..
عندما يصبح الجهل باب الشر؟

حقا ان الانسان عدو لما يجهل . واكثر من ذلك ، بل سبب هذا العداء ، الخوف مما لا نعرف.

ولان في كل جهل عدم شيء ما مثل ان الجهل بالرياضيات هو عدم المعرفة الحسابية والعددية، فالعدم في صلب كل جهل، ولهذا نخاف من العدم ونعادي الموت دون ان نميز فيه بين الغياب والفقدان واللاشيء في صلة القوة بالفعل مثلا ؟! حتى ليمكن القول : ان الجهل ضرب من ضروب العدم ؟!.

لان الجاهل بأمر فاقده وغائب عنه وهو لا شيء بالنسبة له.

لذلك افرد ( ابن سينا ) في الإلهيات من ( الشفاء ) فصلا عن كيفية دخول الشر في كل شيء عبر الجهل، لايضاح كيف يعمل الشر في هذا الوجود، القائم والناتج عن واجب وجود كله خير وحق، لا يمكن ان ينتج عنه شر أو أذية.

حتى ان العناية الالهية لا تعني الا ما ( يفيض عنه مما يعقله نظاما وخيرا ). لكن الواقع يرينا عكس ذلك، في عالم التحول والفساد الذي نعيش فيه بكل الآمه ومحنه المؤذية .

على ان نلاحظ ان هذا العالم ملئ بالمجاهيل التي لا نعرف عنها شيئا، اي المعدومة من امام ناظرينا فقط .

وليس كل ما نجهله ويشكل عدما بالنسبة لنا، هو عدم فعلا لانه غائب او ليس موجودا، بل مجرد مفقود منا، متى وجدناه تأكدنا ان له وجودا كنا فقط نجهله ؟!

هكذا يمتد العدم الى الوجود، ويتمدد الوجود، في كل مرة نكشف فيها ما كنا نجهل وجوده . فيبقى وجودا بالقوة، حتى يأتي العقل الكلي الى العقل الجزئي حدس، ينقله من العدم الى الوجود.

وهذا التواصل عبر الحدوس بين العقل المنفعل والعقل الكلي الفعال، هو صلة الاتصال اليومية بيننا وبين الحق. الذي في كل مرة تسطع منه حقيقة لعقلنا الجزئي، تنفي بسطوعها شرا عنا كان يخفيه العدم بعدم المعرفة، اي بالجهل ؟!.

الفكر الانساني اذا هو : فاعلية نقل المجهول الى المعلوم، اي فاعلية نقل العدم الى الوجود، فيه يكشف خفاء شر المجهولات اي خفاء شر كل جهل .

والنقل الديني حين يوجه العقل نحو هذه الفاعلية لنقل المجهول نحو المعلوم، يعطينا خبرا به نصل الى اليقين بالعقل . وهذا التلاقي او التوجيه بالنقل الديني يوصلنا الى العلم .

ورغم ان كلمة علم، كانت تعني عند العرب، العلم النقلي او العلم والفقه بالنقل الديني، الا انها ما لبثت ان تحولت مع بدايات الفلسفة لتعني النقل والعقل معا . لذلك ميز الفارابي في كتابه ( احصاء العلوم ) بين علم اللسان وهو علم نقلي يقوم على حفظ الالفاظ ومعرفة قواعدها و( قوانين تلك الالفاظ وعلم المنطق وهو العلم بالقوانين التي تسدد نحو طريق الحق والصواب وتحفظ من الغلط وبالتالي الجهل بالمعقولات . وهو علم عقلي منقول في جملته من الاغريق .

ورغم ان هذا العلم يشارك النحو بصفة، باستعماله للتراكيب اللغوية، الا ان هدفه ليس وزن الكلام بميزان الفصاحة , كمواضعة شكلية يتغير معناها بتغير العصور . بل وزن معاني الكلام واهدافه . ان ( علم النحو انما يعطي قوانين تخص الفاظ أمة ما، وعلم المنطق انما يعطي قوانين مشتركة تعم الفاظ الامم كلها ) . لذلك يمكن نقل المعاني بالترجمات التي تعتمد على منطقية كل لفظ ولا يمكن نقل البيان الادبي بين الامم . اي يمكن نقل الاقاويل العقلية , ولا يمكن نقل الاقاويل الخطابية .

ومن المنطق ينتقل الفارابي الى العلوم العقلية، المبنية كلها شأنها شأن المنطق على نقل نظري، لا يلبث ان يتحول الى العقل العملي حين كل استعمال. ويبدأها بالرياضيات وعلوم الفيزياء الضوئية، ثم علوم الفضاء، حيث يميز فيه علم النجوم كعلم دلالات على الكواكب .. عن اشكالها ... وعن حركات الاجسام السماوية ... كلها كروية ... يعم جميعها ... لتفحص الارض ). وهذا الهدف قطعا يختلف عن خزعبلات التنجيم .

ثم علوم الموسيقى والميكانيكا - علم الاثقال – ثم الكيمياء – فالعلم الفيزيائي – الطبيعي – وأخيرا وليس أخرا العلم الالهي، الذي يفحص الوجود بما هو موجود، ومبادئ البراهين، ثم عن الموجودات التي لها كيف وليس لها كم ( التي ليست اجسام ولا في داخل اجسام ) .

اما علم الفقه وعلم الكلام فليس لهما وحدهما صفة العلم بل يشتركان ويستندان على علم المنطق ( التقدير ما لم يصرح به واضع الشريعة ) . لاجل ( نصرة الآراء والأفعال التي صرح بها واضع الملة )، اي لاستخدام العقل في تفقه الدين بعلم الفقه وللدفاع عن الدين بالمنطق في علم الكلام .

وبغض النظر عن رأي الفارابي أن كل هذه العلوم تهدف خير السعادة، لتجنب شر الجهل في الدنيا من اجل سعادة المعرفة مع الازل، لذلك وضع علم الاجتماع، اي العلم المدني حارسا لتزكية هذه العلوم بمدينته الفاضلة التي ستوصل حتما كل فاضل فيها بعد الموت الى سعادة الخلود او الخلود مع المعرفة فالسعادة . اقول بغض النظر عن هذا الرأي بحد ذاته نجد أن كلمة علم لم تعد تعني مع الفارابي وبعده النقل الديني المعرفي وحده، بل شملت المعرفة العقلية بكل صنوفها الممكنة.

إن النظر الى العقل الانساني كفاعلية تنقل المجهول الى حيز كل معلوم , يجعل منه اداة اساسية في محاربة العدم , وكل الشرور الملحقة فيه . فأذا كشفنا خفاء مجهول اتقينا شره و هكذا بالعلم بمعناه الحقيقي معاصرا كان ام منذ الفارابي يمكننا ان نضرب الشر الكامن في كل جهل، فأذا كان الشئ بالشئ يذكر فأن التجهيل الذي يمارسه الاختراق الثقافي علينا اليوم، يكمن فيما يكمن ان كلمة علم لاتعني عند المسلمين والعرب الا معنى النقل أي العلم الديني فقط ؟!.

ان التراث الفكري العربي شأنه شأن اي تراث اخر، زاخر بسوء الفهم لمعنى العلم او بتسويء الفهم ان شئت وهنا مربض من مرابض التجهيل التي حتما لاتقود الا لكل شر ومعيارنا في معرفة ذلك التبريرية في كل مذهب والتي لاتقود ولا تنقاد الا للعصبية من اجل كل سلبيات التسلط وهنا تجد أضافة الى العلم صفة العرفان، كما إدعى بعض محبي الحكمة – الفلسفة – الحكمة .

ومدعي العرفان لم يكونوا في صفوف المتصوفة فقط، كما يتبادر الى الذهن للمرة الاولى بل كانوا في صفوف من ادعى ضرورة تعطيل النقل بالعقل، اذ ما دمنا بالعقل قادرين على ما يقوله لنا النقل فلا حاجة لنا بأي نقل .

وذلك بأنكار السعة الشمولية والتوجيهية النقلية، لكل عقل سيتخبط بالبدء من الاول مع كل مسلمة لم تصله نقلا فإدعاء قدرة العقل الانساني على الاحاطة التأويلية الشاملة غرور وإدعاء في صلب القدرات العقلية الانسانية المحدودة طبعا .

فليس كل مفكري الاسلام الفارابي، كما ان ليس كلهم يجرؤ على ويبدأها الا دعاء ان معرفته العقلية افتخارا.

النسب والافتخار والعصبية، ثالوث شر الجهل المقدس عند المتحنطين بالمترادفات اللفظية الادبية العربية، جوهر الفكر والحق والمنطق في هذه الامة، ممن يعتبرون امتدادا لجاهليتها في كل زمان. وما ذكرنا منهم غيض من فيض الفتنة والانقسام المستمر.

فلكي لا تفع في مطب المهاترة التاريخية مع هذا الاتجاه، ومع هذه الذخيرة السفسطية اللغوية الادبية القوية، علينا ان نتتبع صلة الجهل بالشر فكريا، كي نضع القواعد كشفه المنطقية التي تغنينا عن الخوض ضد هذا القلم او ذاك، ممن اجاد فيه خزن المنطوق اللغوي العربي لصالح تبريريته واهدافه العصبية الضيقة .