقائق. أي أن مَن يدخن 20 سيجارة في اليوم من المنتظر أن ينخفض عمره 14 عاماً مقارنة بالآخرين، وأن كل نفس يستنشقه المدخن يدخل من خلاله إلى جسمه 4 آلاف مادة كيماوية منها 400 مادة سرطانية". ويضيف: "الشيشة لا تقل خطورة عن ذلك، حيث إنّ حجر الشيشة يعادل علبة سجائر، كما أنّ الشيشة بنكهة الفواكه، كالمانجو والتفاح وغيرهما، تحتوي على مواد مسرطنة أكثر من الشيشة العادية".


- مبررات وهمية:
وتعليقاً على ما يردده بعض المدخنين من أن هناك من يدخنون منذ سنوات طويلة ويتمتعون بصحة جيِّدة ويقتربون من الثمانين من العمر يقول د. السفاريني: "هذه ليست مبررات قوية، فالحقائق العلمية تبين أن من بين كل 6 مدخنين هناك إحتمال قائم بموت أحدهم بمرض له علاقة مباشرة بالتدخين، ولا ننسى أنّ هناك بعض العائلات تركيبها الجيني يحارب المواد المسرطنة الناتجة عن تناول السجائر، ولكن هذا إستثناء نادر ولا يمكن القياس عليه إطلاقاً، لأنّ هناك في المقابل ضحايا بالمئات بل وبالآلاف".