الآثار النفسية لارتفاع درجة حرارة الطقس





من أقدم العهود والإنسان يدرك مدى ارتباط العلاقة بين ارتفاع حرارة الطقس والمزاج ، لذلك اتخذ كافة السبل للوقاية من حرارة الطقس سواء باختيار المكان المناسب أو نوع المأكولات والمشروبات كالخضراوات والفواكه والعصائر او اللجوء إلى مياه البحار أو الأنهار أو السباحة أو الاستحمام بالماء البارد. فهذه السلوكيات ليست إلا آليات لشعور الانسان بالارتياح النفسي للقيام بنشاطاته الاعتيادية. ولولا ذلك لما تطورت وسائل التكنولوجيا الحديثة في تصنيع المكيفات بأنواعها المختلفة ،سواء كانت منزلية او مكتبية او فندقية او في المؤسسات او في المركبات. وكل ذلك ليس من باب الرفاهية وإنما من باب درء أية معاناة نفسية للإنسان من شدة وطأة الحرارة .
وتشير الدراسات الى ان للحرارة المرتفعة تأثيرا على المزاج وطريقة التفكير ،والقدرة على التعلم والاستيعاب ، واتزان السلوك وبالتالي على القدرة الإنتاجية والسلوكية. ففي دراسات أندرسون منذ عام 1987 ولغاية 2002 ودراسات العالمين بوران وريتشاردسون تبين ان للحرارة تأثير على المزاج ومن ثم على الأفكار والسلوك مؤدية الى اضطراب المزاج والشعور بعدم الارتياح ، وصعوبة التحمل او الصبر، وقلة التركيز والاستيعاب مما يؤدي الى زيادة حدة المزاج والاندفاعية والعصبية الفائضة ومن ثم العنف لأي مثير حتى لو كان بسيطا .
وفي دراسة لمدة (10) أعوام على الجرائم في الولايات المتحدة الأمريكية تبين ان معظم الجرائم كانت تقع في المواسم الحارة ،وان الجرائم العنيفة كانت أكثر في المناطق التي تمتاز بدرجات حرارة أعلى مثل( القتل والاغتصاب) اما الجرائم الأقل عنفا كحوادث السير والاحتيال والسرقة فتكون في المناطق والمواسم الأقل حرارة. أي ان هناك علاقة طردية بين العنف من حيث النوعية و الكمية وبين درجة الحرارة من حيث الشدة والفترة الزمنية.
وقد قدم العالم أندرسون مقولته بأن الحرارة الموسمية « تشكل نوعا خاصا من المزاج التوتري» مؤدية الى الأفكار العدائية ،والذكريات المؤلمة ،ومن ثم السلوك العدواني والعنف . وفي دراساته تبين ان ارتفاع الحرارة يؤدي الى الشعور بعدم الارتياح النفسي ، والتوتر وعدم القدرة على ضبط النفس والصبر ، وتولد الأفكار السلبية العدائية وازدياد جاهزية الانسان للعنف ، وممارسة السلوك العنفي كردود فعل لأمور سخيفة وكلما ازداد هذا المزاج التوتري حدة بفعل ارتفاع الحرارة كلما ازدادت الأفكار والذكريات العدائية ومن ثم الدخول في الحلقة المفرغة وهكذا يتولد العنف ومن ثم الجريمة .
وفي الدراسات التي اجريت على المساجين ، تبين ان المشاحنات والعنف لدى المساجين حين وضعهم في طقس معتدل اقل بكثير منها عند وضعهم في طقس حار ، وكذلك الحال بالنسبة لطلاب المدارس التي لا تحظى بنوع من التكييف فهم اكثر عنفا واقل مستوى في التحصيل العلمي من طلاب المدارس التي تمتاز بحرارة معتدلة .
وفي دراسات على الطلاب الذين يدرسون في صفوف حارة وجد ان نسبة الشجار بينهم من ركل بعضهم ،او العض ، او شد الشعر ، او الشتم ، او مشاكسة المعلمين والعنف الشديد تجاه بعضهم بعضا او تجاه المعلمين عالية ، وكذلك الحال بالنسبة إلى تدني التركيز والاستيعاب ، والتحصيل العلمي مقارنة مع المدارس التي تحظى بدرجات حرارة معتدلة .
ومع علمنا ان السلوك العنفي لا يعتمد فقط على عامل واحد ، فهناك عوامل متعددة اخرى نفسية ،وشخصية ،واجتماعية، واقتصادية ،وثقافية تلعب دورا في ذلك، الا انه وما دامت الدراسات العلمية تثبت بشكل صارخ مدى ارتباط ارتفاع درجة الحرارة بالمزاج والفكر والسلوك ،ومدى تأثيرها السلبي، يأتي التساؤل لماذا لا نقوم بتكييف المدارس والأماكن المزدحمة ووسائط النقل ، والمؤسسات ، للحصول على المزيد من العطاء الأكاديمي ، والفكري، والعلاقات الاجتماعية الايجابية وعلى مزيد من الأمن الاجتماعي بما يقلل من العنف والجرائم؟ ومن الجدير ذكره ان الأشخاص ذوي الاتجاه او الجاهزية للعنف هم اكثر تأثراً للسقوط في جرائم في ظل الطقس الحار. وبغض النظر عما ذكر سابقا فان الانسان حينما يدرك ان للحرارة تأثير سلبيا في حدة المزاج ، فانه يكون أكثر قدرة على التكيف وأكثر صبرا وتحملا واقل انفعالا في حالة الطقس الحار حتى وان لم تتوفر الأساليب التكنولوجية لتخفيف وطأة الحر


* د.محمد عبد الكريم الشوبكي
جريدة الرأي
أبواب