أحد أقربائي أخبرني مؤخرا بقصة طريفة أوحت لي بفكرة اليوم .. فقد طلب منه ابنه الصغير إحضار كرة مطاطية كبيرة علقت تحت السرير . وهكذا انبطح على بطنه رغم بدانته وزحف على كوعيه وركبتيه ولكنه علق بدوره وصعب عليه الخروج إلا بمساعدة زوجته والشغالة .. المهم في هذه القصة أنه أثناء تورطه في هذا الموقف تذكر حادثة مشابهة وقعت له في سن الرضاعة (على حد زعمه) حين زحف تحت السرير بشكل مماثل وعلق تحته لفترة طويلة .. وما أثار استغرابه واستغرابي أيضا أنه لم يتذكر هذه الحادثة إلا بعد أربعين عاما من حدوثها حين مر مجددا بنفس الموقف !!

... وهذا المأزق الطريف يضعنا أمام احتمالين غريبين :

الأول : أن وضعية الجسد (وهي في هذه الحالة الانبطاح تحت السرير) تستجلب ذكريات قديمة وضع فيها الجسم في موقف مماثل ...

والاحتمال الثاني : أن الحادثة القديمة (وهي انحشاره تحت السرير في سن الطفولة) لم تقع فعلا ولكن دماغه اختلقها واستنسخها من الموقف الجديد ..

وكلا الاحتمالين في رأيي المتواضع يتساويان في نتائجهما وإمكانية حدوثهما لأي إنسان...

فمن جهة ؛ ثبت فعلا أن الوضعية التي يتخذها جسدك تحدد طبيعة الذكريات التي تبرز برأسك خلال تلك الفترة .. فكل وضعية فريدة تتخذها سواء جلوسا أو وقوفا تساهم في جلب ذكرى أو موقف معين من الماضي . واليوم قد ينصح الأطباء "ضعاف الذاكرة" باتخاذ وضعيات مختلفة (مثل الاستلقاء أو ثني الركبتين أو المشي في نفس الموقع) على أمل تذكر موقف قديم من أيام الطفولة .. فدماغ الإنسان من الناحية النظرية لا ينسى أي معلومة تلقاها أو رآها أو مر بها في حياته ؛ وحين نتحدث عن "النسيان" فإننا نعني في الحقيقة عجزنا عن استرداد معلومة موجودة (في الأرشيف) . ولكن هذه المعلومة قد تظهر فجأة ونتذكرها بلا مقدمات حين نمر بموقف مشابه يتضمن صوتا أو رائحة أو وضعية تذكرنا بالماضي ..

أما الاحتمال الثاني فهو خلق الدماغ لشعور (المرور سابقا بهذا المأزق) انطلاقا من الموقف الجديد. ففي أحيان كثيرة تكون منهمكا في عمل ما فيتملكك شعور بأنك فعلت هذا الشيء من قبل أو مررت بهذا المكان في وقت سابق .. وكنت قد تحدثت (في مقال بعنوان العيش في الخبرات السابقة) عن تجربة شخصية حدثت لي في ينبع حين دخلت حيا قديما فتملكني شعور بأنني زرت هذا المكان من قبل وأعرف كيفية الخروج منه (رغم تواجدي فيه لأول مرة) . وبعد التفكير في سر هذا الشعور الذي مررنا به كلنا اكتشفت وجود أوجه شبه بين هذا الحي في ينبع والحي القديم الذي ولدت فيه في المدينة ..

وحينها افترضت أن شعورنا (بالتواجد المسبق في الأماكن الغريبة) قد يكون ناجما عن تشابه المواقف الجديدة مع المواقف القديمة . وفي هذه الحالة ؛ لا تستدعي الذاكرة تفاصيل المعلومة نفسها (حيث لم يخطر ببالي الحي القديم) بل تستدعي الشعور بالألفة القديمة ووجود خبرة سابقة ومريحة .. وفي المقابل قد يحدث العكس تماما حيث تعيدنا المواقف الفريدة (مثل دخول صاحبنا تحت السرير) إلى حادثة قديمة نعتقد نسيانها أو ببساطة يختلقها المخ ليعطينا شعوراً مريحاً بوجود تجربة قديمة وخبرة مسبقة مع هذا المأزق !!

... حاول الوقوف على رأسك لاكتشاف طبيعة الذكريات التي تنساب بهذه الطريقة