يُعَدّ القلق أكثر الأعراض شيوعاً لدى البشر، خاصة في عصرنا الحالي، الذي يطلق عليه الكثيرون عصر القلق؛ ذلك أن القلق، إضافة إلى انتشاره، كمرض مستقل، يصاحب غيره من الأمراض، النفسية والجسمانية. ولا عجب في ذلك، فالشخص الذي يصيبه صداع، مثلاً، لأي سبب من الأسباب، ينتابه القلق لذلك. وينطبق هذا القول على كل ما يصيب الإنسان من أعراض مرَضية، أو عاهات جسمانية، ناهيك ما ينتابه من قلق، يتعلق بشؤون حياته، اليومية والمستقبلية، فضلاً عن قلقه من أجل من يرتبط بهم عاطفياً، مثل قلقه لمستقبل أبنائه الدراسي، وقلقه لصحتهم. وهكذا، يتضح أن القلق، ليس سمة من سمات العصر فقط، بل سمة من سمات الحياة نفسها.
ما القلق؟

إنه الخوف والشعور بالانقباض، وترقّب شر أو مصيبة، ستقع مستقبلاً. وإذا كان الخوف من شيء معلوم، أو أن المصيبة، التي يخشى حدوثها معلومة، (معروفة للشخص)؛ فذلك هو القلق الثانوي. وذلك ينطبق على خوف الطالب من الامتحان، وإحساسه أنه لن يمر على خير، ويرتقب شر نتيجته، إلى درجة، تزعجه، وتخل بتكيّفه النفسي.

أما إذا كان الخوف غير معروف السبب، فذلكم هو القلق الأولي. ونظراً إلى أن السبب مجهول، فإن الشر المرتقب، أو المصيبة المرتقبة، غير معلومة المصدر، أو الوقت أو الكيفية، فلا يعرف الشخـص من أيـن؟ ولا متى؟ ولا كيـف ستقع المصيبة؟ لذا، فهو في خوف وترقّب ووَجَل دائم، ولا يغمض له جفن، ولا يستكين له فؤاد، ولا يستقر له جانب، لأن المصيبة قد تقع في أي لحظة. فكل جديد، قد يأتي بالمصيبة، وكل آتٍ قد يحملها معه، وكل طرقة على بابه، يجفل لها، وترتعد فرائصه، وتضطرب ضربات قلبه، إنها المصيبة، قد تكون آتية!

تشمل صورة مريض القلق أعراضاً نفسية، وأخرى جسمانية. أما الأعراض النفسية، فهي شعور الخوف وعدم الراحة الداخلية، وترقّب حدوث مكروه، ويترتب على ذلك تشتت انتباه المريض، وعدم قدرته على التركيز في ما يفعل. ويتبع ذلك النسيان، لاختلال أداء التسجيل في الذاكرة، الذي يتطلب التركيز أو الانتباه. مثل الطالب القلق إلى درجة، لا يستطيع معها أن يركز في ما يقرأ (أو يذاكر)، ويترتب على ذلك، ألاّ يسجَّل شيء في ذاكرته مما قرأه. كما أن التفكير، قد يختل تسلسله، نتيجة للخوف ونقص التركيز. ويلاحظ أن الشخص، في موقف القلق المرَضي، يكون مرتبكاً في عرضه لأفكاره. فمثلاً، إذا كان قلق الطالب مرَضياً، أثناء وجوده في لجنة الامتحان، فإن إجابته عن الأسئلة، ستكون ناقصة أو غير متسلسلة، لفقد بعض أفكاره، نتيجة للنسيان المذكور. كما أن الحركة تضطرب، فترتعش يد هذا الطالب، أثناء الكتابة، وتهتز الكلمات في فمه، إذا كان الامتحان شفوياً. وأحياناً، يسقط الشخص خوفه الداخلي على الأشياء والأشخاص، المحيطين به. وذلك نراه واضحاً في الأم، التي خرج ابنها الشاب، فظلت خائفة عليه، حتى يعود. وإذا تأخر زوجها، قليلاً، فإنها تظل متوترة، حائرة بين الباب والشباك، حتى يعود. كما يكون الأرق (عدم النوم)، أحد أعراض القلق البارزة.

أما الأعراض الجسمانية، فتظهر في شحوب الوجه، واتساع فتحة إنسان العينَين، وتعبير الخوف على الوجه، وبرودة الأطراف، وسرعة ضربات القلب، وارتفاع ضغط الدم، وسرعة التنفس، والشعور بالاختناق، وجفاف الحلق، وصعوبة البلع، والإحساس كأن شيئاً، يسد البلعوم، زيادة الحموضة في المعدة، وعسر الهضم، وآلام المعدة والأمعاء، خاصة الأمعاء الغليظة (المصران الغليظ)، تعبّر انقباضاته وتقلصاته عن القلق. إضافة إلى الشعور بالانتفاخ وكثرة الغـازات، وصعوبـة التبول، والرغبـة المستمرة فيه، واضطراب الوظيفة الجنسية، التي عادة ما تكون في صورة سرعة القذف لدى الرجل، أو الارتخاء الجنسي، ولكن، كيف يحدث هذا؟ كيف يؤثر القلق في كل هذه الأجهزة من الجسم، فيخل بتكاملها؟

يتكون المخ من قشرة، تعلوه في المكان والمكانة. وتؤدي الوظائف العليا، من التفكير والذاكرة والحركة والكلام. وترتبط بجزء مهم، أسفلها مباشرة، هو المهاد (Thalamus)، الذي يستقر على جزء آخر، لا يقل عنه أهمية، بل يزيد، ويسمى تحت المهاد (Hypothalamus). وهذا الجزء، وبعض المكونات الأخرى، تكوّن الجهاز الانفعالي، أي الخاص بالانفعالات. ويشمل تحت المهاد مراكز عليا للجهاز العصبي المستقل (السمبتاوي ونظير السمبتاوي)، ومراكز عليا، للجوع والشبع والعطش والنوم، وللتحكم في درجة حرارة الجسم، كما أن المهاد الأسفل، تحت المهاد، يتحكم، بطرق مختلفة، في إفراز الغدة النخامية، المسيطرة على أغلب غدد الجسم، التي تفرز هرمونات عديدة.

وعندما يواجه الإنسان موقف مخيف، فإنه يفهم الخطر بقشرة المخ. وهذا الفهم، لا يلبث أن ينعكس على الجهاز الانفعالي، خاصة تحت المهاد، ومراكزه التي يشملها. فينشط الجهاز السمبتاوي (أحد شقَّي الجهاز العصبي المستقل)، وهو الخاص بعملية القتال والهرب في الإنسان. وهو، إلى جانب إفراز هرمونات الأدرينالين والنورأدرينالين، من الغدة فوق الكلوية (الكظرية) ـ يسرع من ضربات القلب، وضغط الدم، ومعدل التنفس. فيندفع الدم إلى العضلات، ويقلّ في الجلد، فيشحب لونه، ويتوقف البلع والهضم والجنس؛ فالوقت وقت خطر، إما حياة أو موت، وتكيف الإنسان لمواجهة الخطر، هو للإبقاء على حياته. ولكن القلق هو استشعار للخطر، طيلة الوقت، ومعاناة أعراضه وشكواها. وتشتد شكواه إذا لم يعرف لها سبباً، أي كان القلق أولياً.

أَكُلُّ القلق يُعَدّ مرضاً؟ ومتى يكون صحياً؟ ومتى يكون مرَضياً؟

عندما تواعد شخصاً ما مكاناً ما، بعيداً عن بيتك، أو عن المكان الذي توجد فيه، فإنك تشعر، عند اقتراب الموعد، ببعض القلق، يدفعك إلى سرعة ارتداء ملابسك، والخروج إلى الموعد. وإذا كان الطريق معطلاً، لاختناق المرور فيه، فإنك تنظر إلى ساعتك، في قلق، خوفاً على الموعد الذي قطعته على نفسك. وقد يربكك ذلك، فتصدم بسيارتك الآخرين أو سياراتهم (إذا كنت تقود سيارتك)، أو تحتك بمن يقف إلى جوارك في الحافلة، أو بمن يعترض طريقك أثناء نزولك منها. وإذا كنت طالباً، فأنت على موعد مـع الامتحان، الشهري أو السنوي، وتحسب لهذا الامتحان (الموعد) الحساب بالأشهر والأيام، والذي لا يلبث أن يتناقص إلى ساعات. وكلما اقترب الموعد، ازداد القلق. وكلما كان إنجازك العملي ضئيلاً، كان القلق أكثر.

القلق، إذاً، باعث لك على أن تتحرك للوصول إلى المكان المحدد، في الموعد المحدد. وهو، كذلك، باعث لك على الإنجاز الدراسي والتحصيل، كاستعداد للامتحان، إذا كنت طالباً. أضف أنه باعث للزوجة على تدّبر شؤونها المنزلية، قبل عودة زوجها، أو حضور ضيوفها. زِد أنه باعث للموظف (والموظفة)، أن يسرع الخطى، لبلوغ عمله في الموعد المحدد. واستطراداً، فالقلق هو باعث للحياة، ومحرك لها. ونقيضه الاسترخاء التام؛ بل السكون؛ وذلكم هو شلل الحياة الداخلي، الذي يصيب اليائسين، العاجزين، الذين لا أمل لهم، ولا رجاء.

من هذا المنطلق، يُعَدّ القلق شيئاً صحياً، يدفع نحو الأهداف. ولكنه، ككلِّ شيء، حين يزيد على حدِّه، فإنه ينقلب إلى ضده. وبعد أن كان باعثاً، محركاً، أصبح مربكاً معطلاً، بل مزعجاً.

فالطالب، الذي ازداد قلقه عن حدِّه، لا يستقر، يفتح كتاباً، ثم يقلب صفحاته، بتوتر واضح، ثم يغلقه، ليأتي بآخر، يفعل به مثلما فعل بالكتاب الأول. ثم يأوي إلى النوم، طلباً للهدوء. ولكن هيهات له أن ينام، وهو في هذه الحالة. فيطير النوم من عينَيه، وتنتابه الأفكار والهواجس، من مخاوف وغيرها. وقد يبكي مما يشعر به من ارتباك وتوتر. ناهيك ما يشعر به من أعراض جسمانية، مثل سرعة ضربات القلب، وسرعة في التنفس، وجفاف الحلق، وبرودة في الأطراف. ومن ثَم، يكون القلق مرضاً، لأنه أصبح يعوق الإنسان عن أداء عمله، والتكيف في حياته.