عضو مميز
- معدل تقييم المستوى
- 33
السعادة والتعاسة.. إرادة وإدارة
إنَّ السعادة والتعاسة إرادة ٌعقلية وإدارة ٌعملية!
فإذا أردتَ بفكرك أن تسعد سعادة كاملة، ستسعد تمامًا بإذن الله، لأنك ستبحث عن ذلك وستُدير حياتك بأسبابه، وسيُعينك ربك بكل تأكيد، لأنه وَعَدَ كلّ مجتهد، ووعده الحق الصادق الأكيد، بتحقيق اجتهاده وزيادة، في قوله: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ) (محمد: 17).
وإذا أردتَ أنَّ تسعد سعادة منقوصة ! نلتها كما أردت! بسبب أسبابها المنقوصة التي اتخذتها!!
وإذا لم ُترد السعادة ولم تستهدفها ولم تعرف طريقها ولم تعمل لها، لن تنالها!!
بل إذا أردتَ أن تتعس! واتخذتَ أسباب ذلك!تعِست! ... وسيمنعك ربك من التعاسة لفترة ٍبرحمته وفضله حتى إذا رأي منك أنت إصرارًا عليها فسيتركك وشأنك (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) (الصف: من الآية 5)!!.. فمن يُصِرّ علي إرادة الزيْغ والبُعد عن الخير ويسير في هذا الطريق ولا يستجيب لخيريّ ربه ودينه لا بُدّ حتما أن يزيغ كما يُثبته الواقع ونراه!
إنَّ هذا هو الذي يُفهَم من توجيه الرسول صلى الله عليه وسلم لنا حين زار أعرابيًّا ليعوده ويُؤازره ويُواسيه ويُقوّيه في مرضه قائلاً: "لا بأسَ طهورٌ إن شاء الله"، فإذا به يردّ عليه بقوله: بل هي حُمّيَ تفور في جوف شيخ كبير حتي ُتزيره (أي تجعله يزور) القبور، فقال صلى الله عليه وسلم مُنبّها ًومُحَذرّاً: "فنعَم إذاً" (رواه البخاري ومسلم).
فهو صلى الله عليه وسلم يعلمنا أنَّ أمور الحياة تكون حسبما يراها كل فرد، بل وحسبما يصنعها هو بفكره وعمله التابع له! بإرادته وإدارته! كما يؤكده قوله تعالى: (إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا) (الإسراء: من الآية 7).
فمَن يرَيَ حَدَثًا بمنظار ٍأسود، أو يسمع قولاً كذلك، ويعمل بمقتضاه، سيَتعس! ومَن يراه أو يسمعه من وجهة نظر ٍحسَنةٍ، ويعمل أيضا بمقتضيَ ذلك، سيَسعد! .. وهذا في كل شئون حياته ... فهو صلى الله عليه وسلم يُذكرّ أنه حتي في حال المرض والذي هو أمرٌ استثنائيّ غير دائم سيستفيد المسلم إنْ عاجلاً ًأو آجلاً ًخبراتٍ وعلاقاتٍ نافعةٍ مُسْعِدَة له ولغيره في الدنيا والآخرة، لكنه إنْ رآه بفكره مُهلِكًا ومُتعِسًَا ومُنهِيًَّا لحياته، َفنعَم إذا!!! فالأمر كما يرَى ويريد ويسعىَ، إن خيرًا فخيرًا سيجد وإنْ شرًا فشرًا !!
يقول الإمام القاري موضحًا هذا ومؤكدًا عليه عند شرحه للحديث في "مرقاة المفاتيح" "باب عيادة المريض" : "إذا أبيتَ إلا اليأس وكفران النِعَم، فنعَم إذًا يحصل لك ما قلت، إذ ليس جزاء كفران النعمة إلا حرمانها، قال الطيبي: يعني أرشدتك بقولي لا بأس عليك، إلى أنَّ الحُمَّيَ تطهرك من ذنوبك فاصبر واشكر الله تعالى فأبيتَ إلا اليأس والكفران فكان كما زعمت وما اكتفيت بذلك بل رَدَدَتَ نعمة الله.
ثم بعد الإرادة، فإنَّ السعادة والتعاسة إدارة ! أي أسباب ونتائج ! فمن اتخذ أسباب السعادة بتمامها، سَعِدَ سعادة تامَّة، ومن اتخذ بعضها نال جزءًا منها، ومن لم يتخذ منها شيئًا افتقدها ولا شك .. بل ومن اتخذ أسباب الشقاء، شقيَ بالتأكيد!
يقول تعالي مُنبّهًا لذلك: " مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ" (النحل: 97)، قال الإمام ابن كثير في تفسيره: ".. الحياة الطيبة تشمل وجوه الراحة من أيّ جهة، عن ابن عباس: هي السعادة .. .. فقد عمِلَ وقالَ صالحًا، فحَصَدَ صلاحًا وراحة وسعادة! هكذا بكل بساطة وعُمْق وسرعة ووضوح! كالمُعادَلة الرياضية!
فكلّ مَن يعمل بأخلاق الإسلام كلها، لا بُدّ حتمًا سينال السعادة كلها، كما يُفهَم من قوله تعالي: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ 57 قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ" (يونس: 57، 58)، والذي قال فيه الإمام السعدي في تفسيره: ".. إذا حصل الهدي .. حصلت السعادة والفلاح والربح والنجاح والفرح والسرور .. "، وجاء في "أيسر التفاسير" لأبي بكر الجزائري: ".. ابتغوا النور الذي يحمله وتداووا به واهتدوا بنوره تشفوا وتكملوا عقلاً وخلقًا وروحًا وتسعدوا في الحياتيْن معا .."
وهذا ما يؤكده عموم قوله تعالي: " هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ" (الرحمن:60)، والذي قال فيه الإمام الرازي في تفسيره: ".. هل جزاء مَن أثبت الحُسْنَ في عمله في الدنيا إلا أن يُثبت الله الحُسْنَ فيه وفي أحواله في الدارين .."، ويضيف إليه الإمام ابن عطية في تفسيره "المحرر الوجيز" : ".. وعدٌ وبَسْط ٌلنفوس جميع المؤمنين .."
... وحتى أيّ مكروه، من الممكن تحويله بإرادة العقل وحُسْن إدارته لكل خير! لمراجعات ٍوتقييمات ٍوتصويبات ٍوعلاقاتٍ وخيراتٍ كثيرات، كما في الحديث السابق، وكما هو محفوظ من قوله تعالى : "..وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ.. "(البقرة:216)، وكما يؤكده حديث الرسول صلى الله عليه وسلم المعروف: "عجبًا لأمر المؤمن، إنَّ أمره كله له خير، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن، إنْ أصابته سرّاء شكرَ فكان خيرًا له، وإنْ أصابته ضرّاء صبَرَ فكان خيرًا له" (رواه مسلم وغيره).
إنَّ الإسلام يُوجّه المسلم إذن لأن يبادِر ويُسارع بأخذ قراره العقليّ بإدارة السعادة؛ وذلك من خلال إسعاد عقله ومشاعره بداخله وجسده.
إسعاد عقله بالتفكير الخيريّ الانطلاقيّ التشجيعيّ الإيجابيّ وبالعلم والتخطيط والتطوير والإنجاز ونحوه.. وبإبعاده عمَّا يُتعسه، كبلادة الفكر وشرّه وسلبيته وإحباطه وجموده وتقييده ونحو ذلك.
وإسعاد مشاعره التي بداخل العقل بالتواصُل مع الخالق وطلب عونه إذ هو القويّ المُؤَمِّن وبالتفاؤل والأمل والصدق والصفاء والحب والعلاقات الإنسانية الجميلة ونحو هذا .. وبإبعادها عمَّا يُتعسها من كآبةٍ ويأس ٍوحقدٍ وغِلّ ٍونفاق ٍوما شابهه.
وإسعاد جسده بالمُعتدِل الحلال، أي النافع المُسْعِد، من الطعام والشراب واللبس والترويح وأمثاله مِن مُتطلباته التي تُسْعِده .. مع إبعاده عمَّا يُتعسه من إفراطاتٍ أو تفريطاتٍ أو مُضِرَّاتٍ أو مُسكراتٍ أو مخدراتٍ أو نحوها.... .
إنّ هذا سيشمل كل جوانب الحياة ولحظاتها، وهو ما سيُمَهّد تلقائيًّا لآخرة أتمّ وأخلد وأسعد، لمن استحضرَ نوايا الخير والتجهيز لها في كل أقواله وأعماله الحياتية (برجاء أيضا مراجعة مقالة: "المسلم .. سعيد مُسْعِد" لمزيد ٍمن التفصيل والتوضيح).
إنَّ السعادة ما هي إلا مُحَصِّلة كلّ ذلك .. بتوازُن
توازُنٌ بين الانطلاق والطموح والإنجاز الخيْريّ في كل شيء، مع الرضا بما ُأنجز دون توتر ٍأو قلق ٍأو حسدٍ أو غِلّ إنها خليط ٌمن الاطمئنان والاستقرار والهدوء والأمان والسرور والابتهاج والإشباع الكامل الشامل المُتوازن، وهو ما لم يستطع حتي الفلاسفة مِن غير المسلمين الوصول إلي تحصيله أو حتي تعريفه، وإنما تحقق فقط بالتطبيق التامّ لنظام الإسلام .. بينما عجزَ عن تحقيقه أيّ أنظمة أخري، أو حققته جزئيَّا لا كليَّا سطحيَّا لا جذريَّا
فإذا ما حَصَّلته أيها المسلم، رضيتَ واطمأنَّ عقلك وشعورك وجسدك في كل لحظات حياتك واستقرّت كيميائه علي أكمل وجهٍ وسَعِدْتَ، فازددتَ نشاطا ًوقوة وإرادة في التحصيل وإدارة له، فتستمرّ سعادتك وتزداد، وهو ما يُفهَم ضمنا من قوله صلى الله عليه وسلم: "مَن أصبحَ آمنًا في سربه، مُعافًى في جسده، عنده طعام يومه، فكأنما حِيزت له الدنيا" (رواه البخاري في الأدب المفرد) (سربه: أي نفسه أو ما له من أهل ومال)، فهل بعد اكتمال الرضا والأمان العقليّ العلميّ المشاعريّ الاجتماعيّ الاقتصاديّ الإداريّ السياسيّ الربَّانيّ من هناء ٍغامر؟!!
هذا، والبيئة السعيدة تُضفِي بالتأكيد سعادة على الفرد وتعينه عليها، والعكس صحيح، كما يثبت الواقع ذلك كثيرًا أو دائمًا، ولعل أفضل دليل ٍهو الحديث المعروف الذي فيه قتلَ قاتلٌ مئة َنفس ٍوأراد التوبة فنُصِحَ بتغيير بيئته الفاسدة الكئيبة إلي الصالحة السعيدة لينطلق منها نحو العمل الخيْريّ الدائم الذي سيُحقق السعادة الدائمة التامَّة.
هذا، والتعاسة تتحقق بعكس كل ما سبق تمامًا! كما يُفهَم من قوله تعالي: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى 123 وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا.. " (طه:123، 124)، والذي قال فيه الإمام الثعالبي في تفسيره: ".. والضنك:النكد الشاقّ .. " .. فمن تركَ ُخلقًا من أخلاق الإسلام، تعِسَ بالقدْر الذي تركه! ومَن تركها كلها، تعس التعاسة كلها حتمًا ! .. وهل يَسعد مَن يكذب ويخون ويغدر ويغشّ ويهمل ويكسل ويحقد ويسرق ويزني ويقتل ونحو ذلك من أنواع الشرور المختلفة؟!!
فكن أيها الداعي إلي الله والإسلام مِمَّن يُحسِنون إرادة وإدارة سعادتهم الدنيوية والأخروية، ومِمَّن يُفيضون بها علي مَن حولهم، ومِمَّن يُحسنون دعوتهم لذلك .. لتسعد ويسعدوا في الداريْن.
المفضلات