هل تعاني مواردنا البشرية أزمة تفكير؟
د. عبد العزيز الغدير - الأقتصادية 27/10/1428هـ


أفصح لي أكثر من رجل أعمال ومدير سعودي عن معاناتهم مع الموظفين السعوديين حيث ارتفاع أجورهم مقارنة بالعمالة الوافدة وانخفاض إنتاجيتهم وكثرة التزاماتهم الاجتماعية وضعف مهاراتهم, خصوصا في اللغة الإنجليزية والحاسب الآلي، وقدرتهم على التفكير الابتكاري والتنفيذ الإبداعي القائم على البحث والتحليل والتشخيص والفكر.

لماذا فشلنا في حين نجح الآخرون خصوصا في دول شرق آسيا رغم ضعف إمكاناتهم المالية؟لماذا فشلنا في إنتاج موارد بشرية عالية الكفاءة تتناسب وحجم الإنفاق الهائل على التعليم والتدريب حيث من المتوقع أن تصل تكاليف تنمية الموارد البشرية في بلادنا إلى نحو 350 مليار ريال في خطة التنمية الثامنة؟ لماذا على الرغم من الإنفاق الكبير والمتراكم تتزايد العمالة الوافدة بمعدل يفوق 5 في المائة سنويا؟

يقول لي أحد أولياء الأمور سجل ابنه في كلية أهلية تتبع المنهجية الغربية في التعليم، إن ابنه يعاني معاناة شديدة من أجل اجتياز المواد المقررة، ما جعل ولي الأمر يذهب لمراجعة المسؤولين في تلك الكلية، وعند مقابلة أحد هؤلاء المسؤولين قال له لا تتضايق إنها فترة زمنية وتعدي، فابنك يعاني لأنه اعتاد في التعليم العام التلقين والحفظ، حيث عادة ما يقال له هذه الأسئلة وهذه الأجوبة احفظها!! وهو بخلاف أسلوبنا في التعليم، حيث نقول للطالب هذا الموضوع مدار البحث، وعليك أن تبحث لتصل إلى المعارف المطلوبة، أي أن على ابنك أن يفكر بدل أن يحفظ، نعم عليه أن يشغل عقله الذي استرخى واعتاد التلقي والحفظ لمدة 12 عاما، عليه أن يضع خريطة عمل يحدد من خلالها مصادر البحث, وعليه أن يقرأ ويقتطع المهم ويتجاوز عن غير المهم والمكرر، وعليه أن يربط بين المعارف الواردة من عدة مصادر ويحللها ليصل إلى المعرفة المطلوبة، وعليه أن يضع مرئياته وأفكاره حيالها، وكل ذلك جهد ذهني لم يعتده ابنك، لكن عليه أن يعتاده وينميه من خلال الممارسة.

ويضيف ولي الأمر قائلا: كم كنت سعيدا وأنا أعرف أن ابني سيصبح قادرا على البحث وعلى التحليل والتشخيص وقادرا على التفكير والمناقشة، طبعا يقول ذلك وهو يتحسر على دراسة 12 عاما أسهمت في ضمور الجزء المسؤول عن التفكير في عقل ولده المسكين الذي يمر بفترة حرجة للانتقال من مرحلة التلقي والحفظ إلى مرحلة التفكير.

ويقول لي المتخصصون في علم الاجتماع إن التنميط الاجتماعي هو الآخر له دور كبير في تدمير الجزء المسؤول عن التفكير في عقول أطفالنا، حيث يقولون إن الطفل يولد مفكرا ودليل ذلك كثرة تساؤلاته حول كل شيء، ولكننا نبادر بمنعه من ذلك بقمعه وبتحقير أسئلته وبتوجيهه للالتزام بعاداتنا وسلوكياتنا بجميع تفاصيلها دون منحه الحق في التساؤل على اعتبار أن ما نحن عليه هو الأفضل على الإطلاق، ويضيف: ولك أن تتخيل هذا الطفل المنمط بعد 12 سنة تعليم يحقن بها عقله بالمعلومات والمعارف حقنا دون منحه الحق في طرح أي سؤال خارج عن المألوف، حيث يتعرض من يسأل سؤالا غير مألوف للسخرية والازدراء فضلا عن إنقاص الدرجات.

ويقول لي جار لأحد المساجد إنه رأى من يتلف بوهية (صبغة) سيارته بمسمار حديدي فائزا في مسابقة تحفيظ القرآن ما دعاه لسؤال إمام المسجد عن كيفية فوزه رغم سوء أخلاقه، متسائلا فيما إذا كان القرآن للحفظ أو للعمل، فأجابه الإمام إننا هنا لتحفيظ وتجويد القرآن فقط، ما دعا صاحبنا هذا لتقديم مقترح لإمام المسجد حول إمكانية ربط الأخلاقيات بالآيات, خصوصا أخلاق التعامل مع الجيران، وكانت إجابة إمام المسجد أنه لا إمكانات بشرية متوافرة لدينا لذلك.

يبدو لي أن القضية واضحة وضوح الشمس، أموال ضخمة بنتائج متواضعة، حفظ وتلقين في المدرسة وفي المسجد، تنميط اجتماعي في المنزل، ماذا يعني كل ذلك؟ موارد بشرية غير قادرة على التفكير، موارد بشرية تحمل قيما سلبية ومفاهيم تتناقض تماما وقيم ومفاهيم العمل والإنتاج والعطاء والإبداع، موارد بشرية تبحث عن أكبر راتب مقرون بأقل إنتاجية، موارد بشرية تحتقر الصانع رغم أن الدول الغربية قامت على النهضة الصناعية!!

أعتقد أننا في حاجة إلى خطة وطنية استراتيجية لتأهيل الموارد البشرية بما يتناسب والمعطيات الحالية والمستقبلية، لتأهيل مواردنا البشرية لتكون موارد قادرة على المنافسة بما تمتلكه من معارف ومهارات وقدرات تفكيرية وتنفيذية خلاقة وقيم إيجابية ومفاهيم سليمة، كما أعتقد أنه آن الأوان لزيادة كفاءة الإنفاق الحكومي والخاص على قطاعي التعليم والتدريب من خلال تغيير منهجية التعليم لتحويله من تعليم ميت يقضي على العقول ويبطل مفعولها إلى تعليم حي ينشط العقول ويطلق طاقاتها التفكيرية والإبداعية.