- في وصف السعداء (The traits of happy people):


إذن، إذا كانت السعادة متاحة هكذا للجميع من كل الأعمار والأنواع والأجناس وكذلك في مختلف المستويات الاقتصادية، فمن هو إذن الأسعد؟
رغم تقلبات الحياة إلى أعلى وإلى أسفل فإن بعض الناس تظل قدرتهم على الفرح كما هي. ففي استطلاع قومي شمل خمسة آلاف شخص ناضج تبين أنّ الأكثر سعادة في 1972 ظلوا – تقريباً – كما هم بعد عقد كامل من الزمان، رغم تغيير وظائفهم وسكنهم وحالتهم العائلية.
وفي دراسة تلو أخرى تبين وجود أربع سمات أساسية لهؤلاء السعداء:
أوّلاً: حب النفس، وبخاصة في المجتمعات الغربية الفردية.
ففي اختبارات تقدير الذات Self-esteem وجد أن هؤلاء الأشخاص وبشكل اتفاقي يستخدمون عبارات مثل (انّه لشيء جميل أن تكون بصحبتي) أو (أن لدي أفكاراً رائعة) وكما هو متوقع من هؤلاء الأكثر سعادة من غيرهم فإن تقديرهم لذاتهم يكون إيجابياً، وحقيقة كذلك أنهم يظهرون الكثير من المحاباة لأنفسهم، فهم يعتقدون أنهم أكثر ذكاء، وأفضل أخلاقا، وأقل تعجلاً في الحكم على الأمور، وأكثر قدرة على معايشة الآخرين من غيرهم.
مثل هذه الأمور تذكر بتلك المزحة التي أطلقها فرويد عن رجل قال لزوجته: "إذا كان يجب أن يموت واحد منا، فإنني سأذهب وأعيش في باريس".
ثانياً: ضبط النفس Self-Control بمعنى الشعور بالقدرة على مواجهة ظروف الحياة وليس بالعجز أمامها، فهم يؤدون بشكل حسن في سنوات الدراسة، يكتسبون الخبرات بسرعة، ولديهم قدرة خاصة على مواجهة الضغوط. فالحرمان من هذه القدرة – كما أثبتت الخبرات المدونة للمساجين، وللعجائز في بيوت المسنين والعائشين تحت أنظمة حكم قمعية – يوهن الجسد ويأكل الروح. والفقر المدقع يضعف الروح المعنوية للناس حيث تتآكل قدرتهم على التحكم في مجريات حياتهم.
ثالثاً: التفاؤل، فالسعداء غالباً متفائلون ومن الممكن ملاحظة أنّ المتشائمين ممن تصدق توقعاتهم السيئة، دائماً يصابون بالدهشة أمام الفرح.
(سعيد هو من لا يحلم بشيء: فلن يخيب رجاؤه) كما يقول الشاعر الكسندر بوب في رسالة من عام 1727. وبعيداً عن ذلك، فإن أصحاب التفكير الإيجابي المتفائل – هؤلاء الذين يقولون، على سبيل المثال، حين أشرع في عمل جديد فإنني أتوقع له النجاح – دائماً يكونون أكثر نجاحاً وصحة وسعادة.
رابعاً: الانبساط (بمعنى الانفتاح على الآخرين) ربّما نعتقد أنّ الانطوائيين أكثر سعادة في ظل صفاء تأملاتهم. إلا أنّ الانبساطيين أكثر سعادة منهم سواء في وحدتهم أو بصحبة الآخرين، وسواء عاشوا بالريف أو بالمدينة، وكذلك سواء كانوا يعملون بشكل فردي أو في أعمال جماعية.
مع كل واحدة من هذه المميزات فإنّ الدلالات تظل غير واضحة تماماً. بمعنى، هل تجعل السعادة أصحابها أكثر وداداً..؟؟
أم أنّ الودودين – بطبعهم – أكثر حيوية، وأقل توجساً من معايشة الآخرين. هذا النزوع ربما يشرح زواجهم المبكر، حصولهم على وظائف أفضل وكثرة أصدقائهم إذا كانت هذه الصفات تجلب السعادة – حقا – فإنّ الناس يمكنهم أن يكونوا أكثر سعادة مما هم عليه لو تصرفوا كما لو كانوا يملكون هذه الصفات بالفعل.
وقد أثبتت التجربة أنّ الذين "يدعون" تقديراً أفضل لأنفسهم ويتصنعون الابتسامة هم بالفعل أسعد من غيرهم.
كذلك يبدو أنّ السعادة تتأثر قليلاً بالمادة الوراثية. ففي دراسة اشتملت على 254 من التوائم المتماثلة وغير المتماثلة. وجد العالمان النفسيان ديفيد ليكن David Lykken واوك تيللجن Auke Tellegen أن 50% فقط من منسوب السعادة تحكمة العوامل الوراثية.
فحتى التوائم المتماثلة إذا تم التفريق بينهم فإنّهم يحملون نفس القدر من السعادة.
اجمالاً، واعتماداً على توقعاتنا وخبراتنا الحديثة نسبياً فإن سعادتنا تدور حول نقطة مركزية نقترب منها أو نبتعد عنها بما يجعل البعض سعيدا والبعض شقياً.



- السعداء والعلاقات الحميمة:





العلاقات الحميمة بدورها تضع علامتها على الحياة السعيدة. ومن السهولة تخيل كيف تؤدي ضغوط العلاقات الحميمة إلى تفجرات الألم والبؤس. وفي رأي جان بول سارتر أنّ الجحيم هو الآخرون).
لكن لحسن الحظ، فإنّ فائدة العلاقات الحميمة سواء مع الأصدقاء، أو في ظل الأسرة تفوق آلامها.
ومقارنة بهؤلاء المحرومين من هذه العلاقات الحميمة فإن هؤلاء الذين يستطيعون ذكر عديد من هذه العلاقات الطيبة يعيشون أفضل ويكونون أقل عرضة للموت المبكر وهم أكثر سعادة بالفعل. ومما وجده العالم النفساني وليم بافوت W. Pavot أنّ الناس يكونون أكثر سعادة في حضور الآخرين.
ولوحظ أن تسعة من كل عشرة أشخاص يضعون الزواج باعتباره البديل الحقيقي للوحدة. على الرغم من أنّ النهايات الدرامية للزواج تحمل مأساة حقيقية، إلا أن علاقة زوجية ناجحة تعتبر من أكثر الاهداف الجالبة للسعادة والرضا على حد قول هنري وارو بشير H. W. Beecher: (زواج سعيد: إنسان مجنّح، زواج تعيس: إنسان مصفد).
وفي دراسة أجراها المركز القومي لأبحاث الرأي فإن ثلاثة من كل أربعة أشخاص صرحوا بأن زوجاتهم هي خير صديق لهم، وأربعة من كل خمسة أشخاص صرحوا بأنهم سيتزوجون من نفس الشخص مرة أخرى لو عاد الزمان إلى الوراء.
ربّما يفسر هذا – خلال السبعينيات والثمانينيات من هذا القرن – لماذا كانت نسبة السعداء بين المتزوجين أعلى منها لدى غير المتزوجين (37% إلى 24% على الترتيب).
لكن هل يجلب الزواج السعادة للرجال أكثر مما يجلبها للنساء ..؟؟
في كل من أمريكا الشمالية وأوروبا، أثبتت نتائج الأبحاث أن نسبة السعيدات من المتزوجات أعلى من نسبة السعيدات بين غير المتزوجغات.
المئات من الدراسات أثبتت ذلك: رغم أنّ الزواج التعيس يجعل المرأة أكثر اكتئاباً من الرجل، إلا أنّ الأسطورة التي تدعي أنّ المرأة الوحيدة أسعد من المرأة المتزوجة عليها أن تذهب إلى النسيان.



- إيمان السعداء:


(الفرح هو العمل الجاد للسماء) هذا ما قاله س. إس لويس وعلى العكس منه يذهب النفساني الشهير فرويد (الدين ليس سوى وهم يأكل السعادة، أو يتحول إلى مرض – وسواس عصابي – obessesional neurasis يصحبه الشعور بالذنب والضعف الجنسي والكبت العاطفي.
لكن تتعارض المعطيات المتنامية مع حدس فرويد، فالمتدينون النشيطون أقل عرضة لإدمان الكحول والعقاقير الأخرى، وهم أقل خرقا للقانون، أقل اقترافاً للطلاق وأقل إقداماً على الانتحار.
وفي أوروبا الغربية والولايات التحدة فإن هؤلاء المتدينين النشيطين أسعد بمعدل الضعف من غير المتدينين. وهناك دراسات أخرى وجدت أنّ السعادة والرضا عن الحياة يزدادان مع قوة الإيمان الديني ومعدل ممارسة العبادات. وفي دراسة احصائية بين العجائز وجد انّ التدين هو أحد أهم المؤشرات على درجة الرضا عن النفس والشعور بالسعادة. وبينت دراسة أخرى الرابطة القوية بين الإيمان الديني والقدرة على التعامل مع الأزمة، ودراسات أخرى بينت أنّ النساء حديثات الترمل من المؤمنات أسعد من الأرامل من غير المؤمنات. وأنّ الأُمّهات – عميقات التدين – لأطفال معاقين أقل عرضة للاكتئاب مقارنة بمثيلاتهنّ من غير المتدينات. ونفس هذه الملاحظة تنطبق على حالات الطلاق والبطالة والأمراض الخطيرة.
فما الذي يشرح هذه الرابطة الإيجابية بين الإيمان والسرور..؟؟
أحد التفسيرات المحتملة هو ذلك الدعم الروحي للعلاقات الحميمة التي تنشأ داخل التجمعات "الإيمانية" إضافة إلى الإحساس بالمعنى والهدف مشمولا بالتركيز على الآخرين أكثر من الذات.
وقد وجدت منظمة جالوب Gallup Organization أنّ مشاركة المتدينين في الأعمال التطوعية هي ضعف النسبة العادية، وكذلك نسبة المشاركة في الأعمال الخيرية والتي تصل إلى أربعة أضعاف. المشاركة بين غير المتدينين.
فالنظرة الدينية للعالم يمكن أن تقدم للناس إجابة مريحة عن أسئلة الحياة العميقة، وتعطيهم تقييما تفاؤلياً لأحداث الحياة. وهكذا يعطي الإيمان الأمل في مواجهة رعب الموت. هذا التفسير ذاته يحتاج إلى مزيد من الاستكشاف.
اجمالاً، فإن معرفة عمر الشخص وجنسه ومستوى دخله المادي (بافتراض أنّ هذا الدخل يفي بالتزاماته) لا يعطى دلالات دقيقة على مدى سعادته.
وقد أثبتت الأيام صحة ما حدس به الشاعر الانجليزي وليم كوبر عام 1782: أنّ السعادة لا تعتمد على المظاهر الخارجية كما يعتقد الكثيرون. دلالات أفضل يمكن تلمسها بمعرفة المميزات الشخصية: ما إذا كان الشخص يتمتع بمنظومة قوية من العلاقات الحميمة، وما إذا كان الشخص مدعماً بالإيمان الذي يمنح الأمل ويوضح الهدف. دراسات أخرى أضافت التحقق من العمل كإحدى الدلالات المهمة، وكذلك الأنشطة التي تمارس في وقت الفراغ – تحديداً الأنشطة التي تبين حالة نكران الذات في مواجهة العكس.
ومازالت هناك دراسات كثيرة تحاول اكتشاف السعداء من خلال نمط الحياة، النظرة الثقافية للعالم والسعي وراء الأهداف.
هذا المبحث الجديد من السعادة هو إضافة إيجابية لكل من النظرة الاجتماعية للسعادة الجسدية والمادية وللنظرة السيكولوجية والتي ركزت طويلاً على المشاعر السلبية للبشر.
بالسؤال عمن هو السعيد؟ ولماذا؟ تفتح النظرة العلمية الطريق أمام الناس لوضع أولوياتهم موضع التساؤل. وتفتح الطريق أمامنا جميعاً للعمل من أجل عالم يدفع السعادة الإنسانية إلى الأمام.


* ديفيد مايرز هو أستاد علم النفس في "هوب كوليج" Hope College وإد داينر هو أستاذ علم النفس في جامعة إلينوي