يعاني الناس بشكل عام من سماع أفكار في عقلهم تتسبب لهم بالقلق و الضيق النفسي. و تحتوي هذه الأفكار على أفكار السوء (بأن يؤذي الإنسان نفسه و غيره)، أفكار الفحشاء (تصورات بذيئة)، و أفكار القول على الله بما لا يعلم الإنسان (مثل التشكيك بالله عز و جل و رسوله). و يطلق على الذين يسمعوا مثل هذه الأفكار في علم النفس بالمرضى النفسيين.
لهذا اليوم في علم النفس لا يوجد تشخيص و لا علاج لمثل هذه الأفكار، يبين هذا البحث كيفية تشخيص و علاج هذه الاضطرابات النفسية بهدي القرآن الكريم و السنة النبوية الشريفة.
1. الوسواس القهري المرضي

من أشهر الأمراض الذي يعتقد معظم الناس بأنه مرض نفسي ما يسمى بالوسواس القهري المرضي. و الأعراض التي تظهر على الإنسان هي سماع أفكار في عقل الإنسان و كأنه يفكر مع نفسه بها، وهذه الأفكار تتسبب للإنسان بالاستفزاز، الضيق، الكآبة، و غيرها من مظاهر الألم النفسي. د. ستيفين فيلبسون يصف هذا المرض بما يلي:


" هو معركة خاسرة بين النفس المنطقية (و الذي يعبر عنها بالمحاولات غير المجدية للإنسان باستخدام المنطق لمحاربة هذا المرض) و قدرة الدماغ على توليد أفكار أوتوماتيكية غير منطقية و الذي يصاحبها هيجان غير متحكم به في المشاعر".
في علم النفس لا يوجد تشخيص لماذا تأتي مثل هذه الأفكار لعقل الإنسان و التي هي آخر ما يريد الإنسان أن يفكر به. تتلخص الطريقة المتبعة للعلاج في إعطاء الإنسان حبوب تعمل على تثبيط إنتاج مادة السيروتونن في الدماغ. و يمكن القول بأن هذه الطريقة المقترحة للعلاج لا تنفع على الإطلاق.



1. ماهية العدو الرئيسي للإنسان كما تم ذكره في القرآن الكريم

إذا ما تفكر الإنسان في الأفكار التي تأتي للإنسان الذي يطلق عليه بالمريض النفسي فإنه يرى بأن هدفها التسبب بالألم، الكآبة، الضيق، اليأس، عدم القدرة على التركيز على الأمور الهامة، بالإضافة إلى العديد من الأفكار التي تسبب الألم النفسي و تدمير النفس.
و يستنتج الإنسان أن هذه الأفكار يجب أن تنبع من عدو للإنسان، و هذا العدو يريد للإنسان أن يعيش في ألم و مشقة. و التشخيص بأن الدماغ البشري يصدر مثل هذه الأفكار خاطئ تماما، فكيف لدماغ أن يعذب ذاته؟ و بالتالي هناك الحاجة لمعرفة العدو الذي يتسبب للناس بهذه الأفكار الهدامة.
يبين لنا الله عز و جل هذا العدو في القرآن الكريم في سورة البقرة (آية 168) و هذا من جوانب رحمة المولى بعبادة، حيث يقول الحق ما يلي:

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}
يبين الله عز و جل في هذه الآية الكريمة أن الشيطان هو عدو للإنسان. و يمكن الاستنتاج بأن الشيطان يريد المشقة، الألم، و العذاب للإنسان. و بالتالي يمكن الاستنتاج أن الشيطان هو المسؤول عن أفكار السوء، الفحشاء، و القول على الله بما لا يعلم الإنسان و التي يعاني منها الذين يطلق عليهم بالمرضى النفسيين.
4-فهم الناس للشيطان

من رحمة الله عز و جل على الناس أنه أنزل هداه في الكتب السماوية مثل التوراة، الإنجيل، و القرآن الكريم. و في جميع هذه الكتب حذر الله عز و جل الناس من عدوهم الرئيسي (الشيطان). و لأن معظم الناس هجروا الله عز و جل و هداه فإنهم لا يعرفوا أي شيء عن الشيطان و طرق تأثيره عليهم.

في هذه الأيام إذا سألت إنسان عن الشيطان و كيف يؤثر عليه فإنك ستسمع أحد الأجوبة التالية:
إنسان ملحد: سيقول لك أن الشيطان غير موجود.
إنسان نصراني: سيقول لك أن الشيطان موجود و لكنه شخصية خرافية و لا يؤثر على الإنسان على الإطلاق.
إنسان مسلم: سيقول لك أن الشيطان موجود و لكنه لا يعرف كيف يؤثر عليه على الإطلاق.
الجهل بخصوص الشيطان خطير و مدمر جدا كما سيتبين في هذا البحث. و لهذا السبب حذر الله عز و جل الناس من الشيطان في جميع رسالاته.
1. القرآن الكريم

أرسل الله عز و جل رسالاته للناس عبر العصور ليرتقي بهم إلى المكانة التي أرادها لبني آدم. و آخر هذه الرسالات هي القرآن الكريم الذي هو وحي من الله عز و جل لرسوله محمد صلى الله عليه و سلم. و في القرآن الكريم بين الله عز و جل للناس كل شيء عن الشيطان و طرق تأثيره عليهم، لكي لا يقعوا في مصائده و لا يؤذيهم عدو الله و عدوهم.
و يبين الله عز و جل في القرآن الكريم أن هذا الكتاب هو رحمة و شفاء للناس (سورة الإسراء (آية 82)):

{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا}
2. تشخيص الاضطرابات النفسية بهدي القرآن الكريم

من الممكن استنتاج التالي من التفكر في القرآن الكريم و سنة حبيبنا محمد صلى الله عليه و سلم:
· صوت نفس الإنسان: الصوت الذي ينطق به الإنسان هو صوت نفسه. و لهذا الصوت ذبذبة معينة تميز صوت الإنسان عن صوت غيره. و عندما يفكر الإنسان مع نفسه بهدوء فإنه يسمع الصوت الذي ينطق به في عقله. و هذا يسمى صوت نفس الإنسان و هو الصوت الذي ينطق و يفكر به الإنسان.
قرين الإنسان (شيطانه): من المعروف أيضا في الشريعة الإسلامية أن لكل إنسان قرين موكل بالإنسان من لحظة الولادة إلى الممات. و يريد هذا القرين أن يتسبب بالألم و الضلال للإنسان الموكل به. و الحكمة من أن يوكل قرين بالإنسان هو امتحان من المولى للناس ليرى فيما إذا سيجاهد الإنسان هذا القرين و يتمسك بهدى الله عز و جل.
· و لكن كيفية تأثير هذا القرين على الإنسان غير معروف لكثير من الناس و سيبين هذا البحث إن شاء الله تعالى كيفية تأثير قرين الإنسان (شيطانه) عليه.
1. الكيفية التي يؤثر بها قرين الإنسان (شيطانه) على الإنسان

يبين الله عز و جل طريقة تأثير قرين الإنسان (شيطانه) عليه بالكامل في القرآن الكريم، و هذا يمكن معرفته عن طريق التفكر في الآيات التالية:

{وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا}
سورة الإسراء (آية 64)
يعلمنا الله عز و جل أن الشيطان يخدع و يستفز الإنسان (واستفزز) بصوته. و السؤال الآن هو عن ماهية صوت قرين الإنسان (شيطانه). يهدينا الله عز و جل إلى جواب هذا السؤال في سورة الناس (آية 4):

{مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ}
يعلمنا الله عز و جل أن قرين الإنسان (شيطانه) يوسوس (أي يتحدث للإنسان) و في ذات الوقت يتخفى منه (خناس). فالسؤال الآن هو كيف يستطيع قرين الإنسان أن يتحدث إليه و في ذات الوقت يتخفى منه؟ الإجابة على هذا السؤال معطاة في ما يلي.
2. كيف يستطيع قرين الإنسان (شيطانه) أن يتحدث إليه و في ذات الوقت لا يشعره بوجوده؟

تكمن الإجابة على هذا السؤال في الآية الكريمة (آية 168) التالية من سورة البقرة:

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}
تكمن الخطوة الأولى في الإجابة على السؤال حول كيفية تحدث قرين الإنسان (شيطانه) له و في ذات الوقت التخفي منه في وصف الله عز و جل بأن الشيطان هو عدو مبين للإنسان. و يستطيع العدو أن يتسبب في عذاب و ألم كبيرين إذا أقنع الإنسان أنه غير موجود، و العدو يحقق ذلك بالتخفي من الطرف الآخر.
الطريقة الوحيدة التي يستطيع من خلالها عدو الإنسان (شيطانه) التخفي من الإنسان هي عن طريق مطابقة الشيطان لصوته مع صوت نفس الإنسان (أي مع الصوت الذي يفكر به الإنسان مع نفسه).
و بالتالي الطريقة التي يتخفى عن طريقها قرين الإنسان (شيطانه) منه هي عن طريق مطابقة قرين الإنسان لصوته من حيث النبرة، الذبذبة، اللغة، و الأسلوب لصوت نفس الإنسان الذي يفكر و ينطق به الإنسان ليوهم الإنسان بأنه عندما تأتيه فكرة تتسبب له بالضيق و الألم النفسي فيعتقد الإنسان بأنه يفكر مع نفسه بها و لكن في الحقيقة مصدر هذه الفكرة هي قرين الإنسان (شيطانه) ليتسبب له بالألم و العذاب.
1. كيف يمكنك التفريق بين أفكارك و أفكار قرينك (شيطانك)؟

يتكلم قرين الإنسان مع الإنسان بصوت مطابق لصوت نفس الإنسان فالسؤال الآن هو حول كيفية فصل صوت نفس الإنسان عن صوت قرينه؟ الجواب يكمن في تحليل الأفكار التي تحتويها الوساوس التي يسمعها الإنسان في عقله. فإذا سمع الإنسان صوتا في عقله يوحي له بأفكار فيها:
· السوء: أفكار تبعث على اليأس، الحزن، بـأنه لا معنى للحياة، وغيرها من الأفكار التي تشجع الإنسان على إيذاء نفسه (عن طريق الانتحار و عمل جروح متعمدة) و إيذاء الغير (الشتم، الغيبة، و غيرها).
· الفحشاء: أفكار فيها تصورات بذيئة و إقناع للإنسان بأن الزنا جائز.
القول على الله بما لا يعلم الإنسان: أفكار تشوه هدى الله عز و جل و تشكك الإنسان بالله و بالقرآن الكريم. بالإضافة إلى إعطاء قرين الإنسان (شيطانه) تفاسير خاطئةللقرآن الكريم و السنة. بالإضافة إلى أفكار أن الله عز و جل له شركاء في حكمه.
فإن مصدر هذا الصوت و الأفكار يكون قرين الإنسان (شيطانه) أمّا إذا سمع الإنسان صوت فيه أفكار توحي بقرب إلى الله عز و جل, مساعدة الآخرين, قول الكلام الطيّب و غيرها من الأفكار الصالحة فإن مصدر هذا الوحي هو الله عز و جل رحمة بهذا الإنسان.
كيفية علاج الاضطرابات النفسية بهدي القرآن الكريم و السنة: كيفية التعامل مع وساوس قرين الإنسان (شيطانه)؟
يهدينا الله عز و جل في القرآن الكريم لكيفية التعامل مع وساوس قرين الإنسان (شيطانه)، حيث أنه يمكن تلخيص هذا الأمر في الخطوتين التاليتين:
الخطوة الأولى: يمكن استنتاج الخطوة الأولى من آية 36 في سورة فصلت:

{وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}
حيث يعلمنا الله عز و جل أنه عندما تأتي للإنسان أفكار من قرينه فعليه أن يستعيذ بالله عز و جل من الشيطان الرجيم. و معنى ذلك هو أن يتذكر الإنسان عندما يستعيذ بالله أن مصدر هذه الفكرة هو قرين الإنسان (شيطانه) و ليس نفسه، و بالتالي لا يلومن نفسه على سماع هذه الفكرة و أن الله عز و جل لن يحاسبه عليها. و لكن الله سيحاسب الإنسان فيما إذا صدقها و عمل بها أم لم يعمل.
الخطوة الثانية: بعد الاستعاذة يجب على الإنسان تطبيق الخطوة التالية و التي يمكن تعلمها من سورة البقرة (آية 168):

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}
يعظنا الله عز و جل في هذه الآية الكريمة أن لا يتبع الإنسان خطوات الشيطان، و معنى هذا هو أن لا يوافق الإنسان قرينه على الأفكار التي يسمعها له القرين في عقله و أن لا ينفذها.
هذه التوجيهات من الله عز و جل نجدها في تعليمات محمد صلى الله عليه و سلم في الحديث الشريف التالي:
حدّثنا يحيى بنُ بُكَيرٍ حدَّثنا الليثُ عن عُقَيلٍ عن ابنِ شهابٍ قال: أخبرني عروة بنُ الزُّبَيرِ قال أبو هريرةَ رضي اللهُ عنه: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يأتي الشيطانُ أحدَكم فيقول: من خَلَقَ كذا ؟ من خَلقَ كذا ؟ حتى يقول: من خَلقَ ربَّك ؟ فإذا بلَغَهُ فَليَسْتعِذْ باللهِ ولْيَنْتَهِ». (صحيح البخاري)
و بالتالي يمكن الاستنتاج أن الطريقة الصحيحة للتعامل مع وساوس قرين الإنسان (شيطانه) هو تذكر الله عز و جل و تذكر أن مصدر الأفكار التي تحتوي على السوء، الفحشاء، و القول على الله بما لا يعلم الإنسان هو الشيطان و ليس نفس الإنسان. و من ثم يجب على الإنسان أن لا يفكر في هذه الأفكار و أن لا يدخل في حلقة شرسة من نفيها و التفكير فيها. و يجب على الإنسان أن يفكر في الأمور التي يريد هو أن يفكر فيها و أن لا تهمه وساوس و أفكار الشيطان.