الضـــــيـف الـدخــــيل

[فارس]

في جو عائلي رائع .. كنا نلتقي مساء كل يوم بصالة المعيشة .. حول الجدة بابتسامتها الجذابة .. نتناقش .. نتحاور ونسرد كل ما مر علينا من مواقف في ذاك اليوم .. فنتلقى النصيحة والموعظة والإجابة الشافية .. في دفء عائلي.. يجمع الأبناء والأب والأم وهم يلتفون حول الجدة كالسوار الذي يحيط بالمعصم .. فتنساب كلماتها كخيوط الحرير .. ناسجة أروع القصص .. وأجمل الأساطير .. يعطرها عبق الماضي وبساطته ..
تذكرنا الجدة بمكارم الأخلاق .. وروعة التمسك بها .. فتزخر قصصها بحسن الأسلوب وتسلسل الأحداث .. بكل التشويق والاثارة .. لتجعل الجميع محدقين بالأبصار عليها .. وهي تتفاعل وترسم بوجهها ويديها شخوص القصة .. وكأنهم يعيشون معنا .
وفي أمسيات أخريات يكون الكتاب بين يدي أبي وهو يتلو ما به من مواعظ ودروس وعجائب وغرائب.. ليشد الاهتمام والأنظار .. حتى الجدة تطلب منه أن يجلس بجانبها .. لتسمع كل كلمة بل كل حرف .. وهو ينساب ناقلاً ما تحويه السطور من جديد مبهر وغريب مدهش .
أما الأم ..فهي من حولنا كالنحلة .. تدور وتحيط بعطفها وحنانها الجميع .. فتسرع لتقديم المساعدة وتوفير طلبات الحضور .. من مأكل ومشرب وغطاء .. بدون تأفف أو ضجر .. بل في سعادة غامرة .. وهي ترى عشها في أمان وأهله في هناء وسعادة .. متابعة أثناء ذلك ومع تحركاتها جميع مجريات الأحداث والأخبار .. إن كان المتحدث الجدة أو الأب .
إنها حقاً توليفة رائعة من المشاعر والأحاسيس .. عشناها بكل ما تحمله من بساطة .. فالسعادة كانت عنوانها .. والانسجام والمودة أزهارها التي تفوح بعطرالود والهناء .
حتى كان اليوم التاريخي في حياة الأسرة .. يوم أن حضر أبي بعد الظهر برفقة ضيف .. قلب الموازين وغير جميع المفاهيم .. وقد استقر مكانه .. بصالة المعيشة ..
عندها تغيرت الأمور بشكل مخيف وصارخ .. وقادت جدتي الرائعة .. معركة العصيان والرفض لهذا الضيف الدخيل .. بعد أن شعرت بحسها المرهف .. ما يحمله من عواقب لا أول لها ولا آخر .. فرفضت أن تتواجد معه بالصالة .. وحاول الأب والأم والأبناء كل بجميع وسائله أن يقنعوها .. والعدول عن قرارها .. ولكن دون أي جدوى .
فكان قرارها أن تنسحب أمام هذا الضيف .. وأن يكون جل وقتها بحجرتها .. فقد استطاع الضيف أن يجذب باقي الأسرة بوقت قصير جداً .. وحاولت أن أكون مؤيدا لموقفها.. وأن أشاركها موقف الرفض والاحتجاج ..
لقد رأيت في عينيها الغارقتين في الدموع .. نظرة امتنان .. وشفقة .. امتنان لموقفي المؤيد .. وشفقة من قدرتي علي الصمود في هذا الموقف المخالف للجميع .
..وبمرور الوقت أخذت أسرق النظر .. أحياناً لهذا الضيف المتربع بوسط الصالة .. وقد التف حوله الجميع بكل شغف .. ثم ألتفت إلى مكان جدتي المفضل .. وقد أصبح خاوياً .. تغمره الكأبة والحزن على فراق العزيز .. عندها أشعر بالغصة والألم .. يزيده بكاء مكتوم كنت أسمعه في أحايين كثيرة من حجرة جدتي .. .
كانت تحاول أن تمنعه .. كلما دخلت عليها .. وتمسح دموعها التي تأبى إلا أن تنسكب من عينيها .
بعد أيام أصيبت جدتي الغالية .. بجلطة .. جعلتها طريحة الفراش .. لتنقل بعدها إلي المستشفي للعلاج ...أصبحت عندها وحيدا .. في ميدان معركة غير متكافئة .. وتملكني احساس المنبوذ .. فالجميع أصبح في جميع الأوقات صباحاً ومساءاً .. بصالة المعيشة .. حول هذا الضيف الساحر ..
و زاد من فزعي أن عزف والدي عن كتبه .. فقد كانت علامات الإهمال والهجران ظاهرة : غبار كان قد بدأ يتراكم علي مكتبته ..تلك التي كان يوليها جل اهتمامه ..
كما بدأت العلاقة بين أفراد الأسرة تسوء وتسودها المنازعات التافهة.. والأمور السطحية .. وأصبحت أفكارهم وآراؤهم متضادة .. لوجودهم الدائم والمستمرحول ذلك الضيف .
أما أمي فقد أصبحت أكثر بطءا وقلة استجابة للطلبات .. واحتياجات المنزل من نظافة واهتمام .. لقد سحر الضيف عينيها كما أبهر عيون الجميع؛فأصبحت تفضل أن تكون دائمة التواجد بالصالة .. مشدوهة بالضيف وبما يجود به ..
ليس هذا فط ..لقد تغيرت أنماط الجميع ..كلماتهم..حركاتهم..سكناتهم .. ملابسهم .. بل حتى أكلهم .. أمر غريب..لقد تغيرت تصرفاتهم وتعاملهم بشكل واضح .. .. ليصبح جونا العائلي مشحونا بالتوتر والتصادم .. والتأفف .. لتهرب منه فراشات المودة .. ولتذبل أزهار المحبة بين الجميع .
ومع مرور الأيام الطوال .. انقادت قدماي لأكون .. من ضمن حلقة الحضور أمام هذا الضيف .. الذي أصبح هو صاحب البيت .. صاحب الأمر والنهي .. الناقل للمعلومة .. الفارض للسلوك .. المبرمج للتصرفات .. لقد أسرت معهم .. وأصبحت مدمناً معهم لوجودي .. أمام هذا الصندوق السحري .. الذي يدعى{ بالتــلفزيــون } .

قصة من تأليفي نأمل أن تعجبكم .. وأنتظر ردكم